مكانـة وسمعـة مؤسسة البرلمـان الدستوريـة فـي الدولة والمجتمـع

بقلم: شويدر عبد الحليم

إرساء دولة القانون وتكريس الديمقراطية والحكامة، وكذا احترام الحريات الفردية والجماعية وهي دولة المؤسسات، يجب أن تمر لا محالة عن طريق أخلقة الحياة السياسية والعامة وبناء المؤسسات. كما ارتبط تغير مفهوم بناء الدولة بتحول السياقات التي فَرضت بدورها المراجعة السلوكية، وكلها تهدف إلى شرح وتفسير الدور الذي تلعبه المؤسسات أو كل ما يتعلق بمؤسسة منها كبناء أو وظيفة معينة، على استقرارها وتوازنها، واستمرارها ودورها في عملية بناء الدول الجديدة او الدول المعاصرة.
على غرار مختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في البلاد، للمؤسسات الدستورية، انطلاقا من مكانتها، دور مهم تساهم من خلاله في تحقيق تنمية الوطن وازدهاره والمحافظة على أمنه واستقراره.

  إلى جانب هذه العوامل التي تسمح بتأدية واجب الحفاظ وحماية حقوق الإنسان، فإن نشاط ومهام هذه المؤسسة الدستورية ومنتسبيها دور أساسي في صيانة وترقية حقوق الإنسان، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
فعلى المستوى الوطني، يتعلق الأمر بالعمل البرلماني. فالبرلماني لابد أن يتمتع بحرية المبادرة التشريعية والعمل أكثر فيما يخص حثّ الحكومة على اقتراح ومراجعة النصوص الهادفة والمتعلقة بحماية حقوق الإنسان أو تعديل النصوص التي تقدمها السلطة التنفيذية بغرض تدعيم حماية حقوق الإنسان وتعزيزها.
من جانب آخر، للبرلماني إمكانية رفض التصويت على مشاريع قوانين تمس بحقوق الإنسان ومن الواجب كذلك وفي إطار عمله، الالتزام بضمان تعزيز وتطوير تنفيذ احترام حقوق الإنسان تجاه كل ما يمكن أن تقدمه السلطة التنفيذية من تشريعات تحدّ من أعمال حقوق الإنسان وتجسيدها على أرض الواقع.
 بالإضافة إلى ذلك، فإنه من واجب البرلماني أن يسهر على أن تكون التشريعات الوطنية موائمة مع المعايير الدولية في إطار التزامات الدولة في هذا الشأن، وأن تحتوي الحدّ الأقصى من المبادئ المنصوص عليها في المواثيق الدولية التي صادقت أو ستصادق عليها الدولة وهي التي ستصبح جزءا من التشريع الوطني.
من جهة أخرى وباعتبار النائب البرلماني الممثل الشرعي للمواطن، فإن كل برلماني يعتبر وسيطا للاستماع إلى انشغالات المواطنين وتظلماتهم، خاصة تجاه الإدارات والمؤسسات الأخرى، أو حادثة من الحوادث التي قد تمس أو تشكل عائقا في تأمين تطلعاتهم. وفي هذا الشأن، يمكن للبرلمانيين تشكيل لجان تحقيق رقابية مكملة للجان الدائمة المتخصصة وذلك قصد رصد كل أشكال انتهاكات حقوق الإنسان التي قد تحدث والعمل على صون واحترام الحقوق المكتسبة والمكفولة دستوريا.
وخلاصة القول، فإن دور البرلمان في حماية حقوق الإنسان من خلال مهمته التشريعية، يبرز بصورة فعلية عند وقوف أعضائه الذين يمثلون الشعب ومن خلال ما خوله لهم القانون من صلاحيات ومن خلال الثقة التي وضعها الشعب فيهم، أمام أي قانون من شأنه أن يهدد حقوق الإنسان أو أن يحد منها.
وأما على المستوى الدولي، وفي إطار النشاط البرلماني، هناك جانب مهم في العمل النموذجي للنواب الجدد وهي المسؤوليات الواجبة في المرافعة في المحافل والمنابر الدولية، خاصة ما تعلق بقضايا ومصالح المواطن والوطن وضرورة إشاعة صورة البلد بما يملكه من قيم ومواقف وتنفيذ التزامات الدولة، خاصة ما تعلق بالتنمية والسلام والتطور.
البرلمان والتنمية المستدامة
«إرساء السلام والتنمية المستدامة أساس مستقبل أي مجتمع”، هي الرؤية التي أكدت عليها خطة التنمية المستدامة التي تهدف الى بناء المجتمعات السليمة وتعزيز الرخاء ورفاه الناس مع حماية البيئة للأجيال الحالية والمستقبلية وكان ذلك باتفاق جميع الدول بما فيها الجزائر، فإن ذلك أصبح من الواجب على الدول ترجمة أهداف التنمية المستدامة الطموحة إلى أولويات وطنية وحشد الموارد اللازمة وبناء الشراكات الضرورية مع الفاعلين والمؤسسات أكثر استجابة وفعالة من أجل التنفيذ الفعال لمختلف الالتزامات ورصد التقدم المحرز نحو تحقيق هذه الأهداف.
كما توفر أهداف التنمية المستدامة فرصة للمجتمعات للانخراط في الحوار الشامل حول مستقبل المجتمع، وهو ما يمكن للبرلمان والبرلمانيين أداء دور فعال في تعزيز هذا الحوار وإثرائه من أجل النماء وتحقيق الأمل في مستقبل أفضل.
فبعد استعراض أهم الوظائف الأساسية للبرلمان والبرلمانيين المتمثلة في سن القوانين والتشريعات والرقابة والتمثيل وإلى جانب مسؤولياتهم الدستورية، يملك البرلمانيون فرصة لعب دور حاسم ومهم في دعم وتنفيذ أهداف التنمية المستدامة، من خلال موقعهم المنفرد الذي يعد بمثابة حلقة وصل بين الشعب والمؤسسات والهيئات القائمة على شؤونهم. كما أن تبني ورسم ووضع سياسات وسنّ تشريعات محورها المواطن، يتطلب نجاح ذلك إتباع نهج متكامل وبناء شراكات والمشاركة من خلال سياسات شاملة وفعالة وإيجاد الحلول بشأن التخطيط وإعداد الموازنات، فضلا عن كيفية إنفاق الأموال للحدّ من الفساد وتقييم أثر المبادرات على حياة المواطنين، لاسيما الفئات الضعيفة والمهمشة.
وباعتبار البرلمانيين ممثلين لمنتخبيهم، من الضرورة احترام الثقة التي منحها إياهم الناخبون وذلك بالسهر على دفع عجلة التنمية التي يكون محورها المواطنون أنفسهم وتعكس احتياجاتهم وتطلعاتهم، من خلال الدور الأساسي الذي يضطلع به البرلمان في ضمان فعالية تنفيذ الالتزامات الوطنية بشأن التنمية المستدامة وفي تمثيل الشعب بصفته جهة فاعلة في العمل التنموي. ولتحقيق ذلك، فإنه يقتضى بالضرورة، تفعيل دور البرلمان في وضع خطط واستراتيجيات لتمكينه من ربط التشريعات بالأولويات التنموية الوطنية ورفع وعي البرلمانيين حول دورهم الحاسم في تنفيذ خطة التنمية المستدامة، متابعتها واستعراضها على الصعيدين الوطني والدولي.
كما يقتضى ذلك كذلك، التعاون والتنسيق وبناء الثقة لتفعيل الشراكة بين البرلمان ومختلف الفاعلين في مجال التنمية المستدامة من مؤسسات وهيئات، بما في ذلك الحكومة والأجهزة الإحصائية والمؤسسات الرقابية والتأكيد على أهمية إشراك منظمات المجتمع المدني والإعلام وتوفير فرص المشاركة في وضع التشريعات وحملات التوعية.
الإلمام بالاتفاقيات الدولية ذات الصلة أيضا، الإلمام بالمسارات المختلفة وإيجاد آليات لتحليل التشريعات من منظور أجندة 2030 والمعايير المتصلة في هذا الشأن والتأكد من اتساق التشريعات والسياسات العمومية مع أهداف التنمية المستدامة.
البرلمان والسياسات العمومية
وانطلاقا من هذا الدور الحيوي في تحقيق التنمية الوطنية المستدامة، يتدخل البرلمان في تطوير وتقييم السياسات العامة أو العمومية من خلال مجموعة من الآليات التشريعية التي تسمح له بممارسة رقابة دائمة والتأثير على اتجاه السياسة العامة للحكومة، حيث تضفي هذه الآليات الكفاءة اللازمة على العمل البرلماني.
إذ تمثل هذه الآليات، التي يتمحور حولها النشاط البرلماني، من مختلف اللجان النيابية كهيئات متخصصة في مجال من المجالات السياسية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، ممثلة للتشكيل السياسي في البرلمان ومسؤولة عن فحص ومراجعة وتحسين محتوى التشريعات وتحليلها والإشراف عليها، بهدف ضمان تنفيذ أفضل للسياسات العامة وتيسير الاستفادة منها.
كما تعتبر مراقبة الميزانية من المهام الأساسية للهيئة المكلفة بهذا المكون، لما لها من أهمية في عملية تقييم البرامج الحكومية، بالإضافة إلى اللجان الدائمة، التي تتكفل باللوائح والتنظيم الداخلي في تحديد صلاحياتها وطريقة عملها. وهناك أنواع أخرى من اللجان التي يمكن تشكيلها داخل البرلمان، مثل اللجان الإعلانية، اللجان المخصصة والمختلطة.
إلى جانب هذه الآليات الهيكلية، هناك آليات وظيفية أخرى تشكل مؤشرات مهمة تسمح بقياس درجة استقلالية البرلمان في عمله، الهادف إلى مراقبة عمل الحكومة والسيطرة عليه ومنع أي انحراف في السياسات الموضوعة، حيث تعد الأسئلة البرلمانية (الشفوية أو الكتابية) والاستجواب والمسؤولية السياسية أدوات مميزة في أيدي البرلمانيين، وخاصة الأقلية، للتدخل في تطوير وتقييم السياسة العامة، مما يسمح لهم بتصحيح بعض السياسات وتفعيل الإجراءات الدستورية.
وفى الأخير وباعتبار المكانة التي حظى بها في التعديل الدستوري لسنة 2020، حيث أضحت السلطة التشريعية ذات معنى بفضل النخبة البرلمانية القادمة والتي ستتشكل خلال التجربة في المساهمة في صناعة القرار السياسي وصياغة القوانين والتوجهات العامة للدولة في ظل المرحلة الراهنة، التي تقتضى أن يكون مجالا للظهور ومنبعا لتكوين ثقافة سياسية جديدة تبعث الأمل لدى المواطن في بناء المسيرة الجديدة ومكسبا أساسيا في مجال الرهان السياسي ورفع التحدي داخليا وخارجيا.
إن سمعة مؤسسة المجلس الشعبي الوطني تكمن في أدائه الملفت كقوة اقتراح والقدرة على إرساء تقاليد المراقبة، المتابعة واقتراح مشاريع القوانين وجعل كل اللجان التي ستتشكل مستقبلا في مستوى ما سينيط بها، فضلا عن جدية النواب الجدد في أداء عملهم والالتزام بالتعهدات التي قدموها لناخبيهم قدر الإمكان، ذلك فقط من أجل بناء مسار برلماني وسياسي بعيدا عن الخصومات التي تحدث بين النواب أو بين النواب والوزراء والتي تصل حتى البذاءة وبعيدا أيضا عن “الشهرة” البرلمانية التي تصنع من خلال الجرأة التي تتجاوز حدود اللياقة والمشادة الكلامية ولا حتى طلب الجواز الدبلوماسي.
عامل آخر لا يقل أهمية فيما يخص سمعة هذه المؤسسة وحتى لا تكون المؤسسة الدستورية ضعيفة وغائبة أو محل شك وإثبات، يقتضى ذلك عدم انحنائها أمام مجموعات الضغط والمصالح وعدم الانسياق في اللاوضوح حول كيفية اقتراح مشاريع القوانين وفي كيفية بناء الأولويات التشريعية في كل مراحلها والمسارات التي تتخذها لتصبح مواضيع النقاش والتداول وكيفية صنع الاتفاقيات والكتل البرلمانية لتمرير قانون أو طيه أو حتى مبادلة تمرير قانون مقابل موقف سياسي أو بصفة عامة عدم لف الغموض على صناعة الشأن البرلماني وبعيدا عن التصورات السالبة التي يبنيها الناخبون عن النواب الذين كانوا وراء انتخابهم.
فالبرلمان اليوم مدعو إلى أن يشتغل على هذه التصورات، وان يعدّلها من اجل ان يعطي في السنوات القادمة معنى لمكانته وسمعته، إنما العمل المقصود اليوم هو تعزيز ثقافة العمل البرلماني وأخلقته كنهج لتعزيز الديمقراطية وللنخبة البرلمانية الجديدة، ولن يتأتى ذلك إلا برعاية النواب أنفسهم عبر تقاليد الحوكمة البرلمانية كأساس لتشكيل الهوية البرلمانية القادرة على أداء واجباتها نحو الوطن والمواطن وجعل التجربة البرلمانية غنية وملهمة.
إن البرلمان المرجو هو البرلمان الذى يكون فيه للتمثيل طابع وطني. وبالرغم الاختلافات في الآراء والمواقف والأطروحات وحتى في أساليب الطرح، فإن على الجميع ان ينصهر في الشمل الجماعي المنسجم مع قناعات ومبادئ وقيم الأمة والتاريخ وروافدها التي تصب كلها في خدمة الوطن والمواطن في كنف التنافس الشريف، النظيف والحوار الواعي المسؤول، تأسيسا لديمقراطية راقية من حيث الموضوعية والمنهجية واحترام الرأي الآخر، بعيدا عن التهريج والهيجان، وهيجان الذاتية المقيتة التي من المفروض تذوب في الذات الجماعية حتى تكون الفترة البرلمانية فترة عطاء واستقرار وتكامل مع مؤسسات الدولة العصرية الديمقراطية القوية ومع ما يصبو إليه الشعب من مستقبل واعد بالخير والنماء وبناء المؤسسات على درب الديمقراطية والعمل الصادق الذى يجب أن يسود في كامل مؤسسات الدولة وفي جميع المواقع والمستويات.
فإذا كانت عملية دخول الجزائر مرحلة التغير بحد ذاتها إضافة نوعية في مسار تجسيد دعائم وفضائل الحكم الصالح، فإن عملية بناء الجزائر الجديدة غاية يؤمل رؤية وجوب العمل من طرف جميع المؤسسات والقوى الحية الوطنية بصفة عامة ومن طرف البرلمان بصفة خاصة، من خلال التشكيلة الجديدة التي ينتظرها عمل كبير يتعلق أساسا بمراجعة وقوانين، سيما منها ذات الطبيعة القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك بغية تكييفها مع روح الدستور باعتباره أسمى قانون في الدولة الرامي إلى بناء جمهورية جديدة قوامها العدالة الاجتماعية هذا من جهة، ومن جهة أخرى ضرورة إعادة الاعتبار للعمل البرلماني الذي سيعطي زخما كبيرا للعمل التشريعي وللحياة البرلمانية في الجزائر تجسيدا للإرادة السياسية، وهو الأمر الذي يقتضي قيم النزاهة والكفاءة والالتزام التي يجب ان تتوفر في النواب الجدد حتى يتسنى لهم القيام بواجبهم على أحسن وجه في ممارسة مهامهم النبيلة وإعطاء إضافة للعمل التشريعي ليكونوا في مستوى مكانة هذه المؤسسة الدستورية، وهم يصنعون القوانين التي تستجيب لطموحات المواطنين ويعكسون طموحات وأمال الشعب الجزائري.
وفي انتظار ما ستقدمه التشكيلة البرلمانية الجديدة بالغرفة السفلى للمواطن في تحقيق التغير كمطلب حقيقي وجماعي للشعب الذى نادى به، ستكون محكا حقيقيا للدور الريادي والقيادي للنواب الجدد في مسار التغير وبناء الجزائر الجديدة والمساهمة في الجهد الوطني من أجل ان تتبوأ الجزائر المكانة التي تستحقها.
الحلقـة الثانية والأخيرة


 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024