مهما بلغت دقّة التحضيرات لورشة المنامة الاقتصادية، وعظمت الاستعدادات لها، وكثر المشاركون فيها، وجاء الأقوياء إليها، وأقبل المتآمرون عليها، ولحق المخلفون والمتخلفون بها، واستخدمت الإدارة الأمريكية أقصى نفوذها، وهدّدت مختلف الأطراف بمستقبل أنظمتها، وبفرض عقوباتٍ سياسية واقتصادية عليها، وبث الفوضى والاضطرابات الداخلية فيها، في حال أنها لم تشارك أو لم تتعاون، فإنها لن تنجح في تحويل القضية الفلسطينية من قضيةٍ سياسيةٍ بامتيازٍ، إلى قضيةٍ معيشيةٍ واقتصاديةٍ بامتهانٍ، ولن تتمكن من إجبار الفلسطينيين على المشاركة فيها أو القبول بنتائجها، مهما ظن المتآمرون عليهم أنّهم يستطيعون الحل، وأنّهم يملكون أدوات التصفية ومعدات التفكيك، معتقدين أنّ الزمان زمانهم، وأن الظرف يخدمهم، وأن الكل معهم يؤيّدهم ويساندهم، أو يخافهم ويخشى على ملكه منهم.
فلسطين التي استعصت على الفرنجة والصليبيين قديماً، وصمدت في وجه المؤامرات الصهيونية حديثاً وما زالت، هي أرضُ الفلسطينيّين ووطنهم، وهي ديارهم وفيها ممتلكاتهم، أخرجوا منها بالتآمر وقوة السلاح، واستوطن مكانهم يهودٌ وافدون ومستوطنون مستعمرون، وغرباء منكرون وشذاذٌ أفاقون، فلا يمكن لهذا الشّعب أن ينسى قضيّته، أو يفرط في وطنه ويقايض عليه، ويقبل بأن يستبدله بملايين الدولارات وبريق الشعارات وكبير المشاريع، فهذا وطنٌ دينٌ وعقيدةٌ، وقرآنٌ ومسجدٌ، وتاريخٌ وحضارة، وذكرياتٌ وهويةٌ، فلا يباع بدراهم، ولا يشترى بغير الدم، ولا يحفظ بغير البذل والتضحية، وأهله الفلسطينيون يدركون الثمن ولا يترددون في بذله وأدائه، ولا يجبنون عن الوفاء به في كل وقتٍ وحينٍ.
لا يساور الفلسطينيون ومعهم المخلصون من أبناء الأمة العربية والإسلامية، أدنى شك بأن قضيتهم محصّنة، وأنّ فلسطين مباركة، وأنّ التآمر عليها فاشل، والتنازل عنها مستحيل، وأن تصفيتها غير ممكن، والقفز على حقوق شعبها وهمٌ، وأنّ إنهاء الصّراع بهذه الطريقة المضحكة محض خيال وأحلام مراهقٍ، إذ أنّها ليست عقاراً يسهل بيعه والتنازل عنه، وليست ملكاً لفردٍ يملك وحده حق التصرف بها، وليست حقاً لجيلٍ بعينه يستطيع التخلي عنها وحرمان الأجيال القادمة منها.
وقد توحّد الفلسطينيّون في مواجهة مؤامرة تصفيتها، وعزموا بجمعهم على التّصدّي للمتآمرين عليها، فهم بذلك أقوياء، ويستطيعون مواجهة هذه المرحلة والتصدي لها، وإسقاط المشروع التصفوي وإفشال الورشة المؤامرة، إذ لا خيار أماهم سوى مواجهتها، والتاريخ لن يغفر لهم صمتهم وإن كانوا ضعافاً، أو عجزهم وإن كانوا وحدهم، فهذا مقامٌ وخطبٌ يستوجب المواجهة حتى الموت، والتّصدّي العنيد لأجل البقاء.
لكن الفلسطينيّين وحدهم لا يستطيعون التصدي لهذا المشروع التآمري، الذي يشبه السّيل الجارف والطّوفان العارم، الذي يتهدّد مستقبلهم وينوي شطب هويّتهم، بل هم في حاجةٍ ماسّةٍ في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ قضيّتهم إلى شعوب الأمّة العربية والإسلامية، فهم أقدر على لجم حكوماتهم وإجبار أنظمتهم على عدم المشاركة في المؤامرة، ورفض القبول بمخرجاتها، إذ لا يقوى أحدٌ أن يجبرهم على القبول بما لا يقبل به الفلسطينيّون، كما لا يجوز لهم أن ينوبوا عن الفلسطينيين دون إذنهم أو موافقتهم، فالفلسطينيّون جميعاً يرفضون الورشة والصّفقة، ويرون أنّها مؤامرة تحاك ضدهم لصالح عدوهم، فعلى كل عربيٍ حرٍّ أن يعتمد على هذا الرّفض الفلسطيني الموحّد ليبني موقفه ويحدّد سياسته.
في هذه الأيام العصيبة نستذكر لاءات الخرطوم الشّهيرة، التي اجتمع فيها شمل العرب واتّحدت كلمتهم، وقالوا فيها لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بالكيان الصّهيوني، رغم أجواء الهزيمة والنّكسة، وسقوط الجبهات واحتلال المزيد من الأراضي، إلاّ أنّه كان للشّعوب العربية كلمتهم الموحّدة، وإرادتهم الصّادقة، وعزمهم الأريب، وتوقهم الشّديد للمقاومة والقتال، وفي ظل استعلاء روحهم المعنوية القومية قويت شوكة الثورة الفلسطينية واستعصت على عدوها، حتى جاءت هذه اللاءات الثلاثة تماشياً مع المشاعر الشعبية العربية، وتأكيداً عليها، ولعلنا اليوم أكثر تمسّكاً بهذه اللاّءات وحاجةً إليها، وكلّنا أملٌ ويقينٌ بأنّها ستصمد وستنتصر، ولن تقوَ تنازلاتُ المنامة الخبيثة على هزيمة لاءات الخرطوم القومية الأصيلة.
بيروت في 22/6/2019
Twitter/Leddawy
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.