إن تحقيق الأمن البشري وترقية التعايش السلمي يتعلقان بالأساس بمدى تعزيز واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير واحترام الرأي والرأي الآخر انطلاقا من المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:» لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود»، وكذا ترسيخ ثقافة الحوار المجتمعي بالخصوص عن طريق اضطلاع وسائل الإعلام المختلفة بواجبها في بيان أهميّة الحوار، فوسائل الإعلام المرئيّة، والمقروءة، والمسموعة قادرة بلا شكّ على بيان أهميّة الحوار وفوائده من حيث تقريب وجهات نظر النّاس، وتجنّب الخلافات التي تؤدّي إلى الفتن والصّراعات.
غير أن هذه الحرية ليست مطلقة، فالحرية المطلقة قد تؤدى إلى الفوضى والإخلال بالنظام العام، ومن ثم فلابد أن تخضع لضوابط وقيود تتقيد بها في حالات الضرورة وفقا لشروط مقننة يتطلبها المجتمع الديمقراطي حماية لخصوصيات الإنسان من الانتهاك ، فتلك حرمات لا يجوز انتهاكها كما لا يجوز نشر معلومات تهدد الأمن المجتمعي، إذ أن الكلمة الإيجابية من شأنها أن تحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي وتبعث الطمأنينة في النفوس، وعلى العكس من ذلك فإن الكلمة السلبية من شأنها أن تشيع الفتن والانقسامات وتهدد الأمن القومي. وقد توجت المساعي القيْمية الحضارية لرئيس الجمهورية في ترقية ثقافة التعايش السلمي وتحقيق الأمن المجتمعي بين الجزائريين على مدار سنوات، بتشييد الصرح القانوني المتمثل في ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، على أنقاض المأساة الوطنية التي عاشتها البلاد خلال التسعينيات.
أبعاد حضارية وانسانية تحت الضوء
وعلى هذا فإنه ومما ينبغي التنوية والإشادة به هي الإنجازات القيمية ذات الأبعاد الحضارية الإنسانية وذات الأثر في ترسيخ مفهوم الوسطية وترقية التعايش السلمي وتعزيز ثقافة الحوار، التي كانت بمبادرة من الرئيس نفسه، والتي لن يلحقها غش ولا تدليس.
لأجل هذا كله سوف أتحدث في مقالي هذا عما قدّمه الرئيس وبمبادرة منه من منجزات قيمية ومعرفية حضارية وإنسانية عالمية خدمة لدينه ووطنه تبقى شاهدة على مرّ الزمان وحاضرة في أذهان الجزائريين جيلا بعد جيل، و التي بها تتحقق الوحدة الوطنية وتضمن حماية الأمة وتكون ميراثا للأجيال، وسيُذكِّر التاريخ بجهود فخامة الرئيس في خدمة وتحقيق الوحدة الوطنية الشاملة وتحقيق الأمن الإنساني، ويبرز إنجازاته القيمية الحضارية بعيدا عن المزايدات السياسوية الضيقة.
ولعل أهم إنجازات الرئيس القيمية ذات الأبعاد الدينية الحضارية النهضوية والمعرفية تتمثل في نقاط ثلاثة هي::
*أولا : حكمة الرئيس والمصالحة الوطنية، فحين دعته الجزائر في محنتها السوداوية لبى النداء وحقق المصالحة بأبعادها الإنسانية التي لا تقدر بثمن والتي لم يتردد الشعب الجزائري في الالتفاف حول ميثاقها، ولم يتوانى في تحقيق مقاصدها والتمكين لمراميها، وبها حافظت الدولة على مؤسساتها و على الوحدة الوطنية، ومكنت الجزائر من إنهاء مأساة وطنية طاحنة، أزهقت فيها الأرواح ونزفت فيها الجراح وسالت فيها دموع اليتامى والثكالى وعمّ فيها الخراب بما أوشك على تقويض أسس الدولة، فكان لها صداها إقليميا ودوليا.
فالمصالحة هي في النهاية، حماية للمصلحة الوطنية، ولمؤسسات الدولة ، وتكريس لثقافة التسامح المؤسس على القيم الدينية والإنسانية، وبذلك شكلت المصالحة الوطنية قوّة لحماية حدودنا الثقافيّة من العدوّ نفسه ومن التطرف والإرهاب فتحقق بذلك الأمن الفكري وعلى القدر نفسه من قوة جيشنا الشعبي الوطنيّ في التصدّي للتطرف والإرهاب على حدودنا الجغرافيّة والحفاظ على وحدة التراب الوطني، فأصبحت بذلك تجربة تصدرها الجزائر بفخر لتسوية الأزمات الأمنية.
وقدْ كسبت الجزائر بفضل المصالحة الوطنية رهان التعايش والمحبّة، وظهر أثرها في تحقيق السلم والأمن المجتمعي انطلاقا من أبعادها الدينية والإنسانية العالمية.
*ثانيا: حكمة الرئيس و»الربيع العربي»، أمام انجذاب بعض الأطراف إلى تيار التغيير والسير بالبلاد إلى الدمار والخراب مرة أخرى، استطاع الرئيس بحكمته وبصيرته أن يحافظ على مكتسبات المصالحة بمنعه وقوع ما يسمى بالربيع العربي 2011، فأوصل الجزائر إلى برّ الأمان، وحقق لها السلم والاستقرار دينيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فأصبح الاستقرار السياسي للجزائر مدعاة للثقة في شخصه داخليا وخارجيا، وفي إطار مواصلته مسار الإصلاحات عدّل الدستور عام 2016 والذي يعتبر المرآة التي تعكس إرادة الشعب الجزائري، وأطلق البرامج الضخمة المنجزة اقتصاديا واجتماعيا وحقق بذلك السلم الاجتماعي.
*ثالثا: المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة وتحديات العولمة ففي إطار مواصلته مسار الإصلاحات ثبّت عناصر الهوية بأبعادها الدينية الروحية والحضارية القيمية واللغوية المعرفية، غير أن الكثير من المتملقين ينظرون إلى الجوانب المادية منها فقط، والحقيقة أن الرئيس قد جمع بين المنجزات المادية والروحية والحضارية القيمية على غرار بناء المسجد الأعظم ورمزيته والذي يمثل صرحا دينيا ومعلما حضاريا وركيزة للمرجعية الدينية في الجزائر، وما له من الأثر التربوي والاجتماعي لتحقيق الأمن الفكري والمتمثل أساسا في الدفاع عن وسطية الدين الإسلامي والتي تعتبر أحسن برهان على نبل الإسلام ونبذه لأي شكل كان من أشكال العنف والغلو في الدين.
انها مسائل ما فتئ الرئيس بوتفليقة يؤكد عليها من خلال تأكيده في كل مناسبة الدعوة إلى تجفيف منابع التطرف وتحرير الفتاوى الدينية، ومناشدته العلماء للدفاع عن صورة الدين الإسلامي و إبراز الدور المحوري للعلوم الإسلامية في بناء الهوية الوطنية،ومواجهة الغزو الثقافي، واستقراء أهم التحديات التي تواجهها الأمة، من خلال التأسيس للإعلام الديني المعتدل، ودور التلفزيون الجزائري في الترويج للخطاب الديني المعتدل، والمبادرة بإنشاء قناة للقرآن الكريم وبث الأذان في القنوات الرسمية واستحداث أسبوع للقرآن الكريم وتكريم حفظته ورعاية الدروس المحمدية الرمضانية، وإحياء المواسم والأعياد الدينية وتعظيم الشعائر الدينية، وكذا احتفاء الرئيس بمنابر العلم والعلماء وإحياء التراث الفقهي من خلال إعادة الاعتبار للزوايا العلمية وبعث دورها التعليمي والتربوي في الجزائر، وتثمين دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في التربية والتعليم والتوعية والتوجيه، ودعم الرئيس لتجانس المذاهب الفقهية في الجزائر(المالكية، الإباضية)، ولعل تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية في إحياء التراث الفقهي والمعرفي للجزائر خير شاهد على ذلك.
رعاية الثقافة وتمجيد الأسرة المبدعة
إلى جانب رعاية الرئيس للثقافة وتمجيد الأسرة الإبداعية، ودعم مسارات التربية والعلوم والثقافة وطنيا ودوليا، وتثمين إسهامات المبدعين في الفنون والثقافة، ولعل تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية ودورها في إبراز التراث الثقافي للجزائر خير شاهد على ذلك. وما يحسب للرئيس كذلك تثبيته عناصر الهوية بأبعادها الدينية الروحية والحضارية القيمية واللغوية المعرفية عن طريق دعمه للمجالس العليا للغة بشقيها العربية والأمازيغية والمزاوجة بين تعاليم الإسلام الوسطية المعتدلة وبين حب الوطن والتضحية من أجله، وتعزيز أسس التكافل الاجتماعي، والتشبث بالقيم الحضارية والمزاوجة بين الأصالة والمعاصرة. إلى جانب حرصه اعتماد لغة الحوار قيمة أخلاقية وسياسية عظيمة ومنهج رشيد في إدارة التباينات داخليا وإقليميا، فكان كبير العرفان و التقدير من علماء دول الجوار للجزائر و على رأسها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أحد أكبر حكماء إفريقيا.
وفي مجال حرية التعبير والصحافة رسّم الرئيس اليوم الوطني للصحافة المصادف لـ 22 أكتوبر من كل سنة، والذي يعتبر فرصة للأسرة الإعلامية الجزائرية لتقييم المسار المهني ومراجعة الأخطاء ووضع مقترحات نحو آفاق جديدة، إذ أن حرية الصحافة هي الضمانة التي تقدمها الحكومة لحرية الالتعبير المكفولة دستوريا.
للمراة الجزائرية موقعها في مشروع التجديد والتقويم
كما أعطى للمرأة مكانتها سياسيا واجتماعيا وتشريعيا بما يمكنها من المشاركة السياسية وإدارة الشأن العام انطلاقا من تعاليم الدين الإسلامي الذي لم يضع عقبة أمامها ولا موانع زاجرة لها، وكذا من خلال تعديل قانون الأسرة سنة 2005، وقانون الانتخابات لعام 2012، وكذا التزاما منه بالمواثيق والعهود الدولية التي تعمل على ضمان حماية حقوق الإنسان ورعايتها، وكذا سهره على ترقية منظمات المجتمع المدني وتفعيل دورها محليا ووطنيا تجسيدا لمفهوم المواطنة وأولوية الشباب في البناء الحضاري.
فأين ما قدّمه ممن يزعمون خدمتهم للإسلام والدفاع عنه مما قدمه الرئيس ميدانيا في الداخل والخارج واهتمامه بقضايا الإسلام والمسلمين ودوره في دعم القضية الفلسطينية، وفي التأسيس لرابطة علماء الساحل ودعاة وأئمة الساحل، والسعي لحل النزاعات في العالم العربي والإسلامي. وقد تفوق الرئيس سياسيا في خدمة الدين الإسلامي بأبعاده الروحية والعلمية والتعبدية والحضارية، ذلك أن السياسي الناجح هو الذي يخدم الدين فيُرفَع به، لا أن الدين هو من يخدم السياسي فيُذَلُّ به، إذ متى استغل الدين لغرض سياسي حلّت الكارثة على الدين أولا ثم على السياسة ثانيا، فيا من يتاجرون بالدين كفاكم.
وفي ختام مقالي هذا والذي يعتبر شهادة عرفان وتقدير لرجل متشبع بالثقافة الدينية الأصيلة، متفتح على واقع الحال، متبصر بالمآل، يمكن القول بأن هذه المنجزات القيمية هي التي تحقق الوحدة الوطنية الشاملة بمرجعيتها الأصيلة، وتضمن حماية الأمة وتكون ميراثا للأجيال القادمة، وتبرز مدى مساهمة إصلاحات الرئيس بأبعادها الدينية والحضارية في ترسيخ وسطية الدين الإسلامي الحنيف والدفاع عن صورته الصحيحة، وتحقيق وحدة الأمة، والمحافظة على الموروث الحضاري للجزائر، والتمسك بالهوية أمام التقلبات العالمية و تحديات العولمة، كما تبرز هذه الإنجازات القيمية جهود الرئيس في تثبيت عناصر الهوية ودفاعه عن الدين الإسلامي الحنيف، وما لحقه من تشويه لصورته بين المسيئين له من المسلمين والمتحاملين عليه من الغربيين. فينبغي تثمين قيمة إصلاحات الرئيس بأبعادها الدينية والحضارية والإنسانية والتي ساهمت في تجسيد مفهوم الوحدة الوطنية الشاملة وفي ترقية التعايش السلمي، وصون الكرامة والحريات والحقوق للجميع، والسير بالبلاد على نهج الحداثة والديمقراطية والعدالة وترسيخ قيمة المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة في الحفاظ على القيم الاجتماعية، وعلى الموروث الثقافي والمعرفي للجزائر، وبذلك فهذه الإصلاحات هي الموروث والميراث الحقيقي للأجيال القادمة، فيا من يتاجرون بالطرقات والمباني والهياكل كفاكم.