تناولت بعض الأنباء مؤخرا معلومات عن سلسلة من الاجتماعات تقوم بها السلطات الفرنسية لمتابعة الحالة الجزائرية، كان من بينها اجتماع عقد في مجلس الشيوخ خلال الشهر الماضي تحدث فيه السفير الفرنسي في الجزائر ولم يُعلن شيئ عن مضمونه، ثم تردّدت أخبار عن اجتماعات عقدتها المصالح الفرنسية مع عدد من الجزائريين ممن ينشطون في إطار الفكر الانفصالي بتشجيع من السلطات الفرنسية العليا وبعض الدول الشقيقة.
وواضح هنا، أن التطورات التي تعيشها الجزائر والهادفة إلى التخلّص من وضعية تمسّ باستقلالها الوطني أثارت قلق الفرنسيين، وهو ما جعلها تحاول تنظيم تحركات من يطلق عليه هنا حزب فرنسا، وهو، للأمانة، ليس محصورا في الضباط الجزائريين الذين فروا من الجيش الفرنسي والتحقوا بالثورة الجزائرية، والذين كان التركيز عليهم محاولة للتعتيم على دور مئات بل آلاف من المدنيين الذين كانوا في الإدارة الفرنسية، وأشرت لهم في حديث سابق.
ويوضح الباحث الجزائري رشيد بلقرع تطور دور هؤلاء فيقول : «إن حزب فرنسا هو منظومة فكريّـة وَعقَديّة تسلُكُ ضمن مسارٍ مَصَبُّهُ إعتقادٌ راسخ بِتَبَنّي الطّرح الكولونيالي، وَلاءً وإنتماءً حضاريّاً وانتصاراً نفسيّاً وَ نموذجاً تنمويّاً.. مُنطَلقُهُ الإنهزاميّة واعتقادُ النهضة الشاملة في غير الرّافد الوطني والحضاري للجزائر، تستَتْبِعُهُ ولاءاتٌ فرعيّة تنسحب على مُجملِ الأنساق المجتمعية الأخرى في شكل ثنائيّات متقابلة:
وحزب فرنسا هو تَجَلٍّ قديم - مُتجدّد لصراع حضاري بالجزائر بأدوات سياسية وإسنادٍ أدبيّ وَإرتهانٍ اقتصادي للكولون السابق؛ تَعْضُدُهُ نُخَبٌ أكاديميّةٌ مُتوجّسة جرّاء تكوينها الفرنكوفوني؛ تحسبُ كلّ محاولة من الإنعتاق عن المُكوّن الثقافي الفرنساوي إستعداءً لها وعدواناً مُوجّهاً ضدّها بحُكم تكوينها الأكاديمي بالفرنسي».
وواضح أن محاربة الانتماء العربي الإسلامي هو قاعدة التحركات في هذا الاتجاه.
ويمكن أن يُقال الكثير عن العلاقات الجزائرية الفرنسية، لكن أي تحليل لا يمكن أن يقدم صورة موضوعية إذا لم ينطلق من القاعدة الأساسية التي قامت بها وعليها كل عناصر العلاقات بين البلدين، وهي اللغة.
وكان هذا هو الهاجس الرئيسي للرئيس هواري بومدين وسرّ العداء الرهيب الذي كان يلقاه من حزب فرنسا، ومن فرنسا نفسها، وكانت خلفية بومدين أنه يريد صداقة تحالفية مع فرنسا مبنية على مصالحة تاريخية تشبه مصالحة فرنسا ـ دو غول مع ألمانيا ـ أديناور، وكان بالتالي يرفض مصالحة من نوع مصالحة ألمانيا هتلر مع فرنسا بيتان.
لكن اللغة العربية عاشت وضعية عداء متزايد، بلغ ذروته بعد وفاة الرئيس في 1978، ثم بدأت العلاقات بين النظامين الجزائري والفرنسي تعرف دفئا متميزا، وخصوصا عندما تمّت تصفية كثيرين من المحسوبين على التيار العربي الإسلامي وتنامت العلاقات بين الجنرال العربي بلخير، وجاك عتالي، مستشار الرئيس الفرنسي فرانسوا متران.
وتصاعد في تلك المرحلة تعبير كان قد بدأ يتسرّب إلى الساحة على استحياء في عهد الرئيس هواري بومدين، وكان صاحبه الأول والمُبشّر به الكاتب الجزائري «كاتب ياسين».
كان ذلك التعبير يصف اللغة الفرنسية بأنها «غنيمة حرب»، والمقصود هو (Butin de guerre، وليس Putain de guerre، لطفاً) وهو ما يعيد إلى الذاكرة أياما، أو على الأصح قرونا خلت، كان المُقاتل فيها يخوض غمار حرب شرسة، فإذا ظفر فإنه يعود بغنائم ربما كان من بينها سبيّةً يجعل منها محظيّة أو خليلة إذا كانت شابة وجميلة ومتألقة، أو يكلفها بمهام الخادمة أو ما دون ذلك، إذا كانت غير ذلك.
عندنا أصبحنا نعيش العجب العُجاب، فالسبيّة، التي لم تكن «بريجيت باردو» أمس ولا «نانسي عجرم» اليوم، استولت على عقل مالكها وخلبت لبّه، فسلمها لحيته وأسلم لها قيادَه، ولأنها لم تكن تؤمن بالتعددية وكانت ترفض المساواة فقد طردت زوجه وأبناءه، وجاءت بأهلها فأسكنتهم المنزل وسلمتهم مفاتيحه، وأرغمت بعلها «الجايح» على أن يكتب كل أملاكه باسمها، وتعطفت عليه في نهاية الأمر فخصّصت له غرفة مهجورة يلفظ فيها أنفاسهُ الأخيرة، وراحت تقضي نهارها هائمة ومساءها راقصة وليلها عاشقة لأي عابر سرير.
ونتيجة للتراخي المُعيب لمن يعنيهم الأمر أو يجب أن يعنيهم الأمر استطاع «التسونامي» الفرنسي إغراق معظم المجالات، خصوصا مجالات الإعلام والثقافة، وأصاب المُحيط الاجتماعي والاقتصادي ومعالم العمران ومجالات البيئة بأسوأ مظاهر الاستلاب.
وأصبحت بلادنا فريسة للفرنسية السوقية وأبعدها عن المستوى الرفيع وحتى عن اللهجة العادية ِللُغةٍ لعلها من أجمل لغات العالم، وسيطرت على التعاملات الاجتماعية فاحشة لغوية هجينة أفسدت اللغتين، وندّد بها يوما الرئيس بوتفليقة علنا، ثم نسي الأمر كله في اليوم التالي.
وأعترف أنني، عندما تقدمت في بداية الألفية إلى مجلس وزراء الثقافة العرب باقتراح أن تكون الجزائر عاصمة للثقافة العربية عام 2007، كنت أتصوّر أن الاحتفالية، التي ستدوم سنة كاملة، ستكون فرصة سانحة لقيام لتعريب المحيط تعريبا كاملا، وحاولت قبل انطلاقة السنة بشهور طويلة أن ألفت النظر إلى التقصير الملحوظ في هذا المجال، ولكن صيحاتي ذهبت أدراج الرياح.
وطاشت آمال تعريب المُحيط، وأعطى أصحاب القرار في المواقع التنفيذية ظهرهم للقوانين المتعلقة بتعميم اللغة العربية، ولعلهم تصوروا أنهم بذلك ينسجمون مع إرادة مواقع عُلا، تملك لهم نفعا كثيرا وضُرّا أكثر.
وللتذكير، كانت الأغلبية الساحقة من المواطنين في الستينيات وربما في السبعينيات ما زالت تعيش نشوة الاستقلال، ولم تجد من يبصرها بخطورة الواقع اللغوي المتشرذم، وخدرتها الأغنية التي تقول بأن اللغة ما هي إلا وسيلة تخاطب، والتي دعمتها على الفور أسطورة «غنيمة الحرب» التي خدع الناس بها طويلا بدون أن يتساءلوا عمن كان وراءها، ومن هنا عاشت الجزائر القضية الشائكة التي عرفت بقضية المعربين والمفرنسين، وتسببت في إحداث شرخ هائل في المجتمع الجزائري، أضيفت له شروخ جانبية تحت شعارات التعددية الثقافية، جعلت من الصعب أن يكون هناك برنامج ثقافي تلتف حوله الأمة ويعبر عنها ويستلهم آمالها ومعاناتها، أي رسم استراتيجية حقيقية للفعل الثقافي.
كان هدفُ سياسة التعليم خلال مرحلة الاستعمار أساسا القضاءَ على الثقافة العربية، والحيلولة دون أي ارتباط عضوي بين الجزائر وسائر بلدان الوطن العربي، ولم يكن ذاك لإحلال الثقافة الفرنسية مكان الثقافة العربية كما قد يتصوّر البعض، بل كان المطلوب أن يوجّه تعليم الفرنسية لمن تحتاجهم الإدارة الاستعمارية للتواصل مع مجموع الجزائريين، والذين كانوا يُسمّون «الأهالي» (Indigènes) وكان دور أولئك «المتعلمين» القيام بمهمة «القفاز»، يلبسه من يريد ألاّ تتسخ يداه بالتعامل مع الأهالي.
وكان جهاز الإدارة هو أقوى الأجهزة في العقود الأولى للاستقلال، سواء الجهاز الحكومي مثل البلديات والمرافق العامة أو الخدماتيّ كالصحة والكهرباء، وكان الهيكل القاعدي للإدارة الجزائرية موروثا أساسا عن الاستعمار.
وهكذا تحالف الفراغ وعُقد النقص وأطماع السيطرة وهزال حجم الإطارات الوطنية لتفرض الفرنسية نفسها، بداية كلغة رئيسية في التعامل الإداري عبر مختلف مصالح الدولة وأجهزة الخدمات، وهو ما تضاعف بإنشاء المؤسسات الصناعية وزيادة حجم المؤسسات الاجتماعية، لينتهي الأمر بالفرنسية إلى درجة جعلت رئيس حكومة جزائرية، لم يكن من خريجي المدارس الفرنسية، يعتبرها اللغة الوطنية الثانية، ويصرّح بذلك بل ويتصرف على أساسه.
وكان على كلّ من يستهدف ممارسة النشاط في الساحة الثقافية العامة أن يضع هذا في اعتباره، لأنه سيوضح أمامه خريطة الأنصار والخصوم، إن لم أقل ....الأعداء.
ولم تكن الفرانكوفونية الإدارية خطرا في حد ذاتها إذا كانت وضعا مرحليا، كان ضروريا لا شكّ في فترة ما، لكن ما حدث هو أن ذلك أصبح تطبيقا لتعبير «المؤقت الدائم». وكان الخطر الحقيقي هو أن هذه الفرانكوفونية بدأت تتحوّل شيئا فشيئا إلى فرانكوفيلية، وتحوّل الحديث باللغة الفرنسية إلى تفكير بها وارتباط بكل مقوماتها ومظاهرها وامتداداتها السياسية والاقتصادية والفنية، فأضحت استلابا.
وبدا أن هناك عملا مدروسا تقوم بتنفيذه جماعات نشطة يجمع بعضها، وفي وجود قيادات مازالت رائحة البارود في ثيابها، الخجل من الماضي، ويُحرك بعضها الخوف من المستقبل وهم يرون طلائع بدأت تخرج من المدرسة الجزائرية، وبلغها ما كنت أسمعه من الرئيس هواري بومدين عندما كان يسمع مني تعبيرات تتوجس من الغد، فكان يقول لي ضاحكا: هناك جيل صاعد جديد سيكنسكم جميعا.
وسنجد فيما بعد أن عملا حثيثا سيتم تنفيذه لتحطيم المدرسة الجزائرية الوطنية لصالح المدارس الخاصة، وكثير منها تدعمّه سفارات أجنبية، ويتحالف هذا مع محيط تجري فرنسته أولا بأول، وهكذا يتمّ تكوين نخبة جديدة تقود البلاد في المستقبل، لن يكون ولاؤها بأي حال من الأحوال للوطن ولمبادئ ثورة نوفمبر.
وسنلاحظ أن بعض من أفسدوا الثورة الصناعية كانوا من الجهلة الذين عهد لهم بإدارة هذه المصانع لمجرد أنهم يعرفون اللغة الفرنسية، وظن بعض كبار المسؤولين أن اللغة تعطيهم في حدّ ذاتها الخبرة التقنية المطلوبة، حيث تمّ بناء مصانع للورق في أماكن لا توجد فيها مياه، وبعض هؤلاء المسؤولين هم اليوم في فرنسا، حيث يقال أن بعضهم يمتلك هناك عقارات حصلوا عليها بفضل المسؤوليات التي احتكروها في مرحلة معينة.
وسيكون من حقّ دعاة الفرنسية أن يستهينوا بالعربية، وهم يرون أن معظم علماء الدين وروّاد اللغة العربية أرسلوا بأبنائهم إلى المدارس والجامعات الفرنسية، وعدد محدود منهم فقط هو الذي بعث بأبنائه إلى معهد ابن باديس والزيتونة والقرويين والأزهر، وسنجد فيما بعد أن بعض أولئك الأبناء استقروا في بلاد الجن والملائكة، وراحوا يرتزقون من إسلام ترضى عنه وزارة الداخلية الفرنسية، وهو الإسلام الذي يمثله أئمة من نوع ذلك الذي زار إسرائيل مؤخرا وراح يعانق ضباط الصهاينة.