من ذكريات الثّورة

ليلة الرّعب والانتقام

بقلم: مصطفى جغروري

جاءنا أحد الخونة من القومية يخطب عمّتي أو إحدى أختي عمي عبد الله، أتى وكأنّه متيقّن أنّنا سنزوّجه بناتنا خوفا منه أو حبّا فيه حتى أنّه يريد أن يختار بينهن، لكنه فوجئ بالرفض الصّارم بيننا جميعا، فجنّ جنونه وثارت ثائرته، واغتاض إبليسه وتشيطن شيطانه، وسولت له نفسه الخبيثة أمرا، وأراد أن يكيد لنا كيدا وبيت شرا.
وبعد أيام قليلة تزوّجت عمّتي بمجاهد، فطاش عقله وانفطر قلبه، وشعر بالخزي والعار، وأحسّ بأنّنا احتقرناه وازدريناه. سرى إلينا ليلا مع فرنسيين (02) وعميل مثله، قصد منزلنا أول الأمر وبدأ يقول عند الباب: «افتحوا فنحن جنود نريد بعض الكسرة»، لكن لا أحد ردّ عليه، فعالج الباب وأي باب: عبارة عن لوحتين غير متساويتين يدخل من تحتهما القط، ومن فوق بإمكان أي كان أن يمرر يده بسهولة، وذاك ما فعله الخبيث أدخل يده وعصى وحرّك الخشبة التي كنّا نسند بها الباب، فسقطت واقتحموا الدار، فكان أول من صادفهم جدتي، رفسوها، ضربوها، عضت أحدهم فسقط نابها، أسقطوها وتوغلوا في المنزل فوجدوا عمي الأصغر وهو مراهق فأشبعوه ضربا، ولما سمعت صياحه وصياح جدتي لم أفهم ماذا حدث. أخذت في الصياح وبأعلى صوتي بعدما لففت حول نفسي برنوسي الصغير، ووضعت القلنسوة على رأسي. لما وصلني أحدهم وأراد أن يكشف عن وجهي، وينزع لفّة البرنوس عن قدمي، فلم يستطع فضربني بمؤخرة بندقيته وتركني، وقد ملأت المنزل صياحا، وزوجة أبي دخلت في وسط الماعز وغطت نفسها بوشاح أسود نسميه الطرف وبالشاوية (هغباريث)، فلم يميزوا بينها وبين العنيزات.
لما خاب أملهم خرجوا من عندنا لا بالخف ولا بحنين، لكن تركونا تحت أثر الصّدمة، ودخلوا على عمي عبد الله المناضل الذي لا يشق له غبار، وابن الشهيد الذي لا ينكر أحد نضاله، فحاولوا إخراجه من المنزل لربما حتى يلفقوا له تهمة أنهم وجدوه مع المجاهدين، وبذلك يتسنى لهم قتله بهذه الذريعة، إلا أنه قاومهم مقاومة شديدة حيث ركّز قدمه على عتبة الباب وهي عالية حتى لا تدخل مياه الأمطار إلى المنزل، فعجزوا عن إخراجه وفي هذا الموقف انتفضت الشاويات الأوراسيات: أختاه وزوجته فأخذن يقتلعن أعمدة من زريبة الماعز، وانهلن عليهم بالضرب فحررنه من قبضة الأوغاد. ولما اشتد ألمهم هربوا إلى الخارج حتى أن أحدهم ترك سلاحه مسندا على الحائط لما كان يصارع عمي عبد الله، فرجع بسرعة أخذه بعد أن ذاق ضربات موجعة. وهنا قرّروا قرارا خطيرا هو أن يقتلوا عمي عبد الله في عقر داره، وأمام أعين أختيه وزوجته وأمه. لكن اللّبؤات كنّ بالمرصاد. فلما وجه أولهم بندقيته صوب عمي عبد الله إذا بإحداهن ترفع ماصورة السلاح نحو السقف وتستقر هناك، وحاول الثاني ففعلت إحداهن كالأولى، وانهمرت عليهم ضربات العصي ففروا لا يلوون على شيء، وهم يجرون وراءهم أذيال الخزي والعار.
في الصباح قدّمنا شكوى للمسؤولين العسكريين، فجاءنا النقيب من تكوت ومعه مترجم، سألنا جميعا عن أحداث البارحة فأجبنا وكنت أنا أصغر الحاضرين حتى أن المترجم سألني إن كنت أعرف من جاءنا البارحة، فدللته على ثلاثة والرابع يبدو أن لا أحد عرفه لأنه كان يحرسهم، وعدونا بتعويضات على ناب جدتي وانكسار سنتين لعمي عبد الله، وأنهم سيعاقبون الفاعلين ويبدو أنهم جاؤونا خلسة دون علم مسؤوليهم، قالوا أنّكم تدّعون أن «فرانس» أطلق النار ووجدنا ظلف رصاصته، إلاّ أنّنا لم نجد أثر سلاح «لا جودان». فوالله لقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة تنم عن المكر والدهاء، وكأنما غنم غنيمة أو فاز فوزا عظيما أو كأنما خرج من معضلة كبيرة.
انصرفوا ونحن مازلنا نتناقش، وإذا بي أنحني فرأيت ظلف رصاصة «لاجودان» فأخبرتهم، فمنهم من قال نلحق بهم ومنهم من قال لا داعي لذلك لقد ابتعدوا الآن، وسكتوا عن ذلك.
منذ ذلك اليوم لم يصلنا أي خبر، لا تعويضات ولا شيء آخر، فكيف لنا أن ننسى أيّها النّاس...مستحيل؟!

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024