أنتج الفقر والعوز..الأزهار التي تفتحت من بذور جمعية العلماء..والثمار التي أنتجتها هذه الأزهار ونضجت في معاهد الشرق العربي..وكان هذا هو الجيش الذي وضعت الأقدار على كاهله عبء إعطاء التعريب مفهومه المتكامل.
ولقد كان عمل المثقف العربي قبل الاستقلال واحتكاكه بالإدارة محدودا..مما أفقده كثيرا من لزوميات الخبرة الإدارية على مستوى الدولة..وهكذا وبرغم الرصيد الذي أضيف إلى الصف العربي من خريجي المعاهد العربية العليا بعد الإستقلال..فإنه ظل من الناحية النوعية عديم الأهمية كعنصر موجه، وكأداة فعالة لتحقيق التعريب، ذلك لأنه – وفقا للإستراتيجية الموضوعة – دفع دفعا إلى معارك جانبية لإثبات الوجود الفردي..امتصاصا لجهده وفعاليته..ومنعا له من التحرك كمجموع متناسق.
الإستراتيجية كانت تقتضي أن يُشلّ المثقفون بالعربية..كمجموع، وأن يبدوا كأفراد عاجزين عن العمل، بينما يبدو الناطقون بالغو»!! بمظهر العارف الفاهم المدرك..رجال المواقف والشدائد.
وكانت تقتضي بأن تظهر الفرنسية كأنها قدر لابد منه، بينما تدمغ العربية بكل نقيصة ممكنة..من التأخر والتخلف إلى..الاستعمار..أي والله..الاستعمار!!
هنا..والتزاما أمام الضمير..أقف لأقرر حقيقة بسيطة..كانت أساسا للكثير..يقولون هنا – تبريرا – هي السبب، ويقولون هناك – تحذيرا – لقد ضخمت وبولغ في تقدير أثره..ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بها كواقع حي عشناه.
الحقيقة..هي أن واردات الشرق العربي – وهو رمز العروبة في بلدنا – لم تكن كلها فوق مستوى الشبهات..كانت هناك الأخطاء على المستوى السياسي والفردي..وكانت الحماقات والهنات والتفاهات..حقائق لا تنكر..الخلاف الوحيد هو على الكم..لا على النوع..ولكن ..
^• كان هناك من ينفخ على النار ليزيدها اشتعالا.
^•وكان هناك من حاول إطفاءها..بالبترول.
^ وكان هناك من يملك الماء ويعجز عن استعماله، أو يقدر ولا يريد.
^ وكان هناك الذي ينتظر نتيجة المعركة.
صدم شعبنا بما رأى..بما عرض عليه تحت العدسات المكبرة..وكانت ردود الفعل كارثة على الإيمان بالتعريب.
وهكذا أصبح عندنا ضيق الأفق الذي لم يحاول البحث عن جوانب الخير، والذي كان من كسل الضمير بحيث لم يكلف نفسه عناء التفكير..كالقروي الساذج..يصدق فعلا أن الساحر يخرج الأرانب والطيور من قبعته..وانضم إليه صديقنا القديم الذي يؤمن دائما بأن العربية لغة الجنة..فقط، ومعهم الشاب العصري..صديق الخنافس ومريد بريجيت باردو (ولم يظهر في الأمة العربية من يمكنه ملء فراغ الخنافس وبريجيت)، هذا بدون أن ننسى فتاتنا المتقدمة..ولها العذر..فكريستيان ديور ليس عربيا..وهي لا تستغنى عن كريستيان ديور.
وازداد رصيد القوة المضادة للتعريب..في بلد مازال تليفزيونه تابعا لفرنسا، في بلد تنهال عليه مئات الأطنان من الصحف والمجلات والكتب الفرنسية وفي بلد تبلغ نسبة الأفلام الناطقة بالفرنسية فيه حتى (الأمريكية منها والإنجليزية) أكثر من تسعين في المائة، وفي بلد يضيع فيه الخطاب المعنون بالعربية وتهمل الشكوى أو الطلب المكتوب بغير الفرنسية، في بلد تنظم فيه حملات محو الأمية للفلاحين والعمال.. بالفرنسية (وافهم يا لفاهم)..وفي بلد كهذا..يصبح الحديث عن التعريب – بعد ثلاث سنوات من الاستقلال – وعبر بحر من الدماء والآلام..يصبح الحديث أضحوكة باكية..وسخرية مرة.
قصة الثّيران الثّلاثة
السؤال يعود ملحا..كألم الأضراس..
^المثقّفون بالعربية..حماة هذه اللغة ودعاتها ودعائهما..أين كانوا؟ كيف عجزوا عن صد هذا التيارات؟ ولماذا – وهم الصورة الحقيقية للشعب المناضل الصامد – لم يستطيعوا فتح أعين شعبهم..على الخدعة التي جازت عليه..قرنا وربع..وثلاث سنوات..لقد كانوا هناك..ولكن..عمي مليح..وزادو الهوا والريح!!
وقصة الثيران الثلاثة وأسد الغابة تكررت..أكاد أقول..بكل تفاصيلها.
بقدرة قادر..خلقت هوة سحيقة بين الأساتذة الذين حملوا مشعل العروبة في ليل الطغيان الحالك وبين أبنائهم الذين أتموا دراساتهم في جامعات العالم العربي..وفات أولئك أن نجاح الابن عنوان لقوة أبيه..كما فات هؤلاء أن الغصن جزء من الشجرة.
وإذا كان الذين استكملوا دراساتهم تبعا للنظام العلمي المنهجي في الجامعات والمعاهد العليا أقدر الناس على رسم البرامج الدقيقة للتعريب – مثلهم في ذلك مثل الجندي الذي تشرب التاكتيك العسكري بالصورة الأكاديمية المنهجية – فإن هذه المقدرة كان يجب أن تلتقي مع خبرة آبائهم الروحيين، التي استمدت من واقع التجارب اليومية عبر العشرات من السنين..كانوا فيها مكافحي الجبال الصامدين.
ولكن الجهود شتّتت..ونظر المكافح القديم إلى ابنه بشك..وتوجس..بل وساهم – مدركا..أم متجاهلا..– في محاولة تحطيمه..ونظر الابن إلى أبيه في ألم..ثم في كره..وانقسم الصف العربي..وتُرك الأبناء وحدهم في الميدان.
والباقي..كله معروف..فعدم الاعتراف بشهاداتهم العلمية الجامعية وعزلهم في ساقية التعليم..معصوبي العينين بثقل العمل اليومي وضغط المطالب العائلية والعاهات الناتجة عن السير الطويل في الطريق الشائك المظلم..حولت حزمة العصي الصلبة إلى عصي متناثرة سهل كسرها وتحطيمها.
بعثيّون أصوليّون!!
تنفيذا لسياسة العزل دمغ الشباب الواعي بالانحراف المذهبي بعد دراستهم في المشرق العربي (في بلدان ما زالت الخطوط الرئيسية لإيديولوجيتها في طور الإعداد للاستهلاك الداخلي!!)..وفات الجميع أن تهمة كهذه – إن صح توجيهها لمواطن – يجب أن توجه إلى الذين درسوا حيث تكون المذاهب السياسية جزءا رئيسيا من الدراسة والعمل اليومي (والأمثلة معروفة).
•المؤلم هنا هو أن الآباء ساهموا في محاولة العزل.
•والمثير هنا أن المثقف العربي – بما هو عليه من ضعف ناتج عن الفردية – أصبح يتحرج من الدفاع عن وجهة نظره حتى لا يتهم بالتبعية ويحارب في رزقه..في أمنه وسلامته.
وهكذا قذف المثقف العربي بعيدا عن أبراج المراقبة والتوجيه..والقط مسجون..والفئران تعبث كما تريد.
ومع كل هذا وقف المثقف العربي صامدا..وأدّى واجبه – كفرد – على أكمل وجه..رغم كل شيء..رغم الداء والأعداء والحصار النفسي والإداري..وطعنات الأصدقاء قبل الأعداء.
•وليتني كنت أستطيع الإشارة إلى الأسماء.
ليتني كنت أستطيع أن أضع نقطا على الحروف.
•خفت أن أتّهم بالتّحيّز.
•فضلت أن أتّهم بالتّعقيد.
لقد سكبت مدادي طويلا أهاجم تقاعس الصف العربي..ولكنّني هنا أنحني احتراما للذين أثبتوا جدارتهم فيما أسند إليهم من أعمال حتى ولو كان غيرهم هو الذي حصل على شرف انجازها.
في الوظائف الإدارية المتواضعة..في الإذاعة..في الصحافة الوطنية في مجال التوجيه الديني بدون «انديس» مناسب أو تقدير..أسماء مازالت مجهولة..تعمل في صمت الشهيد..رغم كل شيء..رغم كل شيء..
الهث وراء القلم..وراء مئات الآلاف من الصور..حاولت كبح جماح قلمي داخل سور «الانطباعات»..وهو في رعونته ينطلق بي بعيدا..بعيدا..إلى آفاق البحث المتكامل..إلى غابات يُخيفني ظلامها ولا آمن على نفسي فيها..عثراتها أدمت من سقطوا ومتاهاتها أعجزت من حاولوا الخروج.
..وعمدًا ومع سبق الإصرار أبتر هذا الحديث..لأدع لرفقاء السلاح الفرصة..وبكل الإرهاق الذي نتج عن محاولة البحث عن التشخيص الدقيق للمريض الزمن..وتحليل المظاهر المرضية وأسبابها الباثولوجية..أتوقف..
وأظل دائما في الانتظار..انتظار الآراء..التحليلات..
آملا في صحوة أخرى للمثقف العربي..قبل أن يفوت الوقت ويقضي النزيف على المريض.
ملحوظة: نشر هذا المقال في مجلة «الجيش» عدد ديسمبر 1966 (1966) ويتناول السنوات الأولى للاستقلال، وأعيدُ نشره في 2019 كتعليق ضمني على ردود الفعل التي أثارها موضوع البكالوريا هذا العام، رحم الله الفضيل الورتلاني، الأمازيغي القبائلي الحرّ.
انتهى