فقدت الجزائر بالأمس واحدا من أكثر أصدقائها إخلاصا ووفاء وتقديرا هو الدبلوماسي المصري الكبير إبراهيم يسري، سفير مصر في الجزائر في منتصف التسعينيات، والذي كان من أبرز السفراء الذين عرفتهم الجزائر، وعرف بجهوده الرائعة في توثيق الصلات بين البلدين، كما كان أحد أبرز مناصري القضية الفلسطينية ورافضي التطبيع في مصر.
كان السفير قد احتفل في مطلع هذا الشهر، جوان (1930) بعيد مولده بكلمات أعطت الشعور بأنه كان يستشعر قرب النهاية، حيث كتب في موقعه على الفيس بوك: “اليوم أقول مع كامل الشناوي.. جئت يا يوم مولدي.. عدت أيها الشقي.. الصبا أفلت من يدي.. وغزا الشيب مفرقي.. ليتك يا يوم مولدي.. كنت يوما بلا غد”.
ورغم أن إبراهيم يسري تقاعد عن العمل الدبلوماسي إثر انتهاء مهمته في الجزائر إلا أنه ظل على اتصال بكل الأصدقاء الذين عرفهم، وكان يتابع بكل اهتمام أحداث الجزائر، وخصوصا ما تعيشه منذ 22 فبراير 2019.
وكانت اتفاقية الغاز المصري مع إسرائيل من أهم المعارك التي خاضها الفقيد الكبير، برغم السن والداء والأعداء، وشارك في الدفاع عن مصرية جزيرتي “تيران وصنافير”، حيث حصل على الحكم التاريخي بمصرية الجزيرتين، فضلا عن القضايا التي رفعها ضد إغلاق معبر رفح، وضد إغلاق الشوارع المحيطة بمنزل السفير الإسرائيلي في حي المعادي جنوبي القاهرة، والشوارع المحيطة بالسفارة الأميركية في حي “غاردن سيتي” بوسط القاهرة.
حصل يسري على ليسانس الحقوق عام 1956 من جامعة عين شمس المصرية، وعلى الماجستير في العلوم السياسية عام 1961 من جامعة القاهرة، وسجّل رسالة دكتوراه بكلية الحقوق جامعة القاهرة.
وفي عام 1963، عندما أطاح البعث بنظام عبد الكريم قاسم، كان ابراهيم يسري يشغل منصب سكرتير ثاني في السفارة المصرية بالعراق، وأصدر وقتها الرئيس جمال عبد الناصر أوامره بأن من حق الدبلوماسيين العاملين بالسفارة أن ينقلوا إلى سفارة مصرية أخرى في أي مكان في العالم يختارونه، وأن يعوضوا عن الالتزامات التى تحملوها في شراء أثاث أو سيارة أو غيرها، وقرر إبراهيم يسري الاستمرار في منصبه في بغداد.
وإلى جانب العراق والجزائر مثّل الفقيد مصر خلال سنوات عمله الدبلوماسي في رومانيا وبريطانيا والهند، كما ترأس المحكمة الإدارية لمنظمة الوحدة الإفريقية من 1983 إلى 1985، وترأس اللجنة الفنية في مفاوضات طابا بين مصر وإسرائيل، والتي أعدت شروط التسوية بين الطرفين، كما كان عضوا في اللجنة القومية لطابا ونائبا لرئيس وفد مصر المفاوض في طابا، ووقع اتفاقية استرداد طابا كنائب لرئيس الوفد المصري المفاوض.
وهذا يوضح مستوى السفراء الذين كانوا يمثلون بلادهم في الجزائر في تلك المرحلة.
ويبقى أن من أهم نشاطاته السياسية الدعوى التي أقامها ضد الحكومة لإلغاء الاتفاقية السرية لتوريد الغاز إلى إسرائيل، والتي فضح فيها الاستغلال الإسرائيلي لمصر حيث كان الغاز يباع لإسرائيل بأثمان بخسة، وكان مما أثار الفقيد أن خط أنبوب الغاز من العريش لعسقلان بطول ألف كيلومتر هو الخط الذي سار عليه ألوف الجنود المصريين واستشهدوا فيه، وأثاره أيضا أن نهب إسرائيل للغاز المصري سيمتد 17 سنة، وأثاره أن اتفاقية التصوير لم تعرض على مجلس الشعب.
وقد لاحقته التهديدات والتحقيقات بسبب الادعاءات الكيدية أنه يروج أخبارا كاذبة، لكنه صمد، والتف حوله أكثر من ألف متضامن في حملة “لا لتصدير الغاز”، سددوا عنه الغرامات المقررة، والتي كانت نحو 16 ألف جنيه (كان الدولار أمريكي يومها بنحو ستة جنيهات) وأخيرا حكمت المحكمة الإدارية العليا برفع أسعار الغاز المصدر لإسرائيل، وتقنين كمياته بحيث يسد الاحتياجات المحلية أولا.
وكان مما يُسجّل له من مواقف لها أهميتها بل وطرافتها أنه تقدم ببلاغ للنائب العام المصري يطلب فيه اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” عند زيارته لمصر، لمسئوليته عن مقتل 1500 فلسطينى وإصابة الآلاف في “هولوكوست” غزة.، الذي ما زالت مدينة هاشم تعاني إلى اليوم من آثاره، والوطن العربي يعيش ما أسماه عبد الحميد مهري “الزمن الرديء”
رحم الله إبراهيم يُسري وأسكنه فسيح جنانه، وخالص العزاء لأسرته وللمناضلين المصريين الذين خسروا بوفاته رجلا من الصعب تعويضه بعشرات الرجال.