انطباعات

الجزائـر: نيــوب اللّيـــث

محيي الدين عميمور

عندما بدأ الرئيس الشاذلي بن جديد في الاستعداد لتولي مسؤولياته الرئاسية بعد وفاة الرئيس هواري بومدين استدعى ثلاثة من إطارات رئاسة الجمهورية الذين عملوا إلى جانب الراحل ليقول لكل منهم مباشرة بأنه يريد منه أن يظل إلى جانبه في انطلاقته نحو أداء المهمة السامية التي وضعها الشعب على عاتقه. كان الثلاثة هم مدير التشريفات مولود حمروش ومدير الأمن الرئاسي عبد الملك كركب مدير الأمن الرئاسي والمستشار الإعلامي، خادمكم المطيع.

  أول ما عشته بجانب الرئيس، الذي كانت مهمتي الأساسية صياغة صورته الجماهيرية، والحرص على ألا تكون تكرار «فوتوكبيا» للصورة الجماهيرية للرئيس الراحل، وهكذا رأيت إعطاء الرئيس صورة رجل الأسرة العادي الذي فرضت عليه الظروف تحمل مسؤولية كبرى لعله لم يكن مستعدا لها، وبالتالي الابتعاد عن كل تقليد لصورة الزعيم التاريخي الملهم.
 كان قدوتي في ذلك ما درسته عن «كليمنت آتلي»، السياسي المتواضع، الذي اختاره البريطانيون خليفة لعملاق الحرب العالمية الثانية «ونستون تشرشل»، وكذلك هنري ترومان»، البائع البسيط، الذي انتخبه الأمريكان خليفة لرجل العقد الجديد (NEW DEAL) «فرانكلين روزفلت» الذي جعل أمريكا أقوى قوة دولية في كل المجالات، وربما كان إلى جانبهم الرئيس «أنور السادات»، وهو من جاء بعد «جمال عبد الناصر»، وهوَ من هوَ.
 ليس سرّا أن كل محاولة لتقليد رئيس سابق كان ملء السمع والبصر سنكون مدعاة للسخرية قد تؤدي إلى تداعيات تسيئ إلى هيبة الدولة، وهو ما كان واحدا من أسباب اقتراحي شعار «من أجل حياة أفضل» في المؤتمر الاستثنائي الذي عقد في العام التالي، والذي أسجل أنني أنا المسؤول الأول عن صياغته واختياره. في تلك المرحلة كان كثيرون يرون في الرئيس الشاذلي رجلا طيبا ضعيفا، بحيث كان من رفاقه من يقول عنه إنه لن يستمر أكثر من ستة أشهر.
 كنت بالطبع أواجه كل هذا بما يجب أن يواجَه به، ولقيت التفهم والدعم والتفهم من جانب جلّ الإعلاميين الجزائريين والأصدقاء من غيرهم، وكان من أقدر من فهم وتجاوب معي المرحوم كمال بلقاسم، الذي التقط مني، وهو المُفرنس، بيت الشعر القائل: إذا رأيت نيوب الليث بارزة * فلا تظنن أن الليث يبتسم.
تذكرت كل هذا وأنا أتابع مسيرة عبد القادر بن صالح في رئاسة الدولة (ولقب رئيس الجمهورية لا يُعطى إلا للرئيس المنتخب جماهيريا) وأحاول تقييم تحركاته والتعرف على دوافعها ومصادر قوته في التعامل معها.
 لم أحاول بالطبع الاتصال به، فقد كانت علاقاتي معه بالغة السوء، خصوصا عندما حدث بيننا تنافر خلال رئاستي للجنة الشؤون الخارجية في بداية العشرية الجديدة ونتيجة لتحفظي على بعض التصرفات، مما دفعه على ما يبدو إلى عدم اصطحابي في رحلته الرسمية التي قام بها إلى باكستان، في حين كنت المؤهل الوحيد القادر على أن يكون ذا فائدة للوفد، حيث كنت سفيرا لنحو ثلاث سنوات في ذلك البلد، ولي معرفة جيدة مع رئيسي الجمهورية، غلام إسحاق خان وبعده فاروق لوغاري، بجانب أنني كنت السفير الوحيد الذي تمكن من تنظيم رحلة رئيسين لوزراء باكستان لزيارة الجزائر، بنازير بهوتو ونواز شريف وذلك في أقل من عامين من العمل في الميدان، وبرغم شنآن كبير كان بين البلدين بخصوص جواز سفر الرئيس أحمد بن بله، كما نظمت زيارة وزير الخارجية صاحب زاده يعقوب خان، الذي كان الوزير الجزائري بوعلام بسايح هو صاحب مبادرة دعوته، وأعتقد أنه كان لي دور متواضع في إقناعه بتغيير موقف باكستان من قضية الصحراء الغربية، لكيلا تظل تأييدا مطلقا لموقف الأشقاء في المغرب، بل تنسجم أكثر مع قرارات الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية.
 لم ألتق رئيس مجلس الأمة إلا بعد سنوات من خروجي من المجلس وكانت مناسبة اجتماعية اضطرارية في عشاء يوم «الفرق» إثر وفاة الصديق مراد مدلسي.
 أعتذر عن هذه الجولة الذاتية الواسعة التي أردتها خلفية للتعبير عن استيائي لما أحس به من مشاعر الاستخفاف برئاسة عبد القادر بن صالح للدولة، والتي قلت عنها إنها، والتشكيل الحكومي الذي تم تكوينه، كانت قنابل موقوتة وضعت بتعمدٍ مؤسف في طريق المرحلة التي تلت الاستقالة المتعجلة للرئيس عبد العزيز بو تفليقة، والتي بدت وكأنها أقرب إلى الانتقام منها إلى التخلص من عبء الأمانة، التي يقول القرءان عمّن حملها إنه كان ظلوما جهولا.
ولكن ما حدث حدث، وليس لأي منا مسؤولية عنه أو قدرة على تغييره في إطار قوانين البلاد.
ولقد قلت وما زلت أقول إن منطق الدولة يفترض أن يُعطى لرئيسها من قبل المجموع الوطني الاحترام الذي يفرضه المنصب، وبغض النظر عن الشخص الذي يتولاه، لكن العكس هو الذي حدث، ورفضت بعض قيادات المعارضة، بإعلانات تشهيرية لم تكن لائقة، اليد الممدودة للحوار، وهو ما اعتبره البعض محاولة لاستجداء رضا الشباب الثائر، في حين أن العاقل يعرف أن عواطف الحشود تقول دائما : هل من مزيد.
  كانت النتيجة أن عددا من وزراء الحكومة الجديدة أسيئ استقبالهم خلال بعض الزيارات التي قاموا بها إلى مواقع عمل تابعة لوزارتهم، وبعض ما حدث كان من فعل دهماء بعضها كان يطالب بحقوق اجتماعية غير مبررة، واختلط بهم صبيان رأوها فرصة لاستعمال «السليفي».
 من هنا كان اختلافي بكل احترام مع الدكتور أحمد طالب في بيانه ورسالته، عندما أحسست أنه، في موقفه الشجاع وفي كل ما تقدم به من أفكار متميزة، تجاهل المسؤول الذي يجلس في مكتب رئيس الجمهورية الجزائرية، وهذا مع تفهمي الكامل لحرصه على مد الجسور مع حراك شعبي ينادي برحيل الجميع، والذي تناول بعض الصبية من بين من حملهم تياره الدكتور طالب بما أساء لمقام مناضل عريق ومثقف متميز وديبلوماسي قدير.
وواقع الأمر أن رئيس الدولة يقوم بدوره في إطار الدستور وبكل حكمة وتبصر/ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، ولا يمكن أن يعترض عاقل على عمليات التغييرات الحكومية التي يقوم بها، حيث أنه، وعلى عكس ادعاءات المتلهفين على استحداث مجلس رئاسي يتموقعون فيه، هو رئيس شرعي يملك، بحكم الدستور كل صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب، باستثناء صلاحيات معينة حددتها مواد واضحة.
 في حين كان البعض يظن خطأ، أن مهمته سوف تكون تدشين بعض معارض الزهور أو استقبال أوراق اعتماد سفراء طال انتظارهم للتمكن من أداء مهمتهم بشكل رسمي يمكنهم من رفع علم دولهم على سياراتهم الديبلوماسية، قام بعملية تغييرات كانت في جوهرها استجابة لهتافات شعبية أراها بالغة الذكاء، وتميزت بإعفاء إطارات سامية التقطت لها صور وهي تكرم «كادرا» يحمل صورة الرئيس المستقال.
 تأتي آخر التعيينات على رأس التلفزة ووكالة النشر والإشهار والسونلغاز، وقبل ذلك وهو الأكثر أهمية، والذي زاد من لهيب الحملة ضده، عملية محاصرة عناصر الفساد السياسية وتقديمها للعدالة، وهوما لا أكرر الحديث عنه.
  يُعلن بشكل ضمني عن سقوط ضرورة التعامل مع المادة (194) من الدستور التي تنشئ لجنة مراقبة للانتخابات ليتقرر أمر جديد، خارج عن إطار الدستور ولكنه غير متناقض مع روحه، وهو تكليف هيئة القضاء بتنظيم، وليس بمراقبة الانتخابات، وقد كنت من أول من طالبوا بهذا، ولم يعارضه أحد.
 بمجرد أن برز هذا الاتجاه قرأنا من يُشكك في كفاءة القضاة ويتهمهم بضلوعهم في عمليات تزوير، وهو تعميم غبي جعلني أتساءل عما إذا كان المشككون رهبانا يعيشون في دير سويسري «ويرتكبون» الخمس صلوات ويصومون الدهر ولا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، وكدت أصرخ في بعضهم : من كان منكم بلا خطيئة فليرجم «المرادية « بالأحجار.
إذا كنا نشكك في القضاة فسوف نشكك غدا في كل المحامين ثم في كل الولاة ثم في كل البرلمانيين، ونجد أنفسنا في وضع يفرض علينا أن  نطلب دعما من الرئيس بشار الأسد لكي يرسل لنا عددا هاما من البراميل المتفجرة لنقضي على كل هؤلاء، ثم ننتحر، ونترك كل شيء لمن كانوا يختبئون وراء الشعارات في انتظار التخلص من كل الخصوم.
وواقع الأمر أن تعامل السلطة مع تطور الأحداث كان بالغ الحكمة والتعقل، وتم احترام الدستور بكل مواده، بالتوازي مع تحكم الأمن في الأعصاب بتعليمات واضحة كان لها فضل رئيسي في سلمية الحراك، وذلك بعدم الاستجابة لاستفزازات كثيرة كانت تسعى لإشعال العنف، والتقاط العناصر المأجورة التي كانت تعمل على ذلك، والتي أرجو أن تقدم لمحاكمات علنية لكيلا يُظلم أحد ولا يفلت مجرم، أو مُحرّضٌ له، من العقاب
ولا أتصور أن الأمور مرت بدون تنسيق كامل مع الفريق قايد صالح ومع رئيس المجلس الدستوري كمال فنيش ومع رئيس مجلس الأمة صالح كوجيل، وربما مع عناصر أخرى في البرلمان.
تمر الأمور بهدوء وانسجام تتميز به كل الدول العريقة التي تواجه أزمات مماثلة، ولعل مما يدل على هذا تجاهل الصرخات الرافضة للانتخابات الرئاسية والمطالِبة بإلغائها، وهو ما كان محاولة لدفع السلطات إلى الخروج عن نص الدستور بضعة أمتار، قد تفتح الباب فيما بعد إلى الانحراف عنه بكيلومترات.
كان يوم 25 ماي هو اليوم الذي تم اختياره لتأجيل الانتخابات الرئاسية بما لا يخرج عن أحكام الدستور طبقا لالتزام السلطة المعلن، وذلك نتيجة لأن أحد من عشرات من سحبوا ملفات الترشيح لم يتقدموا بها، ومن تقدموا للترشيح انسحبوا في الوقت المحدد، ولا يهمني إن كان ذلك بمبادرات شخصية تعبر عن العفة والترفع أو مواقف تخشى سوء العاقبة الجماهيرية أو نتيجة مهماز يعلم الله والمعنيون مصدره، وفي كل الحالات فقد كان الأمر مخرجا ذكيا يترجم المثال الشعبي الجزائري الطريف الذي ينصح بألّا نغضب الذئب ولا نُبكّي الراعي.
 المهم في كل ما أراه اليوم هو أن هناك تطورات موضوعية تفرض على العقلاء التحرك حتى تستقيم الأمور ولا تضيع الهالة التي كللت رأس الجزائر في الأشهر الماضية.
  قلت في حديث سابق أنني رأيت في رسالة الدكتور أحمد طالب والمدعومة بكلمات الفريق صالح دعوة للشخصيات السياسية لكي تلحق بالقطار الذي تزداد سرعته يوما بعد يوما وتبتعد إمكانية اللحاق به مترا بعد متر، وذلك بأن توضع مطالب الحوار المنطقية على مائدة حوار جاد يبتعد عن المزايدات التي بدأت بعض التيارات تدفع لها لخلق أزمة معقدة من اختلاف سياسي أراه عاديا.
بكلمات واضحة، مواطن عاش سنوات من القمع  النفسي  والمعاناة الإدارية والمشاكل العائلية والاستفزازات التي تقوم بها عناصر سلطة اعتقدت أن الدنيا دانت لها من حقه أن يصرخ في وجوه الجميع «يتنحاو قع» ولكن هذا لا يجب أن يمارسه رجل دولة يعرف خطورة الفراغ الذي أصاب العراق بفعل برايمر، عندما هدم كل أركان العراق، وحال العراق العظيم اليوم ليس بأحسن حال.
 النقطة الثانية هي أن خطأ يمكن أن يقترب من الخطيئة إذا اعتبرت المؤسسة العسكرية كطرف في الصراع، وبما يخرج بها عن دورها الدستوري، وهو ما لا يمنع، في تصوري، من الاستعانة بأجهزة المؤسسة وبإمكانياتها اللوجستية والمخابراتية لرعاية الحوار السياسي وتأمين ظروفه.
 هنا لا بد أن يدرك الجميع أن الحوار يحب أن يكون أساسا بين الفعاليات السياسية ورئاسة الدولة، لمجرد أن هذا هو منطق الدولة، وتصرف غير هذا يثير سخرية رجال الدولة في البلدان المحترمة، فمونتغومري الذي هزم روميل أدى التحية العسكرية لأحد الضباط الألمان الذي وقع في الأسر، ومصر التي عزلت الملك فاروق حرصت على توديعه بالسلام الملكي وبفرقة شرف عسكرية، وفرنسا ودعت نابوليون عند نفيه بما يجب أن يُودّع به إمبراطور، ولا حديث عن نهاية تشاوشيسكو، والذي أذكر أنه لم ينسَ، قبل أن يتلقى رصاصات الإعدام، أن يغلق أزرار «الجاكيت» لأن منطق الدولة يفترض ألا يقف الرئيس بجاكتة مفتوحة.
كان المظهر الأخير الذي لا يمكن أن أنساه هو ملكة بريطانيا وهيَ تحني رأسها وتابوت الأميرة ديانا يمر أمامها، رغم أن الدنيا كلها تعرف أنها كانت لا تطيقها.
والوقت يمر، وعمليات الاختراق تتواصل، والعيون تتابع ما يحدث، وأغلبية كبيرة حولنا، هنا وهناك، تتمنى لنا سقوطا لا قيام بعده، وآفاق مأساة الهوتو والتوتسو هاجس يرتعب من مجرد تصوره الكثيرون.
 لن أعتذر عن الجوانب الذاتية والعواطف الشخصية في هذا الحديث، ولعلي أريد أن أصرخ قائلا: استيقظوا رحمكم الله، فمعظمنا بينه وبين القبر خطوات معدودة، فليحاول أن يختم كل منا حياته بما يدفع الخلق إلى الترحم عليه وتذكر حسناته بل وتناسى سيئاته، بدلا من القول والجثمان ما زال ساخنا...الله لا يردّه.
وتعرفون من أقصد.
 يبقى أن على البرلمان الجزائري أن يطبق الشعار الذي رفعه يوما عمر أزراج منددا بركود حزب جبهة التحرير الوطني في الثمانينيات: أيها البرلمان ...تحرك أو تفكك، وليخرج مناضلوك الوطنيون إلى شارع الأحداث الذي يحاول البعض ركوب حراكه، وتحدثوا مع الشباب النقي الوطني الطاهر ولا تتركوه تحت فريسة للإشاعات المبرمجة وللقنوات الموجهة.
وبغير هذا، تؤكدون أنكم لا تعبرون عن هذا الشعب، وتستحقون أن ترحلوا...«قع»

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024