أواصل حديثي لتتضّح خلفيات كان تسليط الضوء عليها هو هدفي الرئيسي، وإن كان هناك من انزعج مما كتبته وإن لم يستطع تفنيده أو تخطئته فراح يطالبني بأن أركز حديثي على الحراك، وكأنني كنت أتحدث عن زراعة الباذنجان الأبيض على سطح القمر.
ولقد كان الأصل العرقي للأمازيغ دائما محلّ تناقض جدالي وتعنت فكري وتجاذب وطني ـ استعماري، وخصوصا منذ الأربعينيات.
وكان هناك اتجاهان، أولهما يرى أن أصل سكان المنطقة هو من الجزيرة العربية، ومن منطقة اليمن على وجه التحديد، ويستدل القائلون بهذا على وجود لهجات في شبه الجزيرة قريبة جدا للهجات المستعملة في الشمال الإفريقي.
ويرى بعض المهتمين بالأمر تاريخيا (وممن تناولوا الأمر بالدراسة محمد مادون السوري وعلي خشيم الليبي وعبد الله العرباوي المغربي وعثمان سعدي الجزائري الشاوي وأحمد بن نعمان الجزائري القبائلي وغيرهم) أن «السكان الأصليين»، هاجروا من اليمن إلى شمال إفريقيا على دفعات خلال القرن الثاني قبل الميلاد (قبل الميلاد) لهذا لم تكن الحروب التي خاضها المسلمون في بلاد المغرب ضد البربر أو الأمازيغ بل ضدّ الروم الذين كانوا يستعمرون هذه البلاد.
لكن بعض الكتاب، ومنهم خالد كبير علال، يقول في كتاب بعنوان «أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة»: لا وجود لاسم «الأمازيغ»، بمعنى «سكان شمال إفريقيا» في كتب التاريخ، لا الكتب الإسلامية ولا العربية ولا الرومانية ولا اليونانية ولا القوطية ولا الوندالية ولا المصرية… بل اسمهم في كتب التاريخ هو «البربر» أو «الليبيون» أو «الفينيقيون»… وهذه التسميات هي لفروع من البربر وليس كل البربر، ولعلّ أقدم من ذكر الكلمة هو عبد الرحمن بن خلدون، حيث نسب بعض البربر (وليس كلهم) إلى مازيغ بن كنعان، وهكذا فإن أول مصدر هو عربي إسلامي، ولكن متعصبي البربرية لا يعجبهم هذا.
وكان الاتجاه الثاني بالنسبة للعرق البربري هو أن أصول السكان أوربية آرية، ولا علاقة لها بالمشرق العربي، وتبنى أتباع الأكاديمية البربرية في باريس هذا الاتجاه، والذي يجري تطبيقه عمليا بانتزاع كل الكلمات عربية الأصل من اللهجة أو اللغة القبائلية على وجه التحديد.
وكمثال، كان القبائل خلال سنوات وسنوات يستعملون عبارة «صباح الخير فيللاون» (أي صباح الخير أيها الرفاق) أو «السلام فيللاون»، وكان الشاوية في الشرق (وهم أكبر وجود أمازيغي في الجزائر) يقولون (السلام فلاك ) أي السلام عليكم.
وفي الستينيات من القرن الماضي نُزعت كلمتا «صباح الخير» لتحل محلها كلمة «آزول» (والعارفون يقولون إن كلمة آزول لا وجود لها في قاموس سائر اللهجات الامازيغية) واستعملت الكلمة للمرة الأولى في سنة 1967 في كتاب الجنرال الفرنسي أندري، أحد المؤسسين للأكاديمية البربرية في باريس، التي كوّنها أشخاص من قدامى الجيش الفرنسي ومن المنسلخين من هويتهم الإسلامية، وبدأ هؤلاء مع موجهيهم الفرنسيين في القيام بعملية «تطهير» للهجة القبائلية من الكلمات التي بها رائحة العربية والإسلام، وتمّ ذلك بطريقة جعلت علماء لغويين فرنسيين يحتجون على هذه العملية.
ونجد أن الأكاديمية فرضت استعمال كلمة «آيروبلان» الفرنسية لتدل على الطائرة، التي كانت كلمة «طيارة» العربية تدل عليها، وكلمة أخرى بربرية لا أتذكرها.
وأكد لي كل ذلك الشيخ عبد الرحمن شيبان، وهو من كبار علماء منطقة القبائل، عندما رويت له كيف أن إحدى السيدات المسنات من الأقارب جاءتني من مدينة «دلس» لتشكو لي بأنها لم تعد تفهم «القبايلية انتاعكم في التيساف» (الإذاعة).
ولمن يريد معرفة التفاصيل يمكنه تحميل هذا القاموس:
( https://ia800307.us.archive.org/…/muajm-a…/muajm-aljudor.pdf )
ويبرز اتجاه ثالث وصل بالقضية إلى درجة تثير السخرية، ففي كتاب صدر في المغرب الأقصى، ويجده الباحث في «غوغل»، نقرأ لمن يبدأ حديثه بما لا يمكن إنكاره وهو أن «الإنسان الأمازيغي هو الساكن الأصلي في الشمال الإفريقي».
لكنه يواصل بعد ذلك قائلا، لتأكيد الأصالة، بأن هذا الساكن الأصلي «ليس من سلالة آدم»، أي أنه كان هناك قوم يعيشون في المنطقة قبل أن يخلق الله آدم وحواء، ولا يملك العاقل إلا أن يتساءل: هل يمكن أن تصل الحماقة إلى هذا الحدّ.
ووصل الأمر، في محاربة النظرية التي تتبنى الأصل المشرقي للأمازيغ، إلى ادعاء البعض بأن أصل المشارقة جاء من الشمال الإفريقي وليس العكس.
ولقد سمعت بنفسي الجنرال «أحرضان» المغربي يروي ما مضمونه أن النبي محمد (صلعم) كان يعرف اللغة البربرية، حيث أن وفدا من الشمال الإفريقي ذهب إلى المدينة ليطلب من النبي أن يرشدهم إلى تعاليم الإسلام لينقلوها إلى المنطقة، بدلا من إرسال معلمين.
ويقول أحرضان بأن أعضاء الوفد حدث أن تناقشوا بالبربرية في حضرة الرسول، وعندما اعتذر أحدهم لسيد الخلق عن استعمال غير العربية قال له الرسول: أنا أفهم لغتكم.
والواقع أن أغلبية الشعوب غرب مصر وحتى المحيط هم من الأمازيغ، حيث أن من جاءوا مع الفتح الإسلامي أو نتيجة له أو لغيره من الظروف المناخية كانوا أقل عددا بكثير من إمكانية تغيير ديموغرافي كبير.
وقد نجد أمازيغ أصلاء لا يستطيعون النطق بجملة بربرية كاملة، كما سنجد متحدثين بالأمازيغية لا يعرفون كلمة عربية واحدة، في حين أنهم من أصل عربي قح، ولعلهم أنهم أحفادُ أحفادِ من توغلوا في العمق الجزائري، وخصوصا في المناطق الجبلية، لنشر الإسلام، ثم ابتلعهم المجتمع بلغته المحلية، وضاعت لغتهم مع مرور السنوات ومتطلبات التعامل اليومي.
ويقول بعض المتخصصين في دراسة المعطيات التاريخية بأنه كانت توجد في الشمال الإفريقي، ولمدة سبعة عشر قرنا قبل الإسلام، لغة عروبية مكتوبة هي الكنعانية ـ الفينيقية، محاطة بلهجات شفوية أمازيغية عروبية قحطانية، وعندما جاء الإسلام حلت العدنانية التي نزل بها القرآن الكريم محل اللغة الكنعانية.
واستمر الجميع يتعاملون مع العربية كلغتهم وساهموا في تطويرها، مثل صاحب كتاب «الأجرومية» ابن أجرّوم، العالم الأمازيغي من المغرب الأقصى المتوفى سنة 695 هـ (1274م) وقبله ابن معطي الزواوي المتوفى سنة 672 هـ (1231م) وهو الأمازيغي من بلاد القبائل، الذي نظم النحو العربي في ألف بيت، سابقا بنحو مائة سنةٍ ابن مالك، الذي توفي سنة 1330، والذي اعترف بفضله في السبق .
وهناك الإمام البوصيري، الشاعر الصنهاجي الأصل (1213 - 1295 ) وهو صاحب قصيدة «البُردة» المشهورة، التي نسج على منوالها العديد من الشعراء، ومنهم أحمد شوقي برائعته «نهج البردة».
لكنني أكرر منذ سنوات بأن أمثال هذه القضايا لا يجب أن تترك للهواة الجهلة وللسياسيين المغرضين، وأن يكون مجال بحثها هو المعاهد المتخصّصة التي تبحث كل المعطيات وتدرس كل العناصر وتستبعد كل الخلفيات.
وكنت قلت بأن المشكلة الحقيقية مع قضية الأمازيغية في العصر الحديث هو أن القضية سُيّستْ وأصبحت مادة للمزايدات والمناقصات وللضغوط والتنازلات، وهذا يصل بي إلى الأربعينيات.
يومها كان أب الوطنية الجزائر وزعيم حزب الشعب الجزائري مصالي الحاج يدعو لنصرة استقلال الجزائر، وبغض النظر عمّا إذا كان ذلك رأيه الشخصيّ أم ضرورة تاكتيكية ارتآها فقد تصرف من منطلق أن الحليف الأول الذي يجب استثارة دعمه هو الوطن العربي والعالم الإسلامي، الذي كانت تنتمي له الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي.
ومن هنا كان مضمون خطابه التمسّك بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي للبلاد.
وأثار ذلك بعض أعضاء حزب الشعب من منطقة القبائل، كانوا يرون أن النسبة العربية هي اختلاق، وبغض النظر أيضا عمّا إذا كان ذلك تمسكا بهوية حقيقية أو استلهاما لمنطق فرنسي، سواء كان فكريا أو إيديولوجيا أو مجرد استلاب شخصي.
وهنا انفجر ما أصبح يطلق عليه الأزمة البربرية، والتي نعيش اليوم بعض ذيولها، وكانت الخلفية الأساسية هي رفض كل علاقة بالعربية، تاريخا وثقافة وحضارة، في حين أن المجموع الوطني يرى في الأمر تنفيذا للسياسة الاستعمارية التي تقوم على مبدأ: فرّقْ تسُدْ.
المجموع الوطني يعتز بالتاريخ المجيد الذي عرفته نوميديا، ابتداء من الأب دونا، راعي المسيحية الأولى التي تتشابه مع المسيحية المشرقية والقبطية، والذي حاربه الرومان لوطنيته وسحقوا الدوناتيين وفرضوا الكاثوليكية المستوردة، وأركبوا على رفاته عميلا رومانيا أعطوه فيما بعد لقب»القديس أوغستان».
والمجموع الوطني يعتز بالقيادات النوميدية التي واجهت الرومان وعلى رأسهم يوغورطة ( 16 ق.م.) ثم تاكفاريناس ( 17 م) تماما كما يعتز بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي الذي كان الشمال الإفريقي جزءا منه مؤثرا فيه وليس عالة عليه، فرجاله كانوا القوة الضاربة في فتح الأندلس.
والشعب في مجموعه يعتز بالنضال الوطني وبالجهاد المسلح الذي قام به الرواد، ابتداء من أحمد باي والأمير عبد القادر ومرورا بالمقراني والحداد ولالا فاطمة نسومر ووصولا إلى بن بولعيد وديدوش وعميروش، وآلاف مؤلفة غيرهم من كل جهات الوطن.
باختصار، نحن، الذين يُطلق علينا البعضُ قدحا وإساءةً تسمية «البعثيين الأصوليين» (الاثنين معا) نؤمن بكل ذلك الرصيد ولا نرى تناقضا بين العمق التاريخي والانتماء الحضاري، لكننا رفضنا اتّباع «جاك بينيت» وأكاديميته البربرية ورايته التي لا ترتبط لا بالتاريخ النوميدي ولا بالنضال الوطني ولا بالجهاد الثوري، ووقفنا، وما زلنا وسنظل ضد المغالطات والبلاغيات المنمقة التي يتسلق بعضها الآيات القرءانية لخلق التناقض مع إرادة شعب يعرف الفرق بين العمق التاريخي والانتماء الحضاري الثقافي.
ولقد كانت تلك الأكاديمية عملا سياسيا استعماريا تلفع بوشاح ثقافي تاريخي، شجعته الاحتكارات الفرنسية ردّا على تأميم الجزائر للمناجم في عام 1966، وتزايد التشجيع نتيجة للدعم الكبير الذي قدمته الجزائر لمصر وسوريا في حرب 1967 (وقد كان من عناصر الأزمة البربرية رفض البعض لموقف القيادات الوطنية الجزائرية دعما للجهاد الفلسطيني في الأربعينيات، وهو ما نجد بعض بقاياه اليوم في تشنج البعض تنديدا برفع بعض شباب الحراك الجزائري للراية الفلسطينية، تعبيرا عن التضامن الشعبي مع الصمود الفلسطيني، وتذكيرا بمقولة الرئيس هواري بو مدين: «نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة»، وهو تعبير يهاجمه البعض اليوم ربما لأنه مستلهم من حديث معروف لسيد المرسلين، وربما لأن كره بو مدين يستجيب لإرادة القوم في بلاد الجنّ والملائكة.
ومرة أخرى، أنا لا أؤكد ولا أنفي ولا أتعصب لأي رأي أو أرفض أي استنتاج بل أدعو العلماء والمختصين لدراسة كل هذه المعطيات، ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ...من الخيط الرمادي.
ولعلي أسجل تقديري لكل القراء الذي أسهموا بتعليقاتهم في إثراء هذه الدراسة المتواضعة التي تهدف أساسا لحماية الوحدة الوطنية، وتخدم الالتزام المطلق ببيان أول نوفمبر، وتفضح أكذوبة الأقلية المسحوقة والأغلبية الطاغية التي يتاجر بها البعض.