عرف الأسبوع الخامس عشر من الحراك الشعبي الجزائري عدة أحداث كان لكل منها انعكاس واضح على الشارع الجزائري، وإن كانت فضائياتنا المتلفزة في معظمها لم تبذل جهودا في البحث والاستقصاء والتحليل واكتفت باستشارة من وضع نفسه أمام كاميراتها في ساحة أحداث، كثر فيها الخبراء والمحللون الإستراتيجيون، وأصبح هناك من يسارع إلى حجز مكان له في جوانبها قبل خروج المصلين من صلاة الجمعة، وهم الرصيد الرئيسي للحراك الشعبي.
الهدف استبعاد الرأي الانتخابي للجماهير
هكذا باختصار شديد يتضح أن القوم لا يريدون الانتخابات، والديموقراطية التي كانوا يرفعون شعارها لتدمير الاتجاهات الدينية والوطنية والتي تسير عليها دول العالم المتقدم أصبحت رجسا من عمل الشيطان، وهو ما يُعلق عليه الشاعر محمد تميمي قائلا بأن معنى هذا أنّ هناك أقلية لا تريد التحاكم إلى الصندوق ولا للانتخاب العام، مدعية بأن الأغلبية ستتحكم بذلك في الأقلية، وإذن، فالواجب البحث عن طريقة أخرى تجعل الأقلية تتحكم في الأغلبية، وهذه الطريقة ليست سوى (التعيين، كما حدث في 1992).
يتأكد بالتالي أن القضية ليست مشكلة تنحية باءات أو إبعاد مؤسسة الجيش أو حتى إيجاد لجنة مستقلة ونزيهة للانتخابات، القضية هي أن الأقلية لا تريد أن تذهب إلى انتخابات لن تفوز فيها، وهذه الأقلية ستفعل كل شيء وتذهب كل مذهب لإفشال الانتخابات التي تجعل الحكم ينتقل من الأقلية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال، إلى الأغلبية التي عاشت منذ الاستقلال في الظل وتحت الهيمنة والاستفزاز، وصبرت حتى ملّ الصبْر منها.
يحاول الأديب بشاعريته أن يجد حلاّ توافقيا للمشكلة فيقول: ما علينا إلا أن نتفق على (قانون محاصصة) يكون فيه للأقلية من النفوذ والمناصب مع ما يتناسب مع عددها، ويكون للأكثرية من ذلك ما يناسب عددها.
لكن المشكل هو أن الأقلية تريد أن تأخذ مكان الأكثرية في السلطة والثروة، بدون انتخاب.
هنا نفهم لماذا يستميت القوم لإفشال الانتخابات، ومنهم من صرح بأنه لا انتخابات حتى ولو سقطت كل الباءات، وهو ما كان يجب أن يفهمه الجميع، لأنه الشيء الوحيد الذي سيبين ضآلة حجتهم وسيكشف زيفهم، وإن سقطت الانتخابات تحت أي مبرر فإن الذي سيسقط حينها هو جزائر الأكثرية، وهي أكثرية لم تحاول يوما سحق الأقلية الوطنية، ولعل العكس هو الذي حدث، ونظرة على توزيع المناصب والإمكانيات على أبناء الجزائر كلهم تكشف حقائق قد ستصدم الجميع، لأنها ستكشف كم عانى شعبنا من دكتاتورية الأقلية في معظم المجالات .
هكذا، فإن معنى كلام الحقوقي الكبير، كما يقول التميمي: نحكمكم كما كنا نفعل دائما..أو نقتلكم كما فعلنا في التسعينيات) .. اختاروا ..
من هنا تملكت البعض حالة هيستيريا متشنجة، نتيجة فشلهم في خداع المؤسسة العسكرية وفرض منطقهم على الحراك الشعبي نفسه، بل وعلى كثيرين من الشخصيات الوطنية التي بدأت تكتشف مؤخرا أن هناك من يحاول أكل الشوك بفمها.
هنا حدثت عملية رأى فيها الكثيرون عملية التفاف وتوزيع أدوار، وذكرت الكثيرين بخديعة تاريخية كانت شرارة الفتنة الكبرى، وهي الخديعة التي وقع فيها أبو موسى الأشعري عندما كلف بالتحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
هكذا سُرّبَ بيان نُسب لعدد من رجال الدين، وكانت عناصره هي نفسها المطالب المتناقضة مع الدستور والتي كانت تطالب بها اتجاهات لائكية فشلت في محاولة فرضها، وانفضت الجماهير عن كثير من التجمعات التي كانت تنادي بها، خصوصا عندما برزت لافتات تهاجم رئيس أركان المؤسسة العسكرية بل وتتهمه بالخيانة، وتزامن ذلك مع حملات بعض الصحف الفرنسية ضد المؤسسة العسكرية الجزائرية.
استعمل بيان الشيوخ نفس تعبير: «الشعب مصدر للسلطة»، مع الجملة التي تردد مضمونها في الأسابيع الأخيرة والتي تقول إن «الاستفتاء الذي قدمه الشعب في مختلف جمعات حراكه ليُغني عن أي استفتاء آخر» !!، وهذه الجملة تمثل رفضا صريحا واضحا لنص المادتين (8) و (9) الذي يوضح أن الشعب «يمارس سلطته عن طريق الهياكل المنتخبة»، فنحن لسنا في أثينا، بجانب أن اعتبار الاستفتاء بديلا عن الانتخابات هو صياغة دبلوماسة ماكرة لا يستعملها علماء الفقه والشريعة الأجلاء.
من يضع الجرس في رقبة القّط
يقول بلاغ رجال الدين بضرورة إسناد المرحلة الانتقالية (دائما المرحلة الانتقالية) لمن «يحظى بموافقة أغلبية الشعب لتولي مسؤولية قيادة الوطن نحو انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية»، وهو كلام جميل عامّ مُرسل، يمكن أن يقوله أي جلوس في مقهًى عام، لكن المشكل الحقيقي هو كيفية تحقيق هذا المطلب وليس مجرد التغني به والتعنت في الإصرار عليه للخروج عن نص الدستور.
كان الغريب أنني لم أجد تعبير «الانتماء العربي الإسلامي» في بيان السادة العلماء على الإطلاق، ولم تكن هناك إشارة لثلاثية ابن باديس عن الجزائر والإسلام والعربية، بل إن كلمة العربية لم تذكر أبدا في البلاغ الذي كان من بين من قيل أنهم وقعوه شخصيات دينية سامية متقاعدة، منهم من ينتمون لمناطق أعلن العديد من رؤساء بلدياتها علنا انسحابهم من عملية تنظيم الانتخابات الرئاسية، في محاولة لإفشال الجهد المبذول للخروج من الأزمة بتأثير التوجهات اللائكية الرافضة للانتخابات.
وكان الأكثر غرابة أن البيان، وهو يقدم الاقتراحات السياسية، لم يُحاول إدانة الدعوات الانفصالية الإجرامية التي عرفتها نفس المنطقة مؤخرا، ولم يعبر عن أسفه بكلمة واحدة عن السباب الذي وجّه من نفس الاتجاهات إلى قائد المؤسسة العسكرية، ولم يُشرْ، ولو بشكل غير مباشر، إلى ضرورة احترام كل الآراء والتوجهات التي تصدر عن الشخصيات الوطنية، بغض النظر عن أي اختلاف في الرأي.
هكذا رأى كثيرون أن التوجهات اللائكية لجأت إلى عملية التفاف، فقررت أن تتستر وراء شخصيات دينية مرموقة، أي أن الأمر ببساطة هو عملية توزيع أدوار استعمل فيها أسلوب سياسوي أساء إلى قمم فقهية جزائرية، لم يُعرف عنها تخصص في القوانين الدستورية و اهتمام بالتنظيمات السياسية.
مع التقدير الكبير لعلمائنا الأجلاء فإن رد الفعل كان سلبيا إلى حد كبير، برغم الإيحاء بأن البيان جاء استجابة لدعوات المؤسسة العسكرية، وتزايد الشعور بأن كثرة المبادرات غير المدروسة سوف تخلق فتنة في الساحة السياسية والدينية على حد سواء، وقد تؤدي إلى نوع من الفوضى ينجح في تحقيق ما سوف ترضى عنه بلاد الجن والملائكة وعشاقها ومريدوها.
آخر الكلام:
- كتب معلق كريم جدا قائلا عن أخيكم: نلاحظ أن الأستاذ المحترم الذي كان يزور صفحات «رأي اليوم» وقبلها «القدس العربي» مرة أو مرتين في الشهر أصبح مقيما دائما على صفحات هذه الجريدة الغراء وذلك منذ مدة ليست قصيرة لم تتصادف مع بداية الحراك لنعزوها لتحرر الكلمة، بل ابتداء تقريبا من الجمعة السادسة أو السابعة.
والمعلق على حق باستثناء أنني بدأت كتاباتي في «رأي اليوم» قبل الحراك الشعبي في الجزائر، وكنت تحمست للكتابة وأنا أرى أمامي كارثة مقبلة اسمها «صفقة القرن»، من الجبن ألا أحاول التصدي لها بقدر ما أستطيع.
الذي حدث هو أنني كنت في العشرية الماضية رئيسا للجنة الشؤون الخارجية بمجلس الأمة وعضوا في هيئة المستشارين لمؤسسة الفكر العربي وعضوا في مجلس جائزة الصحافة بدبي وممثلا للبرلمان الجزائري في اتحاد البرلمانات الإسلامي وعضوا فاعلا في متحف المجاهد بالعاصمة الجزائرية، وتمكنت في الوقت نفسه من إصدار نحو 14 كتابا وعشرات البرامج المتلفزة بجانب كتابات متواصلة احتضنتها الأهرام ووجهة نظر في مصر والأيام في المغرب والصباح في تونس والراية في قطر والعديد من الصحف الجزائرية بالعربية وبالفرنسية.
اليوم، وقد استرحت من مسؤولياتي السياسية والبرلمانية وتقدم بي العمر، أصبحت مجرد إطار متقاعد «فارغ شغل»، هوايته القلم، ولهذا تفرغت للكتابة، ولو كنا ما نزال في العهد البائد !! حيث كانت تسود الأخلاقيات الكريمة، لقرأت لمن يقول لي: الله يبارك، الله يقويك، الله يعطيك الصحة أو الله يعطيك العافية بالتعبير المشرقي، بدلا من الاستنكار المبطن الذي لا مكان له لدى الأخيار، ولهذا لا أملك، والعصر عصر الرداءة، إلا أن أقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وحمدا لله الذي وهبني القوة والإرادة لكي أواصل الجهاد بالقلم، ولا أصبح شيئا مثل نباتات الزينة في حديقة مهملة، وأن أعبر عما أؤمن به قبل أن يأتيني هادم اللذات ومفرق الجماعات، ويستريح مني من لا يرى راحة في وجودي.
- شكرا جزيلا لكل الذين يتفضلون بالتعليق على كتاباتي بدون مناقشة النقاط التي أثرتها في الحديث، ومكتفين بأحاديث مرسلة ونصائح هلامية وأحكام مطلقة، وهذا تأكيد بأن ما كتبته ليس بعيدا عن الصواب، وهم بهذا يعفونني من الدخول في جدل خاتمته الصداع.
وكل عام وأنتم بخير.
انتهى