نمـوذج: الجزائـر قبـل وبعـد التّحريـر
السّيـادة: المفهـوم وجـذوره التاريخيـة
اٌرتبط مفهوم ومصدر وصلاحيات السيادة الوطنية بنشأة الدولة الوطنيّة وأفكار عصر الأنوار التي يعتبرها بعض المؤرخين منطلق الحداثة في أوروبا، وتقلّص السلطة التيوقراطية المطلقة وباباوات الكنيسة طوال القرون الوسطى الأروبية.
وجد المهتمون بهذا المفهوم من الناحية الفلسفية والقانونية ثروة كبيرة في تراث الفلسفة الهيلينية (الإغريقية) والإمبراطورية الرومانية، وقبلهما في ألواح حامورابي في بلاد ما بين النهرين (العراق) والأنظمة المطبقة في الامبراطوريتين الصينية والفارسية.
وقد اٌهتمّ بمفهوم السيادة الوطنية ومصدرها وصلاحياتها فلاسفة ومنظرون، بقي لهم تأثير كبير في صياغة الدساتير والتشريعات في كثير من بلاد العالم، نذكر منهم على سبيل المثال مونتسكيو (montesquieu 1689-1755 ) في دراسته الموسوعية بعنوان روح القوانين (l’esprit des loi) ج.ج. روسو J.J.Rousseau1712-1778، وخاصة في دراسته الشهيرة العقد الاجتماعي (Le contrat social)، وقبله رواد التجريبية الحسية في بريطانيا ومنهم جون لوك J.Locke 1632-1704 وديفدهيوم (D.Hume 1711-1776 ).
من التعريفات المعتمدة اليوم في القانون الدولي، ما اٌقترحه الفرنسي لويس لوفير (L.Lefur) في نهاية القرن 19، ومؤداه: أن الدولة السيدة هي التي تدير شؤونها وتأخذ قراراتها بإرادتها الذاتية، في إطار المبادئ العليا للقانون، وبناء على الهدف الجماعي المطلوب منها تحقيقه، ويشير هذا التعريف إلى معيارين:
أوّلهما: أنّ الإرادة الذاتية لممارسة السيادة تعني أيضا الحق في تقرير المصير، وهو ما كافحت من أجله كثير من شعوب العالم الثالث، وقدّمت الجزائر تضحيات جسيمة حتى 3 جويلية 1962 لإجبار العدو الكولونيالي على قبوله، ولا يزال الشعب الفلسطيني المظلوم يناضل من أجله منذ 1948، في مواجهة الصهيونية العالمية وحلفائها وراء الأطلسي وعلى ضفته الأخرى، فضلا عن المتواطئين سرا وعلنا خوفا أو طمعا فيما يمكن أن يعود عليهم من أرباح في صفقات مشبوهة، والجزائريون شعبا ودولة مع فلسطين كما قال الرئيس المرحوم هواري بومدين ظالمة أو مظلومة، وهي في أغلب الحالات مظلومة.
ثانيتهما: أن الإرادة الذاتية لممارسة السيادة ينبغي أن تمارس في إطار القوانين الدولية المصادق عليها في منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختصة، وهو ما يستبعد ممارسة السيادة على أراضي بدعوى الفراغ من السيادة (Terra nulliers)، لأن تلك السيادة تفتقر إلى حق شعب تلك الأراضي في تقرير مصيره بحرية.
وتحاول المملكة المغربية الاٌلتفاف على هذا الشرط المنصوص عليه في المواثيق الدولية والمنظمات الإقليمية (الاتحاد الإفريقي، ولا نشير إلى الجامعة العربية التي عرفت خلال ثلث القرن الماضي على الأقل الكثير مما يفرق والقليل مما يجمع)، أقول تبرّر المملكة المغربية الاٌحتلال، أو على الأصح المبايعة في عهود غابرة، لو يطبق اليوم لسادت الفوضى في كثير من بلدان العالم، وتمزّقت الخريطة الراهنة للكرة الأرضية.
اٌقترن مطلب السيادة الوطنيّة في الجزائر في العصور القديمة وحتى قبل نشأة الدولة الوطنيّة بالثلاثي الذي أشرنا إليه فيما سبق وهو التعلق الجماعي بالحرية والعدالة والتقدّم، وهناك أدلّة ومواقف وكفاح مرير لحمايتها أو الحفاظ عليها في العهود النوميدية والرومانية والعثمانية وأثناء الاحتلال، وبعد تشكّل الحركة الوطنيّة وأثناء الثورة وبعد التحرير، لا مجال لاٌستعراض مجمل وقائعها في هذه السطور، ولكنّنا نبدي بعض الملاحظات التي تحتمل وجهة نظر تحمل الصواب والخطأ:
1 - على الرغم من أن التاريخ يمثل الماضي المشترك للأمة عبر الحقب حتى ما قبل التاريخ، لكنّه مجال معرفي حسّاس، وليس مجرّد هواية، وهو منبع للوطنيّة والانتماء لمجال جغرافي يشمل الأحياء والأموات من كلّ الأجيال، في تعبير رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس، والبحث في معالم السيادة في بلد تعرّض ماضيه للطمس والتحريف واٌشتغل به رديف الحملات الكولونيالية من العلماء خدمة للإمبراطوريات الكولونيالية بالأمس، وحتى اليوم، يظهر البحث عن شواهد السيادة في الماضي قبل التحرير مثل البحث عن إبرة في كومة ضخمة من القش والغبار.
2 - إنّ الإنكار والتحامل على ماضي الجزائر مجتمعا ودولة أدّى عند البعض إلى ردّ الفعل بالمنعكس الشرطي الذي لا يخلو من المبالغة والغلو الحماسي، فبقدر الفعل العدواني يكون ردّ الفعل الدفاعي حسب قاعدة المفكّر الأمريكي ج. واطسن مؤسس السلوكية (BehaviorismeWatsonJ.1878- 1958) المثير والردّ (Stimulus-repensé)، وقد يصل الأمر إلى تقديس الأجداد culte des ancêtres الذي نجد تأثيره في التراث الشعبي لكثير من البلدان.
3 - من الثابت في علم الاٌجتماع الثقافي، أنّ كلّ الشعوب في حاجة إلى إعلاء (Sublimation) الماضي، وإبراز ما فيه من أمجاد وبطولات وتجسيد بعض الرموز في تماثيل في ساحات مدنها وشوارعها، وإطلاق أسماء النساء والرجال المتميزين على معالم، وحتى مدن (عاصمة الولايات المتحدة واشنطن هي اٌسم الجنرال الذي ساهم في تأسيس الولايات المتحدة بعد الاٌنتصار على الجنوب الاٌنفصالي)، كما يتوسّط تمثال للأمير عبد القادر ساحة مركزية في وسط العاصمة الجزائر، وتقرأ فاتحة الكتاب ويعزف النشيد الوطني أمام مثواه مع أحفاده من قادة الجزائر في الأعياد الوطنية، وفي ذكرى اٌستشهاد أبطال الكفاح والثورة عرفانا وتقديرا لتضحياتهم بالنفس قبل النفيس من أجل الوطن.
4 - أنجبت الجزائر نخبة من المؤرخين العلماء تميّزوا بسعة الاٌطلاع والاٌجتهاد في الدقّة التي لا تخلو من النفس الوطني كتبوا باللغتين العربية والفرنسيّة لإظهار معالم السيادة عبر التاريخ، نذكر منهم على سيل المثال لا الحصر، الأساتذة محفوظ قداش، أبو القاسم سعد الله، مصطفى الأشرف ومحمد البجاوي في مرافعاته وكتاباته عن كيان الجزائر قبل وبعد الاٌحتلال، فضلا عن المؤرخين الذين رافعوا عن الجزائر مجتمعا ودولة لا يمكن أن تكون فرنسا أو إسبانيا، مثل توفيق المدني ومبارك الميلي وجيل الخلف من العلماء مثل محند أرزقي فراد ونصر الدين سعيدوني ومحمد الأمين بلغيث وجمال قنان والقائمة طويلة.
كيف حافظت قيادة الثّورة على حرية قرارها السياسي؟
حرصت الجزائر أثناء الثورة على التمسّك بحرية قرارها السياسي على الرغم من الحصار المطبّق عليها شرقا وغربا وجنوبا بعد تشكيل الحكومة المؤقتة واٌفتتاح مكاتبها المركزية في البداية في القاهرة التي أيدت قيادتها الثورة الجزائرية، ولكن القيادة رفضت الوصاية والتوجيه مقابل المساعدة والتأييد، وقرّرت الاٌنتقال إلى العاصمة التونسية البلد الجار الذي تربطه بالشعب الجزائري روابط تاريخية، فقد كان الثعالبي الجزائري مؤسس الحزب الدستوري قبل الرئيس الحبيب بورقيبة، ولابد من الإشارة إلى أنّ كلا البلدين تعرّضا للاٌنتقام الكولونيالي (مصر سنة 1956 وتونس سنة 1958)، وهذا من جرائم وأخطاء العسكريتارية الفرنسية التي عجزت عن إخماد نيران الثورة في الجزائر، وتوهمت أنّها مسيّرة من الخارج.
وممّا ساعد على حرية القرار السياسي الجزائري في تلك السنوات الحرجة، أن قيادة الثورة اٌلتزمت بعدم التدخل في شؤون البلدان المضيفة والنزاعات العربية العربية الملتهبة في تلك الفترة، وهو ما لم تتمكّن منه القيادات الفلسطينية مع الأسف منذ النكبة، وبعد كارثة الاٌجتياح الإسرائيلي لكل الدول المجاورة لفلسطين وللحديث عن مراحل التفتيت والوصاية والاستخدام الذرائعي لقضية الشعب الفلسطيني العادلة داخليا وخارجيا مجال آخر، وخاصة وهي توشك على التصفية النهائية، كما حدث للهنود الحمر في شمال القارة الأمريكيّة.
إنّ الكفاح البطولي للشعب الجزائري وتضحياته الجسيمة وممارسة قيادته الثورية للسيادة وحرية القرار في علاقاتها مع بلدان المنطقة العربية والبلدان الأخرى المؤيّدة لنضاله أو المتعاطفة مع كفاح الجزائريين، وخاصة بعد مؤتمر باندونغ التاريخي 1955 الذي شاركت فيه الجزائر باٌعتبارها دولة إلى جانب الهند ويوغسلافيا ومصر والصين وأندونيسيا...وربما كانت سياسة قادة الثورة المتمثّلة في عدم التدخّل في شؤون البلدان الأخرى من دواعي اٌنطلاق فكرة عدم الاٌنحياز إلى أي طرف في الحرب الباردة بين المعسكرين الأقوى في العالم، وهما الاتحاد السوفياتي الذي يقود دول حلف وارسو والولايات المتحدة التي تتزعّم الحلف الأطلسي الذي يشمل تقريبا بقية العالم في مختلف القارات.
ينبغي أن نؤكّد كذلك أنّ التمسّك بحرية القرار السيادي والاٌلتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية والصراعات البينيّة بين بلدان المنطقة العربيّة، أعطى الجزائر قبل التحرير هيبة ومكانة خاصة، جعلت الشعوب تتسابق في دعمها وجعلت من تضحيات شعبها وملحمته الثورية نموذجا ينشد الشعراء أمجاده، ويتسابق الفنانون في التغني ببطولاته في المسرح والسينما، ويتشرّف عامة الناس بالتبرع، ولو رمزيا، لمعاونته وهو بين فكّي التمساح الكولونيالي، ويمكن القول بأنّ تأييد الثورة الجزائرية كان آخر إجماع شعبي ورسمي في المنطقة العربية والإسلامية.
وقد سمح التواجد في بعض مؤسسات الدولة أو تمثيلها الدبلوماسي باللقاء ببعض المسؤولين السابقين أو المتواجدين في الخدمة، يعتزّون بتأييدهم للثورة الجزائرية ورئاسة أو تنشيط جمعيات لجمع التبرعات، ويظهر بعضهم وثائق تشهد على ذلك، وكأنّها أوسمة تشرّف أصحابها.
خيار الثالثية وعدم الانحياز
بعد هزيمة الكولونيالية الفرنسية، والشروع في بناء جزائر نهب الاحتلال ثرواتها فوق الأرض وتحت الأرض لأكثر من قرن وثلث، واستعمل جزءا من جنوبها لتجاربه النووية المدمّرة للحياة فالغاية تبرر الوسيلة، وهذه الغاية هي الذاكرة الامبريالية والتواجد في قائمة الدول الكبرى أي الأكثر قدرة على التدمير، كما ظهر في مثال الرعب الأكبر في هيروشيما وناكازاكي في اليابان التي أنهت الحرب العالمية الثانية.
خلال العشرية الأولى بعد التحرير كان للجزائر علاقات تعاون مع الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاٌشتراكية التي وقف الكثير من بلدانها إلى جانب الثورة الجزائرية ماديا ومعنويا، غير أنّ الجزائر لم تكن تابعا لمركزها في الكرملن ولا عضوا في حلفها السياسي والعسكري، فقد كانت الجزائر في تلك الفترة عضوا فاعلا في حركة التحرر العالمي، تناصر بكلّ إمكانياتها نضال الشعوب للتحرر من كابوس الكولونيالية المباشرة والسيطرة الإمبريالية على ثرواتها، فلم يكن في الجزائر في هذه الفترة ولا بعدها قواعد عسكرية لأي من القوتين المتصارعتين على الهيمنة والنفوذ ونتيجة لاٌستقلال القرار السياسي للدولة الجزائرية، فإنّ التهمة المغرضة التي وجهت للجزائر هي الثالثية (Tiers mondisme)، أي أنها كانت الصوت القوي للشعوب المظلومة في كلّ القارات، من موقف مبدأي يجسّد السيادة والخيار الحرّ اٌنطلاقا من التجربة التاريخية للمجتمع الجزائري، وليس بإيعاز من دولة أو تكتل في الشرق أو الغرب.
حقّا وقعت في تلك العشرية وما تلاها إلى وقت قريب أحداث هامة يفسرها الفاعلون والمؤرخون كل من زاويته وقناعاته الإيديولوجية والسياسية، والذي يهمّنا في هذا السياق، هو أنّ السيادة قرار من الداخل، ولا تقبل أي تدخل مباشر أو غير مباشر من الخارج.
لقد كانت العلاقات مع الاتحاد السوفياتي السابق جيدة، وهي أيضا جيدة اليوم مع فيديرالية روسيا، وإن كان انهيار الاتحاد السوفياتي من ناحية وضعية توازن القوّة بين المعسكرين، وليس من الناحية الإيديولوجية خسارة كبيرة لحركة التحرر العالمي، وحركة عدم الانحياز التي أصبحت منذ التسعينيات وجهًا لوجه أمام أحادية قطبية تفعل ما تشاء، وتتغوّل على الشعوب والدول بفرض الحصار والعقوبات لإخضاع ما تشاء من بلدان العالم.
ولمزيد من التوضيح، نقول بأنّ النظريات الماركسية وتراثها الكبير وتطبيقاتها منذ 1917، أضافت الكثير لمناهج البحث في العلوم الاجتماعية، وخاصة في مباحث علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة بين أغلب النخب في العالم إلى اليوم، إما لتأييدها، وإما للاعتراض عليها.
يتبع...