الحلقة 1
عانت الجزائر طويلا من بكائيات مفتعلة عن مظلومية لا أساس لها في التعامل مع أي تجمع شعبي أو جهة جغرافية، وتوارث شباب كثيرون هذه المظلومية لأنهم لم يجدوا، أو لم تتح لهم فرصة التعرف على الحقائق التاريخية.
ولقد تناولت أكثر من مرة قضية الأمازيغية، والتي اصطلح عبر عقود على استعمال تعبير «البربرية» في الإشارة لها.
كان الطرح الأول للقضية في بداية العهد الاستعماري طرحا خبيثا اعتمد منطق «فرّق تسُدْ»، بينما سُيّس طرحها على الساحة الوطنية منذ الأربعينيات، في حين أنها، كقضية وطنية تاريخية وعلمية، كان مجالها الأكاديميات والمعاهد الدراسية، وألا يُلقى بها في الشارع لتكون مادة للمزايدات وللمناقصات، وبابا تدخل منه الفتنة إلى بلد بذل أكبر ثمن دفعه شعب على الإطلاق من أجل حريته وانتمائه وكرامته.
سخّر المستعمر الفرنسي كل جهوده لتحويل الاختلاف اللغوي الذي كان تعرفه الجزائر، وغالبا لأنها بلد شاسع جغرافيا، إلى تناقض عرقي، ثم راح يعمل على أساس استخلاف روما، وجودا ودينا ولغة، وهو ما عبر عنه الجنرال شارل دوغول بوضوح في مذكراته (الجزء الرابع – الأمل – ص 55).
يقول عثمان سعدي: ما أن دخل الفرنسيون إلى الجزائر في 1830 حتى راحوا ينشرون الأكاذيب بين البربر، على اعتبار أنهم غير عرب، ويوغلون صدورهم ضد العرب، وركزوا على منطقة القبائل التي كانت تسمى قبل احتلالهم «زواوة»، ولقربها من العاصمة التي كان يتجمع بها معظم عناصر الاستيطان الفرنسي راحوا ينشرون بها الفرنسية والتنصير، لكن سياستهم هذه فشلت طوال القرن والثلث القرن من استعمارهم، وجوبهوا بمقاومة شرسة من قادة زواوة الأشاوس.
للدلالة على ذلك التركيز ينشر إحصائية صدرت في 1892 تدل على أن المدارس الفرنسية المخصصة للجزائريين بمنطقة القبائل كانت تمثل 34 % من سائر المدارس بالقطر الجزائري، علما بأن هذه المنطقة هي ولايتان أو ثلاث من 48 ولاية حاليا، وهو ما يُفسّر اختلاف نسبة التعلّم بين مناطق الجزائر خلال الفترة الاستعمارية.
يورد الباحث ما قاله الكابتن «لوغلاي» المشرف على التعليم في الجزائر وهو يخطب في المعلمين الفرنسيين في بلاد القبائل في القرن التاسع عشر فيقول: «علموا كل شيء للبربر ما عدا العربية والإسلام».
يقول الكاردينال لافيجري CH.M.Lavigerie في مؤتمر التبشير المسيحي الذي عقد سنة 1867 في بلاد القبائل: «إن رسالتنا تتمثل في أن ندمج البربر في حضارتنا التي كانت حضارة آبائهم (ربما القصد هو روما) ينبغي وضع حد لإقامة هؤلاء البربر في قرآنهم، لا بد أن تعطيهم فرنسا الإنجيل، أو ترسلهم إلى الصحراء القاحلة، بعيدا عن العالم المتمدن.
لا بد هنا من التذكير أنه كان يقصد بالبربر حصْريا سكان منطقة معينة محددة، أراد لها الاستعمار أن تكون قاعدة لوجوده فخرج منها من كانوا حربا على ذلك الوجود، كان من بينهم من أطلق عليها الفرنسيون أنفسهم «جان دارك» الجزائر، وهي لالا فاطمة نسومر.
دور زوايا القبائل
في نشر الإسلام
كان مما يثير الفرنسيين أن زوايا منطقة القبائل كانت قلاعا لحماية الإسلام، ومن هنا بدأ تركيزهم على محاربة اللغة العربية، ظنا منهم بأن ضياع العربية هو انهيار للإسلام، وبالتالي فتح الباب على مصراعيه للمسيحية التي سوف تكون قاعدة الوجود الفرنسي في الجزائر. ونجد اليوم أن أعداء العربية من الفرانكولائكيين ودعاة النزعة البربرية أصبحوا مفضوحين لدرجة لا تخفى على القارئ البسيط، فهم يعايرون اللغة العربية بكل النقائص ويدعون بأنها لا تصلح لغة علوم أو تكنولوجيا، ويريدونها مسجونة في المسجد ، كريمة عزيزة كما يُقال نفاقا، ولكنهم يتشبثون بلهجات قديمة لا دور لها، ولا يمكن أن يكون لها دور في العلم والحضارة، وهم يمارسون الابتزاز لكي تفرضها سلطة مركزية ضعيفة عبر برلمان ضعيف، رافضين استفتاء الشعب عليها ديموقراطيا، وليكون الهدف في النهاية هو سيادة اللغة الفرنسية. يمكن العرف على هؤلاء من استعمالهم لتعبير «شمال إفريقيا» بدلا من تعبير «المغرب العربي» الذي استعمله الأمير عبد الكريم الخطابي، الأمازيغي العربي الأصيل.
وهم يدعون أن قادة التعريب أرسلوا أبناءهم للمدارس والجامعات الأجنبية، ويتعمدون عدم ذكر الأسماء لأنهم يكذبون، فأحمد بن نعمان وعثمان سعدي وعبد الرحمن شيبان وعلي بن محمد والعبد الضعيف وكثيرون درس أبناؤهم جميعا في المدارس الجزائرية، ومن لم يبعث بأبنائه هو من لم يكن له أبناء مثل هواري بومدين، الذي درس كل إخوته في الجزائر. من أرسِل للخارج من الطلبة بعثته الجامعة لأنه كان متفوقا للتخصص، وأتحدى أن يذكر لنا الكاذبون اسما واحدا درس أبناؤه في الغرب من غير المقيمين في الغرب.
وهم يثرثرون بأن تعريب المدرسة لم يتبعه تعريب الجامعة، وذهب الطالب في الجامعة، كما يدعون، ضحية سياسة رعناء شوفينية (المقصود بها تعريب المدرسة، وهم يتجاهلون، لأنهم مغرضون، أن الجامعة الجزائرية عرّبت العلوم الإنسانية لتوفر مراجعها، وأبناؤها هم اليوم عماد القضاء والتعليم والجيش والشرطة والإعلام وغير ذلك من مجالات النشاط ، أما العلوم الطبية فلم نقع في حماقة التسرع بتعريبها، لأن المراجع الرئيسية الحديثة هي بالإنجليزية، والغريب أننا عندما حاولنا إدخال اللغة الإنجليزية أقاموا علينا الدنيا دفاعا عن الفرنسي.، وفبركوا، مخابراتيا، فضيحة تسريب أسئلة البكالوريا للتخلص من وزير التربية آنذاك، علي بن محمد، الذي كان يدعو للتوسع في دراسة الإنجليزية.
راح بعض المتعصبين ضد العربية يوسّع من مجال الهجوم ليشمل العرب كلهم، وبالطبع، كان لا بد من الاستعانة بعبد الرحمن بن خلدون، والتركيز على عبارة: إذا عُربتْ خُربتْ، والتي أصبحت لديهم أهم من آية قرآنية عند عبد الله ابن مسعود، في حين أنها لا تصلح حكما مطلقا لأن الواقع يتناقض معها، ولا أقصد بالطبع الواقع الحالي.
وراحوا يستدلون بالحكم الذي أصدره في المقدمة بأن العرب: «إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب لأنهم أمة وحشية استحكمت فيهم عوائد التوحش و أسبابه، فصار لهم خلقا و جبلة، همهم نهب ما عند الناس، ورزقهم في ظلال رماحهم، وعندما تغلبوا وملكوا تقوّض عمرانهم الذي بنوه، وأقفر ساكنه، وعندما اجتاح عرب بنو هلال و بنو سليم بلاد المغرب في القرن الخامس الهجري خرّبوها.
هذا الادعاء ، كما يؤكد الباحث خالد كبير علال، غير صحيح على إطلاقه، ويراه مجازفة من مجازفات ابن خلدون، بدليل أن العرب أنشأوا أوطانا ومدنا قبل الإسلام، وبعضها ما يزال قائما إلى يومنا هذا، كاليمن و مدنها القديمة، و أخرى في باقي مناطق الجزيرة العربية، كمكة المكرمة والمدينة المنورة (يثرب) وأنشأوا أخرى في العصر الإسلامي وهي ما تزال عامرة إلى يومنا هذا كمدينة البصرة والكوفة والقيروان وبغداد وسامراء.
ثم إن العرب أقاموا دولا بعضها عمّر طويلا والآخر لم يُعمّر، شأنهم في ذلك شأن باقي شعوب العالم الأخرى، فمن دولهم التي لم تعمر طولا الخلافة الراشدة عمرت 30سنة، دولة بني أمية بالمشرق عاشت 91 سنة، وأما التي عمرت طولا، فمنها الدولة الأموية بالأندلس، فقد عاشت أكثر من 200 سنة، والدولة العباسية عمرت 524 سنة.
...يتبع