عشرون جنرالا وألف ضابط سامي ومجنّد يهدّدون فرنسا بالانقلاب وبحرب أهلية

استدعاء يميني للعسكر لغلق ملف الذاكرة وإنقاذ «فرنسا الفرنسية»

بقلم: حبيب راشدين

قبل سنة من رئاسيات فرنسية، تعد بمعركة بين يمين ماكرون وأقصى يمين لوبين، سمحت الدولة الفرنسية العميقة بصدور بيان وقعه عشرون جنرالا وألف من الضباط السامين والضباط وصف الضباط والجنود يتوعدّون النخبة الحاكمة بحرب أهلية قادمة بين فرنسا البيضاء ومسلمي أحياء الضاحية، قد تحمل العسكر العامل على تنفيذ انقلاب يستن بنظير له جربته نفس القوى العنصرية منذ ستين سنة خلت زمن الحقبة الاستعمارية في الجزائر.
عشرون جنرالا فرنسيا من بينهم اثنان برتبة فريق و 260 ضابط سام برتبة عقيد، ومقدم، ورائد، وأكثر من ألف ضابط وضابط صف وجندي متقاعد، وقعوا على «بيان» حذّر النخبة السياسية الفرنسية الحاكمة وفي المعارضة من خطر « تفكك فرنسا»، بل حذروا من «حرب أهلية وشيكة» قد تضطرهم إلى دعوة زملائهم من العسكر العاملين إلى التدخل لأداء «مهمة خطرة، حفاظا على القيم الحضارية وحماية مواطنينا فوق التراب الوطني» في حال ما لم يتخذ أي إجراء لوقف مسار التفكيك الجاري، بحسب البيان.
البيان الذي أثار هلعا داخل الطبقة السياسية الفرنسية ومنها الأحزاب اليسارية على وجه التحديد، نشر على صفحات المجلة اليمينية « فالور أكتيال» بتاريخ 21 أفريل، ويذكر الفرنسيين بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت منذ 60 سنة ضد الحكومة المدنية من نفس القوى اليمينية داخل المؤسسة العسكرية، ويأتي سنة قبل رئاسيات فرنسية مرشحة لمعركة فاصلة بين اليمين التقليدي بقيادة ماكرون، واليمين المتطرف بزعامة ابنة جان ماري لوبين التي سارعت إلى تثمين البيان، بل وإلى دعوة الموّقعين عليه إلى الانضمام «للجبهة الوطنية»، خاصّة وأن صلب البيان تقاطع في أهم فقراته مع الخطاب اليميني المتطرّف المعادي للمهاجرين وللمسلمين، والذي حمل في متنه النخبة الحاكمة مسؤولية جر فرنسا إلى حرب أهلية بتقاعسها في الدفاع، عما أسماه  بـ «القيم الوطنية» وتساهلها مع « الفئوية» و» العرقية» ومع الترويج لخطاب «معادي للكولونيالية» مع إهانة الرموز الوطنية، والاعتداء المتكرّر على «نصب وتماثيل للأمجاد من العسكر والمدنيين».

اتهام أهل الضاحية من المسلمين باختطاف جزء من جغرافية فرنسا

غير أن أبرز جزء من البيان قد خصص لرصد «عوامل التفكيك المرتقب لفرنسا» على ٍرأسها «الإسلاموية وجحافل أحياء الضاحية» والتي يقول البيان إنها: « تقود إلى فصل أجزاء من جغرافية الوطن وتحويلها إلى أراضي خاضعة لمعتقدات متعارضة مع دستورنا»، ولأجل ذلك يدعو البيان أولائك « الذين يقودون بلدنا، إلى البحث عن قدر من الشجاعة قصد استئصال هذه التهديدات بالتطبيق الصارم للقوانين الجارية «، ليذكر القادة بأن «أغلبية من المواطنين قد ضاقوا ذرعا بهذا التقاعس الآثم».
البيان ختم بتهديد صريح بالدعوة إلى ما يشبه « الانقلاب العسكري» حيث توّعد البيان النخبة السياسية ـ في حال استمرار تقاعسها في مواجهة هذه التهديدات ـ بأن «حالة الانسياب واللامبالاة سوف تعمّ المجتمع، وتقود في النهاية إلى الانفجار، وإلى تدخل رفاقنا العاملين في عملية خطرة من أجل حراسة قيمنا الحضارية وحماية مواطنينا عبر التراب الوطني» ثم يختم: « وكما ترون فإن الوقت لم يعد للتسويف، وإلا فإن حربا أهلية هي التي سوف تنهي هذه الفوضى المتنامية، وسوف تتحمّلون أنتم وزر ضحاياها بالآلاف».

هلع وفزع في أوساط اليسار ومباركة من اليمين المتطرف

صدور البيان في هذا التوقيت، حرك المياه الراكدة في أقصى يمين الخارطة السياسية الفرنسية إلى أقصى يسارها، فيما تأخر رد فعل الرئاسة الفرنسية والحكومة، سوى من بيان باهت، جاء متأخرا من وزيرة الجيوش الفرنسية،  فلورانس بارلي، التي اكتفت بالقول: «إن الجيوش ليس من مهامها المشاركة في الحملات الانتخابية، بل الدفاع عن فرنسا» وقُرئ تصريح الوزيرة كردّ فعل على خطاب التأييد للبيان الصادر عن مارين لوبين مباشرة بعد صدوره على نفس صفحات مجلة « فالور أكتيال».
كانت زعيمة التجمع الوطني  مارين لوبين قد ثمّنت البيان بكلام داعم، مدح شجاعة الموقعين على البيان، جاء فيه على الخصوص: «إن مبادرتكم ـ النادر مثلها في المؤسسة العسكرية ـ تشهد على مستوى قلقكم حيال التدهور المقلق للوضع في بلدنا، وأن تشخيصكم الصادق، وبتلك العبارات القوّية، تعتبر استدعاء عموميا لا يمكن لأحد أن يتجاهله» لتضيف: «غير أن الاستجداء لا يكفي لتحرير النظام من عاداته الآثمة.. وأني بصفتي كمواطنة، وكامرأة سياسية، أِؤيد تحليلاتكم وأشاطركم فجعكم، ومثلكم أعتقد أنه من واجب جميع الوطنيين الفرنسيين ـ كيفما كانت مشاربهم ـ أن يهبوا من أجل التصحيح، بل ومن أجل سلامة البلاد».
ولأن زعيمة التجمع الوطني قد رأت في بيان العساكر فرصة سانحة لتعظيم حظوظها في الرئاسيات القادمة أمام ماكرون، فقد أضافت لبيان العسكريين بعدا إيديولوجيا له صلة بما أسمته « تفكيك التاريخ الفرنسي» كبعد ثقافي وحضاري لما وصفه البيان بتفكيك فرنسا «كدولة وإقليم» قبل أن تلفت انتباه الموقعين إلى أن التصريحات الأخيرة للرئيس ماكرون حول مشروع «إعادة بناء تاريخ فرنسا» تثبت لنا أن هذه الانحرافات ليست وليدة لحظة تيهان، بل هي جزء من توجه سياسي تحركّه اعتبارات إيديولوجية مفسدة بالضرورة»، ولأجل ذلك أضافت زعيمة التجمع الوطني: «فإني أدعوكم للالتحاق بنا ومشاركتنا في المعركة المفتوحة».
غير أن مارين لوبين كانت جد حذرة حيال الفقرة الأخيرة من البيان، التي شكلت دعوة صريحة من الموقعين (ومنهم عشرون جنرالا وأكثر من 200 ضابط سام) لزملائهم من الضباط والجنود العاملين للتحرك فيما يشبه الانقلاب، على منوال محاولة نظرائهم في الحقبة الاستعمارية، منذ ستين سنة خلت، وفضلت دعوتهم إلى المشاركة في محاولة التغيير بالطرق الديمقراطية، وتمكين البديل اليميني من الوصول إلى رأس الدولة، في ما يشبه الرفض المسبق لأي اتهام قد يوجّهه خصوم التجمع الوطني لمرشحتها مارين لوبين «، بدعم نداء صريح يدعو إلى الانقلاب العسكري».

«ريميك» مبتذل يهدّد بالانقلاب العسكري لإنقاذ فرنسا الفرنسية

ستون سنة بعد محاولة عسكر فرنسا الانقلاب على الحكومة المدنية، بتحالف بين قادة عسكر الاحتلال وقيادات مدنية لمجتمع الأقدام السود، تتجدّد هواجس قوى اليسار الفرنسي من فرضية أن يحصل تقاطعا بين اليمين المتطرف بقيادة التجمع الوطني لمارين لوبين، وبين قيادات وازنة داخل المؤسسة العسكرية تنتمي في العادة لليمين، بل وحتى لليمين الراديكالي، لا يبدو أنها متناغمة مع الرئيس ماكرون، خاصة حيال ما أبداه من خطوات ـ ولو على استحياء ـ في اتجاه «مراجعة تاريخ فرنسا المعاصر» بما فيه من جرائم ضد الإنسانية قد تطال بالضرورة المؤسسة العسكرية، وقد تكون هي من عطّلت مؤخرا تحريك المياه الراكدة في العلاقات الجزائرية الفرنسية، لا من جهة الاعتراف بجرائم الاحتلال الفرنسي، ولا من جهة تسليم الأرشيف، أو التعاون في معالجة تبعات التجارب النووية الفرنسية بالجزائر.
ومع التسليم بمحاولة الحكومة الفرنسية، عبر تعقيب وزيرة الجيوش فلورانس بارلي، التهوين من مضمون بيان وقّع عليه أكثر من عشرين جنرالا، ومئات من الضباط السامين من الأسلحة الثلاث، واعتبرته «محض محاولة للتأثير في حملة الرئاسيات»، كما حاولت مارين لوبين صرف الموقعين عن فكرة تحريض المؤسسة العسكرية ضد المؤسسات المدنية، ودعتهم إلى دعمها كمواطنين لتحقيق التغيير بطرق حضارية سلمية، فإن الطرفين المتنافسين على رئاسة الجمهورية، مطلع العام القادم، متهمان بمحاولة توظيف المؤسسة العسكرية لدعم خطابهم وبرامج حكمهم، التي بدأت تتقاطع في أكثر من موطن.

استدعاء يميني للعسكر لغلق ملف الذاكرة وتزكية مجتمع «الأبارتيد»

فرئيسة التجمع الوطني قد تجد في مثل هذه المواقف، بل وفي التهويل الذي حمله البيان، فرصة لدعم خطابها التقليدي ضد المهاجرين، وتحديدا ضد الجالية المغاربية والجزائرية منها على التخصيص، وقد اتخذ منها البيان أحد أهم العوامل التي «تهدّد بتفكيك فرنسا واختطاف أجزاء من جغرافيتها خارج سلطة قوانين الجمهورية» وإخضاعها لسيطرة قيم متعارضة مع قيم «الحضارة الفرنسية» وبتثمينها للبيان، إنما تريد مارين لوبين أن توهم الرأي العام الفرنسي أنها تتقاسم نفس القيم، ونفس التحليل، ونفس المخاوف التي لدى قطاع واسع من المؤسسة العسكرية، بما يؤهلها ـ بحسب ظنها ـ للحكم دون خوف من أي صدام مستقبلي مع المؤسسة.
من جهته قد يكون الرئيس ماكرون، أو على الأقل جزء نافذ من حاشيته، بحاجة إلى صدور مثل هذا التحليل من قيادات عسكرية بارزة، احتلت إلى وقت قريب مسؤوليات عالية في المؤسسة العسكرية، تحليلات قد تثمن كثيرا من القوانين والإجراءات التي اتخذها طوال عهدته الأولى وحتى وقت قريب، كانت موّجهة في أغلبها لقمع المجتمع المسلم في فرنسا، والتضييق على مجتمع أحياء الضاحية من أبناء الجالية المغاربية، وربما يكون بحاجة إلى تكثيف مثل هذا الخطاب المعوّق لأي انفتاح فرنسي في ملف مراجعة التاريخ الكولونيالي الفرنسي، ليسوّقه مع شركائه في الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط، كضغوط متنامية تمنعه بالضرورة من المضي أبعد مما خطاه حتى الآن في ملف الذاكرة مع الجزائر.
  جاء الرد المتأخر لرئيسة الجيوش الفرنسية على البيان، وتحت ضغط زعماء أحزاب اليسار، بمحتوى باهت، وبشكل غير رسمي، ليضيف بعضا من الشكوك حيال التوظيف المحتمل لهذه الحركة من ضباط كبار في المؤسسة العسكرية الفرنسية، قد يعبرون بشكل ما عن «رأي غالب داخل المؤسسة» وقد كان بوسع الاستخبارات الفرنسية متابعة هذا النشاط ووأده في المهد، لو لم تكن ثمة رغبة في ظهور مثل هذا الخطاب، وبهذا التهديد المبطّن بـ «حرب أهلية تهدّد فرنسا وربما بانقلاب عسكري» إن لم تمرّر السياسات اليمينية التي طغت في السنتين الأخيرتين على قرارات الرئيس ماكرون، كما لا يمكن استبعاد توظيف ماكرون مثل هذا البيان، كورقة ضغط وتهديد في علاقاته مع القيادة الجزائرية الجديدة المتهمة فرنسيا بـ « التزمّت الوطني المفرط»،خاصة وأن البيان حمل في صلبه تشخيصا لـ « العدو المتربص بوحدة فرنسا المهدّد لقيمها» من مجتمع أحياء الضاحية، ومن المواطنين الفرنسيين من أصول مغاربية مسلمة، وكأن التخويف بحرب أهلية، إنما تعني بوضوح حربا بين «فرنسا البيضاء المسيحية» وجاليتها المسلمة، وأغلبها من أصول جزائرية.

إجماع فرنسي على استعداء المجتمع الفرنسي المسلم

ولأجل ذلك لم تتعرض وزيرة الجيوش الفرنسية لمضمون البيان، الذي يستبطن استعداء واضحا للجالية المسلمة ولسكان أحياء الضاحية، بقدر ما شجبت فقط «انخراطا آثما للعسكريين في حملة انتخابية»، كما لم تنتقد بيان زعيمة التجمع الوطني بما حمله من تثمين للبيان، سواء من جهة توصيف العوامل المهدّدة لفرنسا بالتفكيك، ولا حتى من جهة هجومها على ما وصفته بـ «محاولة ماكرون تفكيك التاريخ الفرنسي» واكتفت وزيرة الجيوش الفرنسية بشجب محاولة مارين لوبين توظيف البيان لصالح حملتها الانتخابية.
نفس الموقف طغى على بيانات أحزاب اليسار، الذين  لم يستوقفهم سوى ما استبطنه بيان الجنرالات من تحريض مؤسسة الجيش على الانقلاب على الحكم المدني، ولم يلتفت لا ميلونشون ولا هامون إلى محتواه العنصري، الذي جعل من مسلمي فرنسا «حمّالة حطب حرب أهلية قادمة بين فرنسا البيضاء المسيحية وفرنسا المسلمة» تماما كما فعلت الطبقة السياسية الفرنسية، منذ ستين سنة، حين استنكرت محاولة الانقلاب العسكري، بوصفه انقلابا على الشرعية، وتجاهلت بعده الكولونيالي الرافض لضياع ما كان يصفه الجميع بـ «الجزائر الفرنسية» ليجد له اليوم سواء عند اليمين أو اليمين المتطرف وحتى الوسط واليسار، عنوانا شبيها يدعو لإنقاذ « فرنسا الفرنسية» بنفس أدوات العزل العنصري التي مارسها المجتمع الكولونيالي وقادة مجتمع الأقدام السود.
ما يُحمد لبيان وقّع عليه أكثر من ألف عسكري، منهم عشرون جنرالا من قادة الجيوش الثلاثة، أنه كشف حجم استشراء الخطاب والمعتقدات اليمينية العنصرية المتطرفة تجاه المسلمين في المجتمع الفرنسي، وأن ظاهرة لوبين والتجمع الوطني ليست استثناء، أو محض ظاهرة هامشية، بل هي متأصلة في المجتمع الفرنسي المدني منه والعسكري، يتقاسمها على العلن حزب يميني أصولي، بات اليوم أقرب إلى انتزاع موقع الرئاسة الفرنسية، وجنرالات برتبة فريق من أمثال كريستيان بيكمال من اللفيف الأجنبي، وجيل باري من المشاة، وميشال جوسلان من البحرية، وإيريك شامبوازو من الطيران، ومعهم مئات من الضباط السامين في الجيوش الثلاث، قد شهدت لهم مارين لوبين أنهم يحملون نفس أفكارها وتحليلات ومواقف حزبها، ثم لا يجدون من بين صفوة الطبقة السياسية الفرنسية، بجميع أطيافها، من يعترض على مواقفهم العنصرية المعادية للإسلام، المتهمة لشريحة واسعة من المواطنين الفرنسيين من ملة غير المسيحية.

التفكير في حماية جاليتنا من تداعيات حملات « إنقاذ فرنسا الفرنسية»

وما كان لنا أن نلتفت لهذا البيان، الذي قد يعتبره بعضهم شأنا فرنسيا محضا، لولا أنه يستبطن استعداء صريحا لجالية واسعة من مسلمي فرنسا، وعلى رأسها الجالية الجزائرية، في سياق تاريخي متأزم يعد بانحسار القوى الديمقراطية الفرنسية في الوسط واليسار، وبداية تشكل فكر مهيمن يميني، عنصري، متطرف، من بقايا اليمين التقليدي المتراجع، ومن قوى اليمين الأصولي المتنامي على خلفية أزمات فرنسا المركبة في الداخل، وانحسار نفوذها في حديقتها الخلفية بمستعمراتها القديمة في شمال إفريقيا، والساحل، وغرب إفريقيا، مما يوجب على حكوماتنا، على الأقل في المغرب الكبير، بداية التفكير منذ الآن في سبل حماية جاليتنا من تهديدات قد لا تختلف كثيرا عما حصل للمسلمين على يد الطغمة القشتالية المسيحية، منذ سبعة قرون خلت.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024