يُنْظَرُ للرواية على أنها شكل سردي تتنازع فيه تقاليد الحكي، ضمن سياق زماني معين، على لسان شخوص فاعلة في هذا السياق، حيث تسعى للتعبير عن الواقع، وبلورة رؤية مستقبلية له.
يُعدّ العمل الروائي عموما، والجزائري خاصة، مواكبا لتطورات عصره، ومقتضياته السياسية، الثقافية، والاجتماعية، وحتى النفسية.
ولعلَّ عُمرَ الرّواية الجزائرية على قصره استطاع نقل المحمولات الاجتماعية، والثقافية، من الواقع المادي، إلى الواقع الإبداعي، ومعلومةٌ هي مراحل الرواية الجزائرية التي مرّت بها، فهاهي ثلاثية محمّد ديب تصوّر الواقع الجزائري قبيل اندلاع الثورة التحريرية، وتتنبأ بمستقبله، فكانت رواية واقعية، استشرافية بامتياز حتى صارت على حد تعبير الشاعر الفرنسي لويس أراغون «مذكرات الشعب الجزائري».
مرحلة الولادة للرّواية المكتوبة بالعربية
ومع مطلع السبعينيات جاءت مرحلة الولادة الثانية بالنسبة للرواية المكتوبة باللغة العربية فمن «ريح الجنوب» لعبد الحميد بن هدوقة و»اللاز» للطّاهر وطّار وغيرها مما يصور الواقع الاجتماعي الجزائري، وبانتقال هذا الأخير لمرحلة سياسية جديدة نلاحظ ظهور إبداع روائي يصور مأساة العشرية السوداء. وبعدها بدأت الرواية الجزائرية تشق فضاءات الإبداع مرتدية ألوانا شتى من الموضوعات، والبنيات السردية. فهذه أحلام مستغانمي تبدع سردا بلغة الشعر، وواسيني الأعرج يدقّ أبواب قضايا إنسانية شتّى. وأمين الزّاوي، يلج بقلمه إلى أعماق الذات، محاورا فلسفتها، ومحررا انغلاقاتها، عبر ارتحاله بين أكثر لغتين شعريتين هما العربية والفرنسية، وغيرهم من الروائيين المحدثين الذين تبوؤوا الصدارة بين الكُتّاب العرب، والعالميين.
وجاء هذا الطّابع - الأدب المهجري - بما له من أبعاد الحنين للأوطان، ومحاولة إثبات الذّات في مجتمعات غريبة متناولا قضايا خاصة أو عامة، وبما أن الكاتب ليس إلا جزءا من الكل، فها هو الآن قلم مولود بن زادي يُطلِعُنا من خلال خلفيّة أفقه الأزرق على لون إبداعي منفرد لغةً، وموضوعًا، وهو إن كان يحاكي القدامى في بساطة وسلاسة أسلوبه اللغوي بعيدا كل البعد عن الألفاظ العاميّة، أو المعجميّة المعقّدة، إلا أنه يثور على بعض مقومات الرواية كالمكان الذي يحصر جُلَّهُ في عالم افتراضي، وشخصيات متفاعلة اختصرها في شخصين اثنين من شرق وغرب العالم العربي، أدمجهما في حوار افتراضي حيث عمل مولود بن زادي على كتابة معاناته كأديب مبتدئ ومغترب، في شخصيته الروائية الرئيسة «خالد» الكاتب والمترجم المقيم في لندن، وكذا الإفصاح عن أحلامه وتطلعاته، بل وتمرُّده كذلك على الواقع الأدبي المحتكر من وسائل الإعلام، وكبار الأقلام المبدعة، لكنه من خلال حواراته الافتراضية مع شخصيته الثانية «وفاء» الأستاذة الجامعية اللبنانية الأصل، نجده يمرّر انشغالاته الإنسانية، ورؤيته البعيدة حول موضوع التعايش الإنساني في ظل اختلاف الأديان، والأعراق، والثقافات.
ومن الجهة الصوراتية المقارنة، يطرح الأديب رؤى عميقة للآخر من منظور الأنا، فيصوّر لنا هذا الآخر، - الغربي، الأوروبي، البريطاني- بطبيعته الإنسانية القابلة للتعايش مع الأخر عربيا كان أم مسلما، أم إفريقيا أسودا، من خلال الشخصيتين البطلتين، فخالد مترجم بالمطار، ووفاء أستاذة جامعية وكلاهما من العالم العربي مما يبين أن التوظيف في المناصب المرموقة في المملكة المتحدة لا تحكمه العنصرية، بقدر ما يخضع لمبدأ الكفاءة العلمية والمهنية.
ومن خلال أسْطُرِ روايته، يذكر لنا الأديب أنّه لا غرابة أن يرى المرء شابا أوربيا أبيضا يرافق فتاة إفريقية سمراء، فالتفتح ليس رهن المصالح المادية الاقتصادية وحسب، يحدث هذا في مجتمع أكبر همّه هو التطور الاقتصادي، وفي بلد تُعَدُّ عملته الأقوى عالميّا على الإطلاق. بسبب ضخامة استثماراته، وبلوغ ريعه الاقتصادي أعلى المستويات. إنما الإنسان الغربي اليوم لا يتحرّج من إقامة علاقات الحب أو الصداقة مع من ليسوا من بيئته مادام قلبه قد تقبّلهم، وانفتح عليهم، وهنا خطاب هام وجلي يقدمه لنا الكاتب كون الإنسان البريطاني العصري غيره البريطاني الكلاسيكي، صاحب النظرة الطبقية كما صوّره الأدب الكلاسيكي - لا سيما الشكسبيري -.
ومن جهة أخرى يطرح موضوع العصبية العربية، من خلال ذكره لشخصية صديق له قرّر أن يعود بعائلته إلى أرض الجزائر، حتى لا تتربّى بناته تربية غربيَّة متحرِّرَة، أو كما رآها هذا الصديق تربية غير مراعية للأصول، والعادات، والتقاليد، وفي هذه النقطة يبرز لنا وبوضوح تيمة السلطة الذكورية الأبوية، وكأني بالروائي يشدّد على عشق المجتمع العربي، وانغماسه في هذه السلطة المتحيزة للذكور، والتي لا تفتأ تطمس حريّة الأنثى تحت رايتها، وعدم تقبل البطريركية -الأبويّة- العربية لفكرة تحرر المرأة جسديًّا، وفكريًّا، فهذا النِّظام - البطريركي- الّذي تبنّــــاه المجتمع الشّرقي عربيــّا وأمازيغيًّا، ومسلما ومسيحيًّا، لا يزال يحتكر جسد المرأة وتفكيرها ويحشرها في قوقعة الدّين والتَّــــقاليد، فالواجب الدّيني المفروض على المرأة - من منظور السّلطة الأبويّة، ورجال الدّين، وليس من منظور الدّين كمنظومة معتقداتيّة- هو الطاعة العمياء للزوج والأب والأخ، فأب العائلة هنا سيعُودُ ببناته لأرض الوطن حتى لا تشوب تربيتهنّ شائبة الحريّة الجنسيّة، والمثليّة. في محاولة إغفال الواقع، والذي يتمثّل في كون هذه المجتمعات الشرقية تعاني أصلا من هذه الانحرافات والشذوذ، وهي ليست مجتمعات ملائكية البتّة، بل الفضيلة والانحراف موجودان في كل مكان. بل إن التشدد المبالغ فيه يؤدي إلى البحث عن التحرر وكسر القيود بكل الطرق، والوسائل.
تعصُّبٌ ما بين زوايا الحرية وتقبّل الاختلاف
ومن المنظور الصّوراتي دوما، نجد مولود بن زادي لا ينزّه تماما المجتمعات الغربية، التي صار يعيش فيها، وتعلّم التعايش معها، ففي هذه الأمم رغم التطوّر الصارخ للتكنولوجيا، وبرغم الشّعارات الصّاخبة الدّاعية للحريّة وتقبل الاختلاف والتعايش مع ذلك المختلف، يوجد تعصُّبٌ ما بين زواياها، وفي خطاباتها السِّياسيَّة والثَّـــــقافيّة، فيعرض لنا حادثة صحيفة شارلي الأسبوعية الفرنسية، والتي تعرضت للهجوم من طرف الإخوة كواشي وزملائهما من تنظيم القاعدة، من منظور محايد، إذ يبدي الجانب الآخر وهـــــو استفزاز هذه الصحيفة للمختلف عن الأوربي والذي هو الآخر المسلم، عن طريق محاولة الإساءة لنبي الإسلام برسوم مستفزة، فجاء الرّد بالهجوم على هذه الصحيفة، وقتل عدد من موظفيها، مما أثار استياء أكبر عواصم العالم، والتي عبرت عن هذا الاستياء بإعلان التضامن، وتنظيم المسيرات المساندة لأسبوعية شارلي.
أبدى الكاتب صراحة تحفظه عن المساندة، كون الحقيقة الكاملة للقصة هي إثارة الصّحيفة لحفيظة المسلمين من جهة، وانتقام السّلطات الفرنسية من منفّذي الهجوم من جهة أخرى بقتلهم، وعدم التصريح بمكان دفنهم - إن وجد - حتى لأقرب المقربين لهم، بهذا يُعَلِّمُنَا الكاتب المعنى الحقيقي لحريّة التّعبير، كونه أوّل ما تبنى عليه الحريّة هو الاحترام، يمكننا أن نطرح السّؤال الآتي: هل تصرُّفي لن يؤذي أحدا؟ ولن يجرح أي شخص أو جماعة؟ لو سألنا أنفسنا فقط هذا السؤال عند كل تصرّف لتعلّمنا حقًّا معنى احترام الآخر ومعنى الحريّة، فالحريّة لا تعني أبدا أن أقول ما يحلو لي فأشتم هذه العقيدة وأستهين بتلك الثقافة. بل الحرية أن أتصرف بدون قيد مادام تصرفي لا يثير تجريحا لثقافات، وأخلاق، وديانات، ومقدسات الأشخاص، والجماعات. اللهم إلا إن كان ما نقوله حقيقة تكشف لنا جرائم أو استبداد جهة ما، فهذا يعتبر من كشف الحقيقة وليس من التجريح في شيء.
في الحقيقة الرّواية على بساطة أسلوبها وبنيتها تحمل هموم الكاتب العاشق للغة الضاد، والتي يدافع عنها - وهو المتواجد في قلب الدولة الأم للغة التي سادت على عرش الألسن الأخرى في الكون - فلا يرى نفسه إلاَّ مبدعا ومعبِّرا باللغة العربية الأصيلة، ويصرح بعشقه لهذه اللغة على لسان الشخصية البطلة «خالد». كما يضرب على وتر حسّاس آخر، ألا وهو القيم الإنسانية، القيم الروحية السامية من صداقة، وزمالة، وكيف صار الناس والمثقفون منهم للأسف يتعاملون بشعاراتها ويخونون تعاليمها، وهم بذلك يخونون ناموس الطبيعة الذي جبل البشر عليه.
من جهة أخرى على الرغم من كون جوليا كريستيفا تصنف الرواية الواقعية كنص مغلق يكون الكاتب فيه السيد المطلق والمسير لكل أحداث نصه، وبهذا يكون المتلقي سلبيا، متتبعا فقط، إلا أن نص «ما وراء الأفق الأزرق» على كونه رواية سيرة ورواية تستمد أحداثها من الواقع إلا أنه - النص - ينفتح أمام المتلقي ويترك له المجال لتحليل المواقف المطروحة خلال النقاشات. كما أنه لا يتضمن عقدة وحلا، ولا بداية ونهاية، بل هو نص مفتوح من بدايته إلى نهايته يتفاعل بذلك مع القارئ، ويجعله قلما ثانيا وعقلا حرا في تخيل المواقف بل وحتى النهاية.
وشدّ ما أعجبني هو إصرار الكاتب على تسمية «الأدب المهجري» يأتي هذا في حين أن كبار النقاد الأكاديميين يرفضون هذه التسمية فبرأيهم هذا الأدب المنتج في ديار الغربة لا يمت بصلة إلى الأدب المهجري المعروف قديما، إلا أنني في هذه النقطة أشد على يد الكاتب. فمن حق الأدباء المعاصرين خلق فضاءاتهم الخاصة، فهم عقول مفكرة وليست حناجر مجترة لما أسسه القدامى فقط.
مولود بن زادي شمس مشرقة في أفق الكلمة، حِبرٌ عَطِرٌ ينثر شذى حروفه على الإنسانية، قلم يغني نشيد المحبة والسلام. فهنيئا للقارئ المنفتح بهذا الكاتب الذي يَعِدُ بالكثير.