(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)
«سورة ص - الآية: 27»
يعتبر شهر رمضان أفضل شهر يقوم فيه الإنسان بإجراء حصيلة شاملة وليتساءل فيه عن معاني الحياة بعيداً عن ديكتاتورية الوقت وإدمان كل ما هو ظرفي، شهر الصيام هذا يعتبر كذلك تمرينا على التحكم في الذات. وسأطرح خلال هذا الشهر على القراء تساؤلا أسبوعيا حول مسائل كبرى وذات معنى ستعترضنا إنْ عاجلاً أم آجلاً.
سأحاول أن أرسم طريقا من خلال إعادة ترتيب الأولويات فيما يتعلق بهذه المسائل أمام مسألة “الموت” التي تعترضنا جميعا مدى الحياة.
من نحن؟ من أين أتينا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ وأين الله من كل هذا؟ وإذا كان الله هو خالقنا فماذا ينتظر منّا؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون؟ لقد أصبح بادياً للعيان أن “النماذج” الغربية أثبتت محدوديتها ما هو إذن سر هذه الحكمة؟ هل علينا الاكتفاء بالعدمية والنزعة الاستهلاكية التي ترعاها عولمة مصطنعة لا تجعل من الإنسان “مهما كان موقعه أو لون بشرته” جوهر البحث عن المغزى والمعنى؟
التساؤلات الكبرى، موضوع نقاش علمي
كيف خلق هذا الكون اللامتناهي الذي نعيش فيه؟ كيف تم وضع هذا التوازن والانسجام وهذا الترتيب؟ كيف تم تذليل هذه الأرض للسماح للحياة من أن تدب فيها؟ هذا النوع من الأسئلة راودت الإنسان منذ الخلق والنتائج التي وصل إليها العلماء والفلاسفة بفضل الثقافة والعقل هي الآتية: شكل ونظام هذا الكون يثبتان وجود خالق علّي يسيّر هذا الكون كله.
جاء في الكتب السماوية التي يجب أن نؤمن بها جميعا، أن النظم والتوازنات الموجودة في الكون خلق الله من أجلنا. هذه الحقيقة الراسخة لدى المؤمنين أكدها القرآن وعدد معتبر من أشهر مؤسسي علم الفلك الحديث. غاليلي، كيبلر ونيوتن جميعهم اعترف أن بنية الكون وتصميم النظام الشمسي والقوانين الفيزيائية وحالات التوازن المختلفة جاءت كلها بخلق من الله وقد توصل جميع أولئك العلماء إلى هذه القناعة بواسطة بحوثهم وملاحظاتهم.
حقيقة الخلق التي نتحدث عنها تجاهلها ورفضها المذهب “المادي” وهو مقاربة فلسفية ذاع صيتها في القرن 19. هذه الفلسفة التي أسس لها بعض قدماء مفكري الإغريق انتقلت إلى ثقافات أخرى وتم بهذا إعادة إخراجها وتدعي هذه الفلسفة أن المادة متواجدة منذ الأزل ومن هذا المنطلق فإن الكون كان موجودا ولم يخلق على الإطلاق.
بالإضافة إلى فكرة الوجود الأزلي للكون، يقول الماديون إنه ليس هناك هدف ولا غاية من وجود هذا الكون ويؤكدون على أن التوازن والانسجام والنظم الموجودة هي ثمار خالصة للصدفة. ضربة حظ هذه “الصدفة” اعتمدت كذلك لتفسير ظهور الكائنات البشرية على الأرض ونظرية التطور والمعروفة عموما بالداروينية هي نتيجة أخرى للمادية.
خلال القرن التاسع عشر حصل تغيير معتبر في الفكر العلمي حول هذا الموضوع، حيث تم إعادة المادية إلى جادة العلم الحديث من طرف مجموعات مختلفة. الظروف الاجتماعية والسياسية للقرن 19 التي مهدت الطريق لعودة المادية من جديد والفلسفة التي تقوم عليها انتشرت بشكل معتبر ولاقت قبولا لدى المجموعة العلمية.
الله يتصرف دائما ببساطة
في إطار هذا المبدإ الميتافيزيقي حاول ليبنيز تأسيس مشروعية النهاية في الفيزياء: من بين كل الرحلات المحتملة تختار الطبيعة “الطريق الأكثر يسرا”. هل يمكن لفلسفة النهائية تجاوز هذا الأساس الميتافيزيقي؟ إن استعمال مبادئ مقتصدة وبسيطة في العلم تدعو إلى التدبر في علاقة الميتافيزيقا بالعلم. هل توجد هذه المبادئ في الطبيعة أم أنها ببساطة مجرد معالم تمخضت عن النشاط العلمي؟ عند القول إن الطبيعة لا تقوم بشيء عبثا فهي بالمحصلة تتصرف وفق الطرق الأسهل وهنا نميل إلى الحل الأول.
ولنبدأ بالتذكير بالمسلمتين الماديتين المتعلقتين بخلق الكون، أولا الكون موجود منذ الأزل وبما أنه لا بداية له ولا نهاية فاإه غير مخلوق. ثانيا، فإن كل ما يتشكل منه هذا الكون ليس أكثر من مجرد ثمرة من ثمار الصدفة وليس البتة نتاج تصميم إرادي أو مخطط تنظيمي أو حتى نتاج نظرة دقيقة.
هاتان الفكرتان تم الدفع بهما بشدة إلى الأمام والدفاع عنهما من قبل معسكر الماديين في القرن 19 والاكتشافات العلمية في القرن 20 دمغهتما بل تم وأد أولى هاته الأفكار والمتعلقة بالوجود الأزلي للكون وتم منذ عشرينيات القرن الماضي إثبات خطإ هاته المسلمة واليوم تأكد العلماء أن الكون رأى النور من العدم بعد انفجار يطلق عليه اليوم اسم الانفجار العظيم “بيغ بانغ”، وبعبارة أخرى يحاول العلم أن يفسّر لنا كيف رأى هذا الكون النور بعد “حائط بلانك” أي 10-43 ثانية أو بعبارة أخرى أقل من مليار جزء من مليار جزء لمليار جزء من مليون جزء من الثانية، وقبل هذا الوقت المقدر كان شيء عجيبا بالنسبة للعلم، علاوة على ذلك فإنه لا يمكن لأحد أن يعطينا تفسيرا لذلك – ولكن هل هذا دوره ؟-
لماذا هذه السلسلة السببية للأحداث، هل يمكن اعتبار العشرات من الثوابت الفيزيائية التي حكمت ظهور الكون والحياة والإنسان وتنظيمها المحكم والعجيب دون أن نرى يد هذا المنسق العظيم، هل يمكن اعتبار كل ذلك أمرا عارضا؟ فولتير المنبهر في زمانه بجمال العالم قال: “لا يمكنني أن أتصور الساعة دون أن اشتغل ساعاتي”.
وخلال القرن العشرين سقطت كذلك الفكرة الثانية لدعاة المادية التي مفادها، بأن خلق الكون جاء وليد صدفة وليس نتيجة تصميم إرادي، فالأبحاث التي تمت على مدار خمسين سنة بيّنت بوضوح أن كل التوازنات الفيزيائية ومنها تلك المسيرة لهذا الكون بشكل عام وتلك الخاصة بالأرض التي نعيش عليها، صمّمت بدقة لتجعل الحياة عليها ممكنة. وقد بيّنت بحوث معمقة، كتلك التي قادت قوانين الفيزياء، الكيمياء، علم الأحياء وكذا القوى الأساسية كالجاذبية والمغناطيس وإلى غاية أدق تفاصيل بناء ذرات وعناصر الكون، كل ذلك جاء من أجل هدف واحد وهو توفير أسباب الحياة للإنسان.
العلم والدين: الصراع الأبدي
اليوم يطلق بعض العلماء على هذا الإنجاز الرائع “المبدأ الأنتروبي”: هذا المبدأ فحواه هو أن كل ما هو موجود في هذا الكون في أدق تفاصيله هيّئ بدقة لجعل حياة البشر ممكنة، في حين أن آخرين كـ«إميل جاك مونود” لازالوا يتمسكون بالصدفة، العلم الحديث اليوم وعلى عكس مادية القرن 19 التي تبدو ومن خلال مفكريها أنها فقدت الكثير من بريقها - وهذا شيء إيجابي - يغوص في الغرائب بالتدريج .
كيف يمكنها أن تكون غير ذلك؟ الديانات السماوية أعطت مكانة خاصة لخلق الكون فقد بين كل من الإنجيل والقرآن مراحل الخلق.
وبطبيعة الحال، فإن قراءة حرفية لا تعني العجيب بكل ما فيه وبالإضافة إلى ذلك وفي المحاولة المفرطة لجعل المعطيات الموضوعية للعلم “الحديث”- ولكن الذي يتطور باستمرار- متطابقة مع الكتابات المقدسة أدت إلى ظهور “تطابقات” والتي ستسمح تدريجيا بتطور العلم. بالنسبة للمؤمنين فإنه من الخطأ الاعتقاد أن الكون خلق عبثا وبهذا فإن الفلسفة، على غرار المادية وكذا كل النظريات القائمة عليها، كان مآلها الفشل الذريع.
ما هو الوقت؟ الوقت يؤثر فينا باستمرار نريد أن التوقف لنراه ينساب وهذا في حد ذاته مضيعة وقت نحن في خضم هذا الوقت ولا مفر. لا أحد يمكنه إيقافه. بالنسبة للعلم كيف خلق هذا الكون؟ ظهور الإنسان على الأرض هل هو محض صدفة أم تصرف غيبى؟. هل نحن وحدنا في هذا الكون؟ علينا دائما تقديم وجهة نظر العلم والحصول على “التوافق” في الكتابات المقدسة وعلينا أن نحذر في الوقت نفسه من التيار الذي يدّعي أن كل الاكتشافات العلمية موجودة بالضرورة في النصوص المقدسة، لا يجب أن ننسى أبداً أن العلم يتطور باستمرار يعود في أحكامه يعود إلى الوراء وقد يكفر بما ما يقترحه. وعليه فإنه من الخطير الدعوة إلى “التطابق” أو بمعنى آخر المغالاة في الدعوة إلى ربط كل ما هو علمي بآية مقدسة مهما كان الثمن، لأن العلم يتطور والنصوص المقدسة منزهة عن التغيير والتعديل.
في المساهمات القادمة، سنذكر في كل مرة بالمعطيات العلمية على محك النصوص الدينية. حالة كما وصفها بشكل جيد كيارايغارد: “الإيمان ليس بحاجة إلى دليل بل أكثر من ذلك ينظر إليه كعدو”.