أسلوب الاعلان عن الوثيقة الدستورية السودانية المؤقتة الذي تلا عراكا ماديا ومعنويا لمدة تقارب الاربعة شهور بعد التخلص من نظام البشير يوحي أن الترويج للخروج من المأزق السياسي فيه قدر غير يسير من التسرّع، وإذا وضعنا في الاعتبار البيئة الاجتماعية والسياسية الاقتصادية المتهالكة والخلافات الداخلية حول الخيارات الاستراتيجية الاقليمية، لاسيما تجاه مصر ودول الخليج التي تسعى لضمان بقاء السودان في التحالف ضد اليمن وإضعاف تمثيل القوى الدينية السودانية أو اليسارية المعارضة للمشاركة السودانية، فإن الوثيقة تتضمن نصوصا قابلة للتأويل وفيها قيود على حركات القوى الفاعلة.
أولا: البيئة العامة:
يعد السودان ضمن أفقر عشرين دولة في العالم، ويقع 62% من سكانه (الأربعين مليون) في دائرة الفقر، وقد أدى انفصال الجنوب لفقدان الدولة 75% من احتياطياتها النفطية وأكثر من نصف عائداتها المالية، ويقع السودان في المرتبة 172 من 180 دولة في نسبة الشفافية والنزاهة بمعدل 16%، ومعدل الاستقرار السياسي فيها هو 3.15 من عشرة وفي المرتبة 153 من أصل 163 دولة. وديونها تصل إلى 58 مليار دولار، وتبلغ الأمية 31% وتصل بين النساء إلى 50%.
ذلك يعني أن السلطة القادمة بحاجة لقدرة غير عادية لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تسبق أو ترافق التطوّر السياسي وضمان الاستقرار، وهو أمر ليس باليسير تحقيقه، ومهما كانت المساعدات الخارجية، فإن هذه المساعدات ترتبط بشروط سياسية ستزيد الأمور تعقيدا.
ثانيا الوثيقة الدستورية:
تضمّ قوى الحرية والتغيير التي وقعت مع العسكر على الوثيقة الدستورية 4 قوى هي (تجمع المهنيين، الإجماع الوطني، نداء السودان، التجمع الاتحادي)، وهذه القوى نسبة التجانس السياسي داخلها ليس كبيرا، مما يعني أن بينها خلافات ناهيك عن خلافاتها مع العسكر ستثور لاحقا عند الانتقال من المبادئ العامة للتطبيق.
ولنتوقف عند بعض بنود الوثيقة الدستورية التي يمكن أن تنبت منها موضوعات خلافات عميقة:
1 - يضم المجلس السيادي 11 عضوا من مدنيين وعسكريين (أي أنها حكومة مختلطة عسكرية ومدنية وهو أمر ينطوي على مخاطر من الناحية الفعلية)
2 - كيف سيتمّ تحقيق ما نصت عليه الوثيقة من «التوفيق بين النصوص الدستورية سارية المفعول والنصوص الجديدة المؤقتة»، وهنا سندخل في جدال حول آليات التوفيق غير المتفق عليها بعد.
3 - تنصّ الوثيقة على استمرار التعامل مع الجرائم المختلفة التي ارتكبها النظام السابق خلال الثلاثين سنة الماضية من خلال لجنة افريقية (وليس عربية؟؟)، وهذا يعني أن أطراف النظام السابق (أو من يمكن أن يصنف على هذه الشاكلة) سيعمل على عرقلة المسار بكامله، فماذا لو تبين مع التحقيق أن بعض أعضاء المجلس السيادي شاركوا في جرائم النظام السابق، فهل سيتم عزلهم، ومن سيعزلهم، ومن سيحل مكان المعزول، مع العلم أن معظم العسكريين في المجلس السيادي الجديد هم من عظام رقبة النظام السابق..
4 - أن طول الفترة الانتقالية 39 شهرا (21 منها للعسكر و18 للمدنيين) يشير إلى مسالتين هامتين، أن الثقة بين الطرفين مهزوزة بحكم التقاسم، كما أن العسكر سيبدأون فترتهم أولا، وهو أمر قد يمكنهم من ترتيب الأمور بكيفية تضيق ميدان الحركة على المدنيين لاحقا.
5 - أولويات المناطق المتأثرة بالحرب: تنصّ الوثيقة على العمل على إعطاء الأولوية للمناطق المتأثرة بالحروب، وهو ما سيفتح المجال لمسألتين: الأولى كيفية تحديد معايير الأولوية، والثانية حجم الانفاق على هذه المناطق لا سيما في ظلّ طبيعة التركيبة القبلية والمناطقية السودانية.
6 - تنصّ الوثيقة على آليات إعداد دستور جديد، وهو أمر لم يتمّ تحديده، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه للخلافات حول القوى والأفراد المشاركة وصياغة النصوص الدستورية، وكيفية الترجيح بين الاقتراحات لها.
7 - تحدّد الوثيقة بأن إصلاح الأجهزة العسكرية هو من صلاحية المؤسسات العسكرية، وهو ما يعني أن صلاحيات الفرع المدني في المجلس السيادي لا تمتد الى التدخل في شؤون المؤسسة العسكرية رغم أنها يجب ان تكون خاضعة له، بينما سيكون للعسكريين الحق في التدخل في كافة الشؤون المدنية، وهو ما يعني أن الثقة ليست متبادلة.
8 - تحدّد الوثيقة الصفة العامة للدولة بأنها «دولة لامركزية»، وفي ظلّ التجارب لهذا الموضوع في أغلب الدول النامية (وبخاصة الافريقية) ذات التنوع الديني والعرقي والقبلي، فإن هذه التقسيمات ستفتح الباب على مصراعيه عند تحديد حدود الولايات وصلاحيات المجالس المحلية.
ذلك يعني، أن أمام السودان مراحل عراك بعضها سيكون صامتا ومؤلما، وبعضها سيعرف عراكا عضويا تسيل فيها الدماء والاغتيالات ونبش النزاعات العرقية،،، وسيبقى الباب مفتوحا على التقسيمات الجديدة وعلى التدخلات الخارجية من كل حدب وصوب.. أملي أن أكون مجانبا للصواب.
هذا ما كتبته حرفيا في17/8/2019.. قبل أكثر من عامين