الحلقة 2
قبل أن أواصل أريد أن أوضح أمرين لهما طابع شخصي.
أولهما أن أصول عائلة العبد الضعيف ترجع إلى ولاية ميلة، حاضنة قبيلة كتامة البربرية الأصيلة، والتي كانت مهد نواة الفاطميين قبل انتقالهم إلى «المهدية» في تونس.
وأنا لا أعرف من اللغات البربرية أكثر من كلمات معدودة لا تصلح حتى للتعامل مع نادل مقهى، لكنني أرفض تعالي من يعرف لغة أو لهجة بربرية، وخصوصا وهو لا يستطيع أن يثبت أنه فعلا من أصل بربري في بلادٍ عرف شمالها على وجه الخصوص مرور الرومان والوندال والعثمانيين، واستقر بها عشرات بل مئات من مهاجري وأسرى جزر البحر الأبيض المتوسط، ومنها صقلية، عندما انهار الوجود الإسلامي فيها، وكذلك من الفارين من الأندلس بعد سقوطها في يد محاكم التفتيش.
والغريب هنا أن من هؤلاء من يعتبر اللغة دليل على انتماء عرقيّ محدد، وهي مغالطة يمكن أن يكشفها مثال الزعيم القبائلي الراحل حسين آيت أحمد، الرئيس الثاني للمنظمة السرية، التي كان نواة جبهة التحرير الوطني، والذي خلفه أحمد بن بلة إثر ما عرف في الأربعينيات بالأزمة البربرية.
كنا كطلبة جزائريين في القاهرة قد قدّمنا آيت أحمد، وكان يوما واحدا من ثلاثي الوفد الخارجي، كواجهة للشباب الجزائري، وكان هو من تحدث باسمنا في مؤتمر الشباب المسلم في بور سعيد عام 1955، عندما رفعنا علم الثورة رسميا للمرة الأولى في احتفال دولي، ومن شهود ذلك الأحياء، أطال الله أعمارهم، السفراء سعد الدين نويوات ومحمد الهادي حمدادو وعثمان سعدي، كما شارك فيها الشهيد محمد الطاهر زعرور (بالبيجاما في الصورة) وعبد الحميد بو وذن، رحمهما الله.
وبالمناسبة، لم نكن سمعنا يومها عن شيء اسمه الراية الأمازيغية، وآيت أحمد نفسه، وهو من أكبر رواد الأمازيغية، لم يكن يعرف عنها شيئا، وقام معنا برفع الراية الخضراء والبيضاء بهلالها ونجمتها الحمراوين.
يومها كنا نتصرف على أساس موقف عرفناه فيما بعد عن الشهيد العظيم عميروش، وهو أيضا من منطقة القبائل، والذي يعاقب كل من يسأل جزائريا عن أصله الجغرافي، وأنا شخصيا لم أعرف المنبت الجغرافي لمولود قاسم، وقد عرفته في بداية الخمسينيات، إلا في نهاية الستينيات.
والمغالطة هي أن آيت أحمد هو ممن يسمون «المرابطين» أو «الشرفاء»، والذين يعود أصلهم إلى الدوحة النبوية الشريفة، وليس سرّا أن محمد رسول الله (صلعم) كان عربيا من قريش.
الأمر الثاني ذو الجانب الشخصي يرتبط بالتسمية.
فقد كانت التسمية المعروفة منذ القدم هي «البربرية» (BERBERITE) والمشتقة من الكلمة إغريقية الأصل رومانية الاستعمال، أي (BARBARE) التي كانت تعني التوحش وعجمة اللسان.
وهنا، كما يقول عثمان سعدي: ينبغي التفريق بين البربرية والنزعة البربرية، الأولي عنصر من عناصر تاريخنا كشمال إفريقيين، والثانية إيديولجية صنعها الاستعمار الفرنسي لضرب الوحدة الوطنية، وصنع الفرقة بين العرب العدنانيين والأمازيغ القحطانيين.
وإثر الأحداث التي عاشتها الجزائر في 1980 وتناولتها في حديث سابق، وعلى ضوء حوار مع الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، برزت فكرة التخلص من تسمية «البربرية» السائدة، التي كان لها، فيما رأينا، دلالية قدحية.
وقمتُ بتكوين فريق عمل من عدد من كبار المثقفين لدراسة الأمر، واستقر الرأي على اقتراح تسمية «الأمازيغية»، برغم وجود من كان يُفضل تسمية «النوميدية»، ويرى أن الأمازيغية محصورة في منطقة محدودة في الجزائر، وهو رأي الدكتور العربي دحو، الذي قام ب دراسات بالغة الأهمية في هذا المجال، وهو ما عرفته متأخرا.
وهكذا أستطيع أن أزعم أنني، وأنا مستشار الرئيس المكلف بالإعلام على مستوى الدولة، كنت عنصرا أساسيا في ترويج تعبير «الأمازيغية»، ومن هنا كنت أضحك عندما كان بعض أصحاب النزعة البربرية يتهمني بأنني معقد من تلك الكلمة.
ابن باديس والأمازيغية
الواقع أنه لم يكن لنا، رفاقي وأنا، فضل في التسمية، حيث سبقنا إليها عبد الحميد بن باديس، الذي صرح في الثلاثينيات محذرا ومؤكدا بأن القومية ليست لها أية علاقة بالعرق، وإنما أساس القومية هو وحدة اللغة والثقافة المشتركة والعقيدة الدينية، أي أن القومية هي اتحاد الفؤاد واتحاد اللسان، على حد تعبيره بالحرف الواحد في مقال له بعنوان «كيف صارت الجزائر عربية» حيث يقول: «ما من نكير أن الجزائر كانت أمازيغية من قديم عهدها، وما من أمة من الأمم استطاعت أن تقلبها عن كيانها ولا أن تخرج بها عن أمازيغيتها، أو تدمجها في عنصرها، بل هي التي كانت تبتلع الفاتحين فينقلبوا إليها، ويصبحوا كسائر أبنائها، وإن « أبناء يعرب وأبناء مازيغ» قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر، وتوحّدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة:» عنصراً مسلما جزائرياً: أمّهُ الجزائر وأبوه الإسلام.»، وأكد ذلك في القصيدة المعروفة :
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب.
وهنا يقول الباحث المغربي عبد السلام أغرير: إن كل من لا يملك سندا ووثيقة تبين أصوله العربية في شمال إفريقيا فإن الأصل فيه أنه أمازيغي حتى يثبت العكس، سواء تكلم اللهجة الأمازيغية أو تكلم اللهجة العربية، لأن جل الأمازيغ قد تبنوا العربية لغة للتخاطب ونسوا لهجاتهم القديمة، كما تبنى قبائل الإفرنج (Les Franges) اللاتينية عندما هاجروا من شمال أوربا واستقروا في بلاد الغال «La Gaule « (فرنسا حاليا) أما هم في الأصل فجرمان لا علاقة لهم باللاتين.
وهكذا فإن من يرجع له الفضل الأول في تسمية الأمازيغية هو ابن باديس رائد العربية في الثلاثينيات، وليس جاك بينيت الصهيوني وتابعه موحاند باسعود في الستينيات.
هنا تأتي قضية أخرى يثور حولها جدل كبير محوره القول بأن الإسلام هو الذي عرّب الشمال الإفريقي، بينما لم يُعرّب بلدانا أخرى مثل الأناضول أو تركيا وإيران وشبه الجزيرة الهندية.
البعض يرى أنه كان لهذه البلدان حضارات قائمة استوعبت الإسلام وتكاملت معه، بينما يرى آخرون أن اللغة التي كانت سائدة في الشمال الإفريقي عند دخول الإسلام هي لغة قريبة جدا من اللغة العربية، وهي البونيقية المنحدرة من الفنيقية، القريبة جدا من العربية كما يقولون.
هل عرّبَنا الإسلام ؟
ومما يمكن أن يؤكد هذا هو أنه لم يثبت أن قادة الجزائر التاريخيون كانوا يستعملون لغة «التافيناغ» مثلا، برغم أن الكلمة مشتقة من كلمة «الفنيقية»، وربما باستثناء الأب «دونا»، رائد المسيحية الأولى والأصيلة، وهكذا نجد أن أول روائي في التاريخ، وهو أبوليوس»، ابن سوق أهراس، كتب روايته «الحمار الذهبي» باللاتينية القديمة.
ويقول الباحث و المؤرخ الكندي john Kevin Coyle من جامعة Saint Paul University -Ottawa في كتاب Augustunus Afer صفحة 66، وفي مداخلته أثناء الندوة التي أُقيمت في الجزائر-عنابة في 2001 حول «القسيس أوغسطين» (الذي يلقبه الفرنسيون بالقديس) إن اللغة البونيقية/الفينيقية Lingua Afra هي اللغة التي إختارها القسيس أوغسطين لتكون لغة الكنيسة المسيحية، لأنها تُعتبر اللغة الأكثر تداولاً في افريقية، هذا بالطبع مع اللغة اللاتينية التي هي لغة روما.
وهكذا يرى كثيرون أن العربية استقرت في الشمال الإفريقي لأنها كانت قريبة جدا من اللغة المحلية المستعملة في معظم المناطق، وكان الإسلام أداة تثبيت للغة وتدعيم لها، ويبقى أن الأمر يجب أن تتم دراسته بواسطة علماءَ مختصين وليس هواةً مأدلجين أو سياسيين مغرضين.
وآمل أن أستكمل الحديث في أقرب فرصة ممكنة.