روى لي صديق لا أشك في صدقه قائلا: كنا أربعة استضافنا رفيق خامس في بيته ووضع أمامنا كل ما يمكن أن يشتهيه أحدنا من مشروبات، حلالا كانت أم غير ذلك، وكان جهاز التدفئة يحاول جاهدا تحجيم برد نوفمبر الذي جئنا به إلى منزل الرفيق.
أمسك بناصية الحوار ربّ المنزل ليستعرض ساخطا ومتهكما قيام بعض المترشحين لرئاسة الجمهورية بزيارة أضرحة بعض الأولياء في جنوب البلاد، وهو ما اتفقتُ فيه معه بدون حماس كبير، فقد رحت أفكر في موضوعية تلك الزيارات، وعمّا إذا كانت، كما علق البعض في مواقع التواصل الاجتماعي، عملية نفاق سياسي، أم رغبة مخلصة في الحصول على «البركة»، أم استجداء لعواطف المواطنين، فالنوايا تظل سرّا على غير من «يعلم السر وأخفى».
ويواصل الصديق قائلا: كان رفيقنا الشاعر يتابع النقاش وهو يرتشف كأسا من «الويسكي» الذي حرَص، كأي أصولي متشدد، على ألا يخلطه بالماء أو «الكوكا»، احتراما لشخصية «يوحنا السائر»، كما كان يقول ضاحكا، وساخرا منا، نحن الذين اكتفينا بكؤووس «الأتاي» الأخضر الساخن.
وينطلق من المسجد المجاور صوت أذان المغرب، فأفاجأ بان شاعرنا يسارع بوضع الكأس على المائدة أمامه ويروح يمسح فمه ويتمتم بما لم أسمعه، ولا يمسك بالكأس إلى أن انتهى الأذان.
وقلت للصديق: هذه صورة حقيقية لجزائري أعتقدُ أن الإيمان وقر في قلبه وإن لم يصدّقه العمل بعد، فيكفي أنه تصرف تلقائيا بما يدل على أنه كان يعرف أنه يرتكب منكرا، وهذا في حد ذاته صورة من المؤكد أنها ليست استثناء يُحفظ ولا يُقاس عليه، وهو من الأدلة على عمق إيمان الأغلبية الساحقة من مواطنينا، بمن فيهم من يشعلون الشموع أحيانا في كنيسة «الأم الإفريقية»، ومن ساهموا في إعطاء هِبات للراهبات هنا أو هناك، وهم مواطنون بعيدون كل البعد عن دعاة المسيحية المستوردة الذين يشترون متنصّرين جددا بوعود «الفيزا» وإيجاد عمل للأبناء في بلاد الجن والملائكة، وآخرين يوفرون للشباب ما يرفضه مجتمع مسلم لأبنائه وبناته.
وأتصور أن هذا يمكن أن يُفسر حرص المترشحين على زيارة قبور الأولياء والصالحين، فكل منهم يتوجه لشعب يريد دعمه وتأييده لانتزاع كرسي «المرادية»، وبرغم أنني قد لا أتحمس لذلك فإنني لا أستطيع أن أنسى أن جل المترشحين في الشمال يبدؤون حملاتهم بالمشاركة في قداس الكنيسة، وبدون التذكير بمترشحي الكيان الصهيوني الذين يرفضون القيام بأي نشاط يوم السبت.
وهكذا تنطلق الحملة الانتخابية في الجزائر ومعها مجموعة من الملاحظات التي يسجلها كل مراقب يقظ، وخصوصا إذا كان ممن يرفضون هذه الانتخابات أساسا، ويرون أن البحث عن نقاط الضعف عند الخصم هو طريق لإضعاف حجته والنيل من مشروعه.
والواقع أن قيادات الأحزاب الثلاثة والتوجهات الرافضة للانتخابات الرئاسية قد اختفت بشكل غريب وشبه كامل عن الساحة الإعلامية، وتزامن ذلك مع قيام أفراد بتخريب لوحات بعض المترشحين، بينما حاول آخرون إفشال بعض التجمعات الانتخابية، وهو ما دفع أنصار فكرة «توزيع الأدوار» إلى اتهام تلك التوجهات بأنها وراء هذه العمليات لتحقيق ما فشلت التظاهرات المفتعلة والهتافات المتهيجة في الوصول إليه، وانتزاع قيادة البلاد عبر هيئة انتقالية لقيطة، تستلهم ما عرفته بداية التسعينيات.
وأنا شخصيا أرفض هذا التحليل، فمن أعرفهم أو أعرف عنهم من الشخصيات المعارضة للانتخابات الرئاسية هو أنهم أعلى مستوًى وأكثر ذكاءً من اللجوء إلى هذه الأساليب الفاشية، وإن كان هذا لا يمنع من الظن، وبعضه فقط هو الإثم، بأن أنصارا محدودي الفكر والوعي اندفعوا في هذا الطريق بمبادرات شخصية ستكشفها التحقيقات الأمنية.
وأظل على أمل ألا يكون المعتدون في مجموعهم من جهة معينة، لأن في هذا خطرا كبيرا على الجميع.
لكن السؤال يظل مطروحا عن سبب اختفاء جلّ القيادات والتوجهات التي كانت متحمسة لتكوين هيئة انتقالية بعيدا عن الاستشارة الجماهيرية الواسعة، والتي كانت تدعو لإقامة مجلس تأسيسي ينطلق في واقع الأمر من أن كل ما حققته البلاد خلال نحو ستين سنة هو فراغ في فراغ، وأن الجميع فاسدون باستثناء من يرون أنفسهم نخبة النخب، ومنها توجهات تهدف في واقع الأمر إلى إعطاء شرعية مفتعلة لعمليات تمرد عرفتها البلاد إثر استرجاع الاستقلال، وانتزاع الاعتراف بأن من وقفوا ضد مسيرة الجزائر منذ 1962 كانوا غير مخطئين، وربما للوصول يوما إلى زرع الشعور بأن الخطأ الحقيقي بدأ في أول نوفمبر 1954.
ويجب أن نعترف أن معظم تلك القيادات تتميز بحجم كبير من الذكاء والخبرة في التعامل مع التطورات السياسية، وهي تتحرك بتنسيق كامل وعلى ضوء دراسة عميقة للمستجدات، ولعلها تستعين بخبراء ومختصين تابعوا كل حركات الربيع الدولية، بدءا من ربيع الكتلة الشرقية وانتهاء بالربيع العربي الذي عانى ويعاني من الثورة المضادة.
وعندما نراجع كل تلك التحركات، بدءا من حقن تظاهرات الحراك بهتافات تعكس توجهات معينة، وتجنيد عمائم ولحىً ومجاهدين قدامى لم يثبت أن معظم عناصرهم قرأت جيدا البيانات التي نسبت لهم، ووصولا إلى استثارة إضرابات فئوية هنا أو هناك، نصل إلى الاستنتاج بأن القيادات المعنية وصلت اليوم إلى اليقين بأنها فشلت في تحقيق أهدافها، وأصبح من الضروري أن تفكر في أسلوب جديد تتسرب به إلى مفاصل الوضعية الجديدة التي سوف تنشأ عن الانتخابات الرئاسية، التي يبدو اليوم أن حجم المقتنعين بضرورتها يتزايد يوما بعد يوم، برغم بعض التظاهرات المؤيدة البدائية التي رفضت السلطات العليا التعرض لها بالمنع، انطلاقا من عقدة الخوف باتهامها أنها تقمع الأنصار وتنبطح أمام فاشية الخصوم.
وسنلاحظ أن هناك من سوف يواصل، وخصوصا في مواقع التواصل الاجتماعي، التركيز على عناصر الضعف ونقاط القصور في الحملة الانتخابية، وهو أمر طبيعي في كل الظروف والوضعيات المماثلة، وأرى في هذا ظاهرة صحية قد تمكن المترشحين من مراجعة تصرفاتهم الجماهيرية والاستفادة من الأخطاء التي ترتكب خلال الحملات.
وإن غدا لناظره قريب.