لا تعالج المنهجية الإسلامية قضية المعايير الأخلاقية من منطلق المتعة الذهنية، ولا تقتصر أهدافها فقط على تصويب المنهج أو مجرد تنقيح طرق التمحيص والتدقيق كما فعل العلامة ابن خلدون، أو توجيه المنهج حتى يلائم الحركة الإصلاحية كما فعل ذلك في إطار وضعي أوجست كونت وأضرابه، بل إن المعالجة المنهجية الإسلامية تهدف إلى الجمع بين طرق تحري الحقيقة في العلم وتحقيق المصلحة الاجتماعية في آنٍ واحد.
وإذا كان الواقع الاجتماعي العربي الإسلامي يموج بتغيرات وتيارات متعددة في شتى جوانب الوجود الاجتماعي؛ فإن الذي يجمع بينها جميعًا في أسمى المراتب التيار الفكري الإسلامي، وفي أدناه حالة التخلف بدرجاته المتفاوتة بين قطر وآخر.
ولا نعني بالتخلف مستوى التدني الاقتصادي فقط، بل الجدب الاجتماعي والسياسي والأخلاقي أيضًا. وإذا كان العالم الإسلامي يعيش منذ أمد بعيد في حالة تخلف حضاري؛ فإن ما يتربع على قمة هذا التخلف هو التردي العلمي والتقني، والجمود والبطء في حركة الاجتهاد إزاء قضايا الدين ومستحدثات الحياة.
ويرتبط ما سبق وجوبًا بنموذج التبعية الاقتصادية والفكرية والتقنية، فإذا أرادت الأمة كسر قيود التخلف فلا مفر من حركة إحياء للمعرفة والعلم. ولن يحدث ذلك إلا باستنفار لمشروع نهضة علمية أو ثورة معرفية تبدأ بالقضاء على الأمية، والارتقاء بمستوى التعليم، ونظم حفظ المعلومات، وتوظيف المعرفة، وتسخير التقنيات الصناعية والزراعية والتربوية. ولن يتحقق ذلك إلا بإرساء قواعد البحث العلمي وتنشيط حركته في المجالات الطبيعية والإنسانية على قدر سواء. وإذا كان للعلم ضوابطه وقواعده المنهجية فإن هذه الضوابط – في نفس الوقت – يحيط بها وتحرسها المعايير الأخلاقية.
وتتبنى الدراسة الراهنة قضية مؤداها أن منهجية لبناء الصرح العلمي للأمة العربية الإسلامية لا بد أن تنتمي بالضرورة للسياق الحضاري الإسلامي الذي أثمر في عهود الإسلام الأولى تراثًا علميًّا رصينًا استرشد به العلم في وضعه الحديث، وأن المنهجية الإسلامية بمعاييرها الأخلاقية التي تنبثق من أصول الإسلام ومبادئه، وأيضًا من خبرات علماء المسلمين الأوائل لها نشأتها وتطورها وتجاربها في خضم المعارف الطبيعية والعلوم الدينية، فإذا كانت المدنية الغربية الحديثة قد استنارت بمعالم المنهجية الإسلامية فمن باب أولى يجب أن نستنير نحن بها نحو طريق المعرفة.
وإذا اتفقنا على أن مناهج الفكر ونوعيات النظم والمذاهب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا يمكن أن تنعزل عن الإطار الحضاري للمجتمع وتاريخه -كما نشاهد في عالمنا اليوم- فإن منهجية البحث ينبغي أن تلائم الأوضاع المادية والحالة العقائدية الإيمانية في مجتمعها؛ فتربط منذ نشأتها وتطورها بين الإيمان بالله والمعرفة والعلم في أساسها المنقى والاستقرائي، وتحيط هذه المنهجية بمناهج الاستدلال العلمي من ناحية، ومنهج الاستدلال على إثبات وجود الله وحكمته من ناحية أخرى، حيث يقول تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (فصلت: 40).
ولا يقصد بالإطار الحضاري لأمة من الأمم مجرد الطلاسم والرموز والفنون والآداب والمنشآت التي أسستها والتي تميزها عن غيرها في الملامح الخارجية، إنما يقصد به -أي الإطار الحضاري- المضمون الفكري الذي تبنته هذه الحضارة واعتقدت فيه لدرجة الإيمان والتضحية من أجله، ويُقصد به -أيضًا- المنهج العقلي أو أسلوب التفكير الذي اختطته لنفسها لإرساء القواعد الحضارية.
وإذا قارنا بين عدة حضارات متمايزة فإننا نجد أن القاسم المشترك الذي نراه في نماذجها هو الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس، وفي رفض ما يرفضونه، وهذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده قد يتبدى في صور تختلف باختلاف العصور، ومن ثَم نجد أن الاحتكام إلى العقل هو الأساس الذي تقام عليه الحضارات حينما قامت، وبغيابه تؤول إلى الانحدار.
ولا يعني الاحتكام إلى العقل فصل الإيمان بالله عنه. فإذا كان هذا الإيمان تذوقًا وإحساسًا قلبيًّا ووجدانيًّا فإنه يندمج بالفكر أو العقل ولا ينفصل عنه؛ ولذلك تمايزت حضارات عن غيرها لارتكازها على قواعد إيمانية تغلغلت في طرائق وتفكير أهل هذه الحضارات.
المنهجية الوضعية الإسلامية
وتختلف المنهجية في إطارها الوضعي عنها في الإطار الإيماني الإسلامي. فالمنهجية الوضعية في حضارة الغرب ارتكزت على فهم جزئيات الحياة بالعلوم والقوانين التي تفسِّر وقائع الطبيعة والاعتماد على الاختبارات المعملية للتوصل إلى المعرفة التي تضع حدودها في إطار الفهم الجزئي للوجود.
أما المنهجية في الإطار الحضاري الإسلامي فتجتاز حدود المعرفة في إطار الفهم الكلي للوجود. فالإسلام يحيط بفهم كليات الحياة؛ وذلك لأنه يفسرها تفسيرًا شاملاً طائلاً الأبعاد النهائية كالموت والولادة. وتضع المنهجية الإسلامية في اعتبارها الاختبارات الوجدانية بالحدس كأحد مقومات المعرفة الإيمانية التي تجاوز القصور في المعرفة الوضعية. ومن ثَم نجد أن المنهجية الإسلامية تعالج نوعي المعرفة: العلمية والإيمانية، وينعكس ذلك في اتخاذ الإسلام وتعاليمه منهجًا للحياة التي تخضع لقوانين وسنن طبيعية سخَّرها الله لخلقه؛ وبذلك تتمايز الحضارة الإسلامية في جمعها بين البعدين المادي والروحي في منظومة حضارية واحدة.
وإذا كانت المنهجية قد ارتبطت بالإطار الحضاري؛ فإن ربطها بمذهبيّات هذه الحضارة أوثق وأشد، وهذا ما يؤدي إلى تطويع منهج التفكير لتحقيق الغايات المذهبية التي تدعو إليها وتبشر بها، ولا يقتصر ذلك فقط على الحدود النظرية للمنهج؛ بل يمتد إلى المنهجية التطبيقية لنتائج العلم، وهو ما أدى إلى تسخير هذه النتائج للمصالح المذهبية، وغالبًا ما يصطدم هذا التسخير بالمعايير الأخلاقية والإنسانية المصطلح عليها، ولكنه يجد في نفس الوقت مبررات انتهاك قواعد الأخلاق تحت راية حماية الحرية أو السلام. والأمثلة على ذلك كثيرة، وأقربها تكريس التفرقة العنصرية والفصل العنصري وفرض الهيمنة العسكرية والاقتصادية من قبل الرجل الأبيض باعتباره رمزا للحضارة الغربية المتفوقة.
وقد أصبحت قضية تأثر منهجية البحث باختلاف المذهبيات من القضايا التي كثر فيها الجدل، خاصة في نطاق منهجية العلوم الإنسانية، إلى الحد الذي أطلقنا عليه في دراسة سابقة بالقهر الأيديولوجي أو المذهبي الذي يؤثر في نماذج البحث التصورية، وما يتبع ذلك من تباين في طرائق البحث لنفس القضية أو المشكلة المطروحة دراستها، وأيضًا اختلاف المقاييس والنتائج، وما يترتب على ذلك من مفارقات في السياسات الاجتماعية ونماذج التخطيط.
مقارنات منهجية
ويُضرب في ذلك عديد من الأمثال في مجال تفسير ظواهر الجريمة والانحراف؛ حيث تعدَّدت لاختلاف الإطار المرجعي أو التصوري الذي يطل بها عالم الجريمة على المشكلة، وكذلك نظريات التزايد أو النمو السكاني. فثمَّة فارق وبون شاسع يبن معالجة المالتوسية والماركسية لنفس الظاهرة، ولا يقف الحد عند اختلاف كل من الاتجاهين في المصطلحات والافتراضات، بل في القيم التي يتبناها كل اتجاه، فقد جمعت المالتوسية بين البروتستانتية المحافظة التي تؤكد على الاستقلالية والعمل الجاد والمنطقية والوضعية. أما قيم الماركسية فإنها تجسِّد شر الرأسمالية التي تؤذي الجماهير لحساب فئات محدودة؛ لتؤكد في النهاية أن حل هذه الشرور بالتحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية. والواقع أن كلاًّ من الاتجاهين لا يطرح افتراضات لها وجودها الواقعي في العالم الإمبريقي التجريبي، بل لها الأحكام القيمية التي تهدف إلى وجوب تحقيقها.
وإذا واجهت المنهجية الإسلامية نفس المشكلة )تزايد السكان( فإن المنطلق التصوري لها مستمد من مواجهة المشكلة بالعمل الجاد المستمر والتخطيط للإنتاج والادخار وترشيد الاستهلاك، وذلك من وحي الآية الكريمة في سورة يوسف «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ» (يوسف: 47).
المنهجية والقيم
تذخر العلوم الإنسانية والاجتماعية بنماذج فكرية متضاربة وتفسيرات متناقضة لنفس الموضوعات والمشكلات. وتقود هذه النماذج وما تتضمنه من قيم إلى تحميل النتائج تفسيرات الأهداف المذهبية، وأيضًا مصالح الفئات أو الطبقات أو الشعوب الغالبة أو المسيطرة. وهذا ما حدث عندما زعموا انخفاض مستويات ذكاء الملونين وارتفاعه بالنسبة للبيض تدعيمًا لنزعات التمييز والفصل العنصري.
وقد تمخَّض اتجاهان إزاء مشكلة القيم التي شككت في مستوى موضوعية العلوم الاجتماعية؛ فإما أن تُكبَت القيم وأن يتركها الباحث متحررًا منها، وإما أن نُقرَّ بوجودها في سياق منهجية البحث سواء بإرادتنا أو بدونها، ويرى أصحاب هذا الاتجاه استحالة عزل أو فصل القيم عن عملية اختيار مشكلة البحث أو تطبيق نتائجه.
ولقد تأثرت منهجية البحث الاجتماعي بمجرد الإقرار بفاعلية القيم؛ وهو ما جعل أصحاب هذا الاتجاه يفضلون استخدام المناهج الكيفية أكثر من المناهج الكمية؛ رافضين الاحتذاء بالنموذج الوضعي في العلم الاجتماعي والالتزام بحبكته المنهجية المطبقة في العلوم الطبيعية. ويطلق على هؤلاء أصحاب الاتجاه الإنساني أو الكيفي.
موقف المنهجية الإسلامية
لا يعاني من يتبنى المنهج الإسلامي -في إطار التصور القرآني- من أزمة صراع قيمي إزاء إشكالية العلوم الإنسانية، سواء فيما يتعلق بمنهجية البحث، أو بقضية الموضوعية التي يؤثر فيها إلى حد كبير الإطار التصوري أو المرجعي للباحث؛ وذلك لوجود عدة خصائص مرتبطة بطبيعة التصور القرآني، وتلك الخصائص منها ما هو أخلاقي، ومنها ما هو تشريعي، وهي كالتالي:
أ – الفطرة والتنزيل: فالعمل العلمي الاجتماعي قد سبقه المنظور الإيماني، حيث إن الفطرة الكونية غير مصنوعة من بشر، بل نزل بها الوحي على الأنبياء والمرسلين حتى يصححوا ما شاب الفطرة من الإيمان بالزيف والتضليل. ويعتبر هذا التصحيح تنزيلاً يتعلم به البشر منهج التأمل والتفكير وما يمكن أن نسمّيه بمصطلح القرآن الكريم [تحري الرشد]. وأقرب الشواهد المنهجية إلينا تلك المحاورة الكونية التي أجراها الخليل إبراهيم عليه السلام: «فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين» (الأنعام: 75 – 78).
وتستمر الشواهد المنهجية لتجربة الشك المعرفي الذي طاف بفكر الخليل إبراهيم عليه السلام ليزداد إيمانًا ويضرب لنا المثل بالتجربة الإعجازية لكيفية إحياء الموتى: «قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعيًا» (البقرة: 26). وقد نستخلص من هذا التصور القرآني نموذجًا منهجيًا وهو الاحتكام إلى الفكر الإيماني من خلال المحاورة الاستقرائية للواقع الكوني.
ب – تحري الرّشد والحق: وإذا عدنا إلى الفطرة نجد أن الله سبحانه وتعالى قد زّود الإنسان بخصائص وهبات عقلية تمكنه من إعمال فكره، كإدراكه للبدهيات، ومبدأ عدم التناقض الذي يمكِّن من استنباط الأفكار، ورفض العقل الجمع بين الخطأ والصواب، أو الجمع بين الحق والباطل في آنٍ واحد.
إن ضوابط الفكر هذه هي في نفس الوقت معايير أخلاقية في منهجية البحث. ولا يقف الأمر عند فطرة الإنسان أو ما اكتسبه من قدرات عقلية، بل يهديه التنزيل إلى فريضة التفكير أو تحري الرشد والحق معًا، وهو ما نطلق عليه منهجية البحث. وقد طرح القرآن أسس هذه المنهجية التي كانت منطلقًا لعصور التنوير الإسلامي في الفقه والدين والعلوم والفنون.
الحلقة الأولى