من الواضح أن كلا المسعيين لا يتصوران إلا خارج الدستور ومن ثم فهما يمثلان خطورة لا تقدر عواقبها على الدولة الجزائرية بكل أركانها. ويكفي التذكير هنا ببعض مخاطر الخروج من إطار النظام الدستوري للاقتناع برفضه مطلقا. فمثلا على الصعيد الداخلي يؤدي الخروج من الإطار الدستوري إلى عدم وجود قواعد مرجعية تفصيلية واستعمال سلطة تقديرية وقواعد تحكمية مما يخلق جوا من عدم اليقين وعدم الاستقرار والاختلافات في الآراء خاصة عند مناقشة المنطلقات الأساسية لمشروع الدستور الجديد نهاية مطافها تعطيل التقدم في الطريق الصحيح لتنظيم انتخابات رئاسية وبالتالي بقاء الدولة الجزائرية بدون رئيس جمهورية لمدة قد تفوق كل التصورات المسبقة.
حكم دستوري جديد انتقالي خاص بانتخاب رئيس الجمهورية (أي محدود في وقته وفي موضوعه) هو بمثابة جرعة دواء واقية من انهيار النظام الدستوري كله.
لا نقاش في أن صعوبات عدة أو أكثر من ذلك، عوائق، تعترض بصفة جدية تنظيم الانتخابات الرئاسية في الموعد المحدد لها تطبيقا للمادة 102 من الدستور أي تاريخ 4 جويلية 2019 أو على الأقل تقف حائلا دون نجاحها. ويرجع ذلك إلى أن المرحلة التمهيدية لهذه الانتخابات لم تكن الظروف مواتية لتسييرها بما يضمن هذا النجاح. ومن معالم ذلك عدم توفر أو توفير الشروط الضرورية المتطلبة قانونا وأيضا استجابة للإرادة الشعبية لتحقيق المناخ الملائم لاختيار رئيس جمهورية في مستوى تطلعات الشعب وطموحاته المعبر عنها في مسيراته التاريخية الكبرى. وبكلمة مختصرة هناك حقيقة أسباب جدية تقوم عائقا أمام إجراء هذه الانتخابات وهذا ليس فقط لاحتمال العزوف الكامل عنها من طرف المرشحين المحتملين لها والناخبين بل أكثر من ذلك قد تعترض عملية الانتخابات ظروف مادية تجعل أداءها مستحيلا في الواقع. وعلى ضوء هذه المعاينات يغدو مما لا شك فيه أن الاستمرار في تطبيق المادة 102 من الدستور مع بقاء فرضية إجراء الانتخابات الرئاسية بتاريخ 4 جويلية 2019 من شأنه أن يفتح الباب على فرضية احتمال الخروج من الإطارالدستوري، وهذا بعد استنفاد مدة 90 يوما دون التمكن من إجراء الانتخابات الرئاسية المعلن عنها. وقد اعتبر البعض هذه الفرضية مكتسبة حتى قبل موعد هذه الانتخابات وسارعوا في اقتراح حل بديل عن ذلك متمثل في اعتماد مرحلة انتقالية لتنظيم انتخابات رئاسية بالخروج الكلي عن الدستور. وذهب البعض الآخر أبعد من ذلك ليقترحوا مرحلة انتقالية طويلة المدى يشرع فيها بانتخاب جمعية تأسيسية لإعداد دستور جديد دون تحديد المدى الزماني لانتهائها.
من الواضح أن كلا المسعيين لا يتصور إلا خارج الدستور ومن ثم فهما يمثلان خطورة لا تقدر عواقبها على الدولة الجزائرية بكل أركانها. ويكفي التذكير هنا ببعض مخاطر الخروج من إطار النظام الدستوري للاقتناع برفضه مطلقا. فمثلا على الصعيد الداخلي يؤدي الخروج من الإطار الدستوري إلى عدم وجود قواعد مرجعية تفصيلية واستعمال سلطة تقديرية وقواعد تحكمية مما يخلق جوا من عدم اليقين وعدم الاستقرار والاختلافات في الآراء خاصة عند مناقشة المنطلقات الأساسية لمشروع الدستور الجديد نهاية مطافها تعطيل التقدم في الطريق الصحيح لتنظيم انتخابات رئاسية وبالتالي بقاء الدولة الجزائرية بدون رئيس جمهورية لمدة قد تفوق كل التصورات المسبقة.
على الصعيد الخارجي يؤدي الخروج من الإطار الدستوري إلى اضطرار السلطات العمومية للإعلام بالوضع الجديد وشرحه وتبريره في إطار الالتزامات المترتبة على الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الجزائر، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للالتزام المنصوص عليه في المادة 4 من العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 الذي صادقت عليه الجزائر بتاريخ 16/05/1989 ( ج ر رقم 20 بتاريخ 10/05/1989). كما يؤدي أيضا لإعطاء فرصة لقوى خارجية للتدخل في شؤون الدولة الجزائرية بذريعة الدفاع عن مصالحها ومحاولة الحد من سيادتها بمختلف الوسائل كتسليط العقوبات الاقتصادية عليها ورفض الموافقة على طلبها قروضا خارجية في حالة حاجتها لطلب هذه القروض...إلخ
على خلاف ما سبق من المؤكد أن للبقاء في إطار الدستور وحل الأزمة السياسية المرتبطة بتنظيم الانتخابات الرئاسية باحترام قواعده، مزايا كثيرة لا تقارن بمساوئ الخروج من هذا الإطار. وتظهر مزايا عدم الخروج من إطار الدستور أيضا على الصعيدين الداخلي والخارجي.
فعلى الصعيد الداخلي، تجد كل المشاكل الموضوعية والإجرائية المرتبطة بالمرحلة الانتقالية حلها في قواعد مرجعية تفصيلية كما يمكن استعمال السلطة التقديرية من أجل ذلك في إطار قواعد موجودة سلفا مما يخلق جوا من اليقين والاستقرار والتوافق في الآراء والذي من شأنه السماح بالتقدم بخطى ثابتة في تحقيق عملية انتخاب رئيس جمهورية جديد في آجال معقولة ومقبولة. أما على الصعيد الخارجي فإن البقاء ضمن الإطار الدستوري من شأنه وحده تفادي مساوئ الخروج من هذا الإطار وخاصة عدم تقديم ذريعة للقوى الخارجية لتبرر تدخلها في شؤون الدولة الجزائرية.
لكن إذا كان مما لا شك فيه بل وبدون نقاش، أن الاختيار الأمثل لحل الأزمة القائمة فيما يتعلق بتنظيم انتخاب رئيس الجمهورية هو أن يتم هذا الحل في إطار الدستور وهو ما أكدته في أكثر من مناسبة مؤسسة الجيش الوطني الشعبي التي تعتبر أن الخروج من إطار الدستور غير وارد بل مرفوض مطلقا فإن الأمر يستدعي ويستوجب إذن إعادة النظر في عدد من المعطيات في الواقع وفي القانون من أجل إيجاد حلول دستورية بديلة لتنظيم هذه الانتخابات.
في هذا الإطار، نلاحظ أولا أن المرحلة الأولى التي يستند فيها كليا وحصريا للمادة 102 من الدستور وإن كانت قد أصبحت آفاقها لأسباب مختلفة ضيقة بل تضيق يوما بعد يوم إلا أنها ما زالت تتيح فرصا للاعتماد عليها لتنظيم انتخابات رئاسية. لا بد إذن من الوقوف على كل ما تحمله المادة 102 من الدستور من تصورات يمكن أن توصلنا لانتخاب رئيس الجمهورية قبل بحث حلول أخرى مبتكرة والتي يكون منطلقها تعديل دستوري محدود بما يتطلبه تنظيم هذه الانتخابات. هكذا يمكن إذن اقتراح كيفيتين أو تصورين للوصول لتنظيم الانتخابات الرئاسية القادمة باحترام الإرادة الشعبية والدستور في نفس الوقت. الكيفية الأولى وهي أقرب لاحترام شكلية القواعد الدستورية وأقل استجابة للإرادة الشعبية وتتمثل في الاستمرار في تطبيق المادة 102 من الدستور بتصورات مبتكرة( I) أما الكيفية الثانية فهي أقرب لاحترام روح الدستور وأكثر استجابة للإرادة الشعبية وتستوجب مجهودا أكثر وتتمثل في إدخال أحكام جديدة انتقالية في الدستور خاصة بانتخاب رئيس الجمهورية (II). نستعرض الكيفيتين تباعا.
I-الاستمرار في تطبيق المادة 102 من الدستور بتصورات مبتكرة
نظرا لاقتراب موعد استنفاد مدة 90 يوما المقررة في الدستور لفترة تولي رئاسة الدولة تطبيقا للمادة 102 من الدستور دون اتضاح معالم تنظيم انتخابات رئاسية صحيحة قانونا وناجحة بميزان الإرادة الشعبية فإن الرأي الغالب يتجه حاليا للقول باستحالة تطبيق الحل الدستوري وفقا للمادة 102 من الدستور الذي تحدد وفقه أجل الانتخابات الرئاسية بـ 4 جويلية 2019. ومع ذلك تبقى تصورات أخرى قائمة لتطبيق المادة 102 من الدستور وتنظيم الانتخابات الرئاسية في إطارها. ماهي هذه التصورات؟
يستوجب الاستمرار في تطبيق المادة 102 من الدستور إدخال بعض التحويرات على مسار تطبيق هذه المادة لإمكان تجاوز هذا الحد الأقصى للمدة المحددة في هذه المادة لإجراء الانتخابات الرئاسية. ويبدو أن ذلك ممكنا باللجوء لاستعمال كل الفرص التي يتيحها تطبيق هذا النص في الواقع وذلك بإعطائه تفسيرا إيجابيا بما يتفق والحكمة من وجوده. وفي هذا الصدد ومن أجل ذلك يمكن تصور وضعيتين في الواقع يمكن أن تتحققا عن طريق انتخاب رئيس جديد لمجلس الأمة وتعيين رئيس جديد للمجلس الدستوري.
انتخاب رئيس جديد لمجلس الأمة
يلاحظ أولا أنه ليس هناك حاليا، لا في القانون ولا في الواقع، حالة شغور على مستوى رئاسة مجلس الأمة في الحالة التي يمثلها انتقال رئيس مجلس الأمة لتولي رئاسة الدولة. فهذه الحالة غير مدرجة في أحكام المادة 6 من النظام الداخلي لمجلس الأمة الخاصة بحالة شغور منصب رئيس مجلس الأمة ( ج ر عدد 49 بتاريخ 22/08/2017). فقد اكتفت هذه المادة بتنظيم حالة شغور منصب رئيس مجلس الأمة حصريا بسبب «الاستقالة أو التنافي أو المانع القانوني أو الوفاة». ففي هذه الحالة تنظم انتخابات بتطبيق إجراءات انتخاب رئيس مجلس الأمة المنصوص عليها في المادة 5 من النظام الداخلي لمجلس الأمة على أن يكون ذلك في أجل 15 يوما من تاريخ إعلان الشغور. أما الحالة التي يتولى فيها رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة فقد نظمتها المادة 12 من القانون العضوي رقم 16-12 المؤرخ في 25 أوت 2016 المحدد تنظيم المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، و كذا العلاقات الوظيفية بينهما وبين الحكومة. وطبقا لهذه المادة «إذا دعي رئيس مجلس الأمة لتولي مهمة رئيس الدولة، طبقا لأحكام المادة 102 من الدستور، يتولى النيابة عنه نائب الرئيس الأكبر سنا». فنص المادة 12 سابق الذكر هو إذن النص الواجب التطبيق حصريا في حالة تولي رئيس مجلس الأمة مهمة رئيس الدولة باعتباره يشكل استثناء على ما جاء في القاعدة العامة التي يتضمنها نص المادة 6 من النظام الداخلي، كما سبق. وأيضا و أكثر من ذلك باعتبار هذا النص أي المادة 12 سابقة الذكر، يتضمنه القانون العضوي الأعلى مرتبة من النظام الداخلي. يترتب على ذلك من الناحية النظرية أن يعود رئيس الدولة الحالي إلى منصبه كرئيس لمجلس الأمة عند انتهاء مهمته كرئيس للدولة بعد تنظيم الانتخابات الرئاسية أو استنفاد مدة 90 يوما المحددة لأداء مهمته طبقا للمادة 102 من الدستورأو حتى قبل ذلك مثلا إذا استقال من منصبه كرئيس للدولة.
لكن الوضعية الخاصة لرئيس الدولة الحالي تستوجب تبني حلول أخرى. ففضلا عن المنازعة الشعبية في كل قيادات الهيئات الدستورية وفي الوزير الأول وأعضاء حكومته، ومن ثم في عودته كرئيس لمجلس الأمة لابد من تنظيم الوضع بما يخدم المصلحة العامة وما من شأنه تفادي أي فراغ في هرم السلطة. وهكذا يقع عليه وفي أقرب الآجال واجب الاستقالة من منصبه كرئيس لمجلس الأمة ليفتح الطريق لتطبيق المادة 6 من النظام الداخلي لمجلس الأمة لانتخاب رئيس جديد لمجلس الأمة. ويفضل أن يكون من بين الأشخاص المكملين لقائمة الثلث الرئاسي المفترض والمنتظر تعيينهم في مجلس الأمة من طرف رئيس الدولة الذي يخوله الدستور سلطة إجراء هذه التعيينات طالما أن المادة 118 من الدستور لم ترد من بين المواد التي لا يمكن تطبيقها أثناء فترة حكم رئيس الدولة تطبيقا للمادة 104 من الدستور. ويقع على رئيس الدولة أن يرتب هذه الإجراءات وينجزها بالسرعة الممكنة ترقبا لاستقالته (وليس انتهاء فترته) من رئاسة الدولة، على أن يكون تعيين أعضاء مجلس الأمة الجدد سابقا لاستقالته من مجلس الأمة.
... يتبع
الحلـقـة الأولى