رغم أن الحكومة الإسرائيلية، وقادة الأحزاب الكبرى والدينية والقومية المتطرفة وغيرهم، يعتقدون أن صفقة القرن هي منحة الرب لشعب إسرائيل، وأنها منةٌ ربانيةٌ لهم، وفرصةٌ قد لا تتكرّر يوماً أو يجود بها الزمان عليهم، إذ تُتمُ وعد بلفور القديم وتضفي شرعيةً عليه، وتمنحهم أكثر مما منحهم قرار التقسيم، وتجعل من كيانهم دولةً ضمن المنطقة، متسقة بينهم ومنسجمة معهم، يعترف بها الجوار ويلتزم أمنها ويحافظ على حدودها ويحترم سيادتها، ويقيم معها علاقاتٍ طبيعيةٍ تعزز شرعيتها وتضمن أمنها وتصون مصالحها.
فضلاً عن أن الصفقة تؤمن لها السيادة الكاملة على مدينة القدس الموحدة والاعتراف بها عاصمةً أبديةً لهم، إلى جانب ضم المستوطنات الكبرى إلى كيانهم، وتفاهمٍ على نقل الكتل السكانية الفلسطينية، وضمان ألا تتشكل دولة فلسطينية كاملة السيادة مترابطة الأجزاء موحدة الجغرافيا بالجوار منهم، وإنما هو كيانٌ مجزأٌ مقطع الأوصال، منزوع السلاح وغير مسؤولٍ عن أمنه وسلامة حدوده وأرضه.
إلا أن غالبية النخبة الإسرائيلية ينظرون بعين القلق والريبة إلى صفقة القرن الأمريكية التي طال الحديث عنها، ويشعرون بأنها ستفتح عليهم أبواب جهنم من جديد، وستسعر الأرض الفلسطينية من حولهم وستشعلها ناراً لاهبةً لا تتوقف، وستتسبب في اندلاع انتفاضةٍ أخرى قد تكون مختلفة كلياً عن الانتفاضات السابقة، عمادها اليأس والقنوط من مسار التسوية، والكفر به وعدم الاعتماد عليه، وستوحد الفلسطينيين جميعاً في الداخل والخارج، سلطةً ومعارضةً، وستساعدهم في إعادة ترتيب أولوياتهم وصياغة أهدافهم من جديدٍ، وستمكنهم من تجميد خلافاتهم أو حلها، كما ستمنحهم مبرراً كبيراً للرفض والتشدّد، وربما للعنف والتطرّف، وستعيد القضية الفلسطينية إلى مربعاتها الأولى الراديكالية العنيفة.
يدرك الإسرائيليون أن صفقة القرن غير منطقيةٍ وغير واقعيةٍ، ولا يوجد فلسطيني يقبل بها أو يتساوق معها، فهي لا تعطيهم شيئاً من حقوقهم، ولا تمنحهم ميزةً يستطيعون الاعتماد عليها أو الأمل فيها، بل هي تحرمهم من كثيرٍ مما كان متاح لهم، وقد وصفها بعض المحللين الإسرائيليين بأنها أزمة العصر، لاعتقادهم أنها ستؤسس لمرحلة صراعٍ جديدةٍ، وستعيد القضية الفلسطينية إلى مربعاتها الأولى، ولن تغني قوة إسرائيل ولا دعم الإدارة الأمريكية الحالية في ردم الهوة السحيقة التي سخلقها الصفقة، أو إجبار الفلسطينيين على القبول بالفتات الذي يلقى إليهم دون إرادتهم وعلى الرغم منهم.
ويعتقدون أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تدرك حقيقة الصراع، ولا تحيط شمولاً بمختلف جوانبها، وأنها انقلبت على كل الثوابت الأمريكية السابقة التي حافظت فعلاً على أمن الكيان وسلامته، وأبقت على وجوده في محيطٍ من القوى المعادية له، ويتهمون الرئيس ترامب بأنه مستخفٌ بالقضية الفلسطينية، ولا يدرك حقيقة أبعادها التاريخية وجذورها العميقة في وجدان العرب والمسلمين، وهو لا يستطيع الاعتماد على العقوبات الاقتصادية كسلاحٍ لفرض صفقته وتمريرها، إذ أن الحصار المفروض على الفلسطينيين يعود بالضرر على المجتمع الإسرائيلي، ويؤدي إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة.
يعيب الإسرائيليون المنتقدون للصفقة والأداء الأمريكي الأحادي في فرضها وإخراجها، استبعاد الفلسطينيين وعدم إشراكهم فيها، وكأنهم ليسوا الطرف الرئيس فيها والمعني المباشر بها، فالإدارة الأمريكية لم تستشرهم ولم تلتق بأيٍ من قيادتهم، بينما التقت مراتٍ عديدة بالجانب الإسرائيلي، واستمعت إلى ملاحظاتهم وأخذت بها، وبدلاً من إيجاد شريكٍ فلسطيني مسؤولٍ، قامت قبل الإعلان عن الصفقة بفرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية القاسية بحق الفلسطينيين، الذين يعانون أصلاً من العجز الدائم والحاجة المستمرة، إلا أنها لم تضعف الفلسطينيين، ولم تجبرهم على تقديم تنازلاتٍ ترضي الإدارة الأمريكية، مما يعني أن أي عقوباتٍ أخرى لن تجبرهم على الموافقة على شروط الصفقة.
تعكف مراكز الدراسات الإسرائيلية على دراسة الظروف الموضوعية التي أنتجت صفقة القرن، فترى أنها نتاج أفرادٍ جددٍ على الإدارة الأمريكية، ولم يسبق لهم أن كانوا ضمن صنّاع القرار، أو أعضاء مشاركين في مجلس الأمن القومي الأمريكي، أي أنهم مجموعة من الخبراء الجدد والمقاولين الطموحين، كما أن التوقيت المقترح لإعلان الصفقة هو إسرائيلي بامتياز، ويخدم رئيس الحكومة الحالي الذي يتطلّع إلى الرئاسة الذهبية للحكومة، أما الشريك العربي الجديد فسيكون عاجزاً عن القبول بالصفقة أو المشاركة في تنفيذ بنودها، في حال لم يكن معهم شريكٌ فلسطيني مسؤول، يحميهم ويغطي دورهم.
الذين يشككون في جدية صفقة القرن وقدرتها على حل القضية الفلسطينية، ليسوا النخبة السياسية والفكرية والإعلامية فقط، بل إن قادة جيش العدو وكبار ضباطه يشككون فيها، ويرون أنها فخٌ نصب لهم، وستلحق بأمنهم واستقرارهم أضراراً كبيرة، وستدخل الجيش في مواجهة جديدة وربما واسعة مع الفلسطينيين، إلا أن هذا الاعتقاد السائد بين كبار ضباط الجيش، لا يعني عدم استعدادهم وجاهزيتهم، فقد خصّصت قيادة أركان جيش العدو ستة فرق مجهزة بكامل عتادها، للتصدي لموجات العنف المتوقعة في مختلف مدن الضفة الغربية، إذ يتوقعون ألا يمر الإعلان الرسمي عن الصفقة دون اشتباكاتٍ مع الجيش، وعملياتٍ فرديةٍ يقوم بها الشبان الفلسطينيون، كتلك التي رافقت أحداث بوابات المسجد الأقصى.
لا يستبعد بعض المحللين الإسرائيليين أن تعلو أصواتٌ إسرائيلية وأخرى يهودية، تحذر من صفقة القرن التي تقوم على فوهة بركانٍ ثائر، قد يهدأ حيناً ولكنه يثور دائماً وينفجر فجأةً، فالسلام الذي يتطلع إليه الإسرائيليون هو غير الأمن الذي يفرضه الجيش وترعاه الولايات المتحدة الأمريكية، وصمت الفلسطينيين قد لا يطول وأحلامهم لا تموت، ولكن صبرهم قد ينفد وسبل المواجهة أمامهم لا تعدم.
بيروت في 27 / 1 / 2020.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.