* أتقدم في البداية بإهداء هذه الكلمة المتواضعة إلى روح المجاهد الفذ العقيد محمد الصالح يحياوي الذي وافته المنية يوم 10 / 08 /2018، بعد مرض عضال ألزمه الفراش لعدة سنوات.
هذه الكلمة تُعَدُّ عرفانًا وتقديرًا لما قدمه الراحل من تضحيات جسام وجهود مخلصة في سبيل الجزائر شعبا ووطنا.
الفقيد غني عن التعريف فهو الرجل المشهود له بالوطنية الصادقة والالتزام بالمبادئ السامية التي جاء بها بيان أول نوفمبر 1954، وكان بحقّ من الشخصيات المثالية أخلاقا وسلوكا وعملا خلال مرحلة الكفاح المسلح، مما جعله يُحضى بتقدير واحترام السواد الأعظم من الشعب الجزائري خصوصا الذين عاشوا معه سنوات الثورة أو بعد الاستقلال.
الفقيد كان موسوعة فكرية وسياسية ونضالية، ولا غرابة في ذلك فهو من طلبة المعهد الباديسي بقسنطينة ووالده الشيخ عيسى يحياوي خريج الجامع الأخضر ومن الطلبة النجباء الذين اختارهم الشيخ عبد الحميد بن باديس للتدريس بجامع سيدي قموش بـ: قسنطينة .
والراحل محمد الصالح يحياوي يُعَدُّ نموذجا فريدا متميزا قل ما يوجد مثله لأنه جمع كل المواصفات المثالية التى تسمو بالإنسان إلى ما هو أفضل وتجعل الألسنة تلهث بذكر محاسنه وتعداد مناقبه كرجل يتقد حماسا ووطنية، فهو إلى جانب ذلك صافي السريرة ماضي العزيمة قوي الإرادة عالي الهمة لا يطمع فيما هو في يد غيره و(القناعة رأس ماله).
سيرة زاخرة بالانجازات
وعليه لا يفوتنا في هذا الصدد أن نَذْكُرَ باختصار شديد بعضا من سيرته الذاتية الزاخرة بالانجازات والمواقف البطولية التي تميز حياته الشخصية وتجعله في مستوى الرجال العظماء الذين يمجدهم التاريخ ويخلد مآثرهم لتبقى ماثلة للعيان على مرّ الأجيال .
ولد الفقيد محمد الصالح يحياوي في 16 جانفي 1937 بـ: عين الخضراء ولاية المسيلة من أسرة كريمة أبا عن جد تمتاز بالمحافظة على القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة وحب العلم والعلماء لأنها تنتسب في الأصل إلى الأدارسة، ويصعد نسبها إلى (الأشراف).
تلقى محمد الصالح يحياوي المبادئ الأولى على يد والده الشيخ عيسى يحياوي رحمه الله، حيث حفظ القرآن الكريم ولَمْ يتجاوز عمره 12 سنة وكان شابا يافعا طموحا إلى مواصلة الدراسة بغية الاستزادة من العلم والمعرفة مثل والده الذي أشرنا إليه.
انتقل محمد الصالح يحياوي إلى الزاوية العثمانية بـ: طولقة التى درس بها بعض مواد الفقه والنحو والميراث إلى غير ذلك من المواد المقرّرة بالزاوية المذكورة، لكن الرغبة ظلت تحدوه في طلب العلم، فقرّر التوجه إلى المعهد الباديسي بقسنطينة الذي يتوفر على عدد من المشايخ المشهود لهم بالكفاءة العلمية والوطنية.
مع العلم أن المعلمين الأحرار يرفضون الوظيفة لدى الحكومة الفرنسية تنفيذًا لوصية شيخهم الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي حذّر طلبته بعد التخرّج من الارتماء في أحضان الاستعمار بقبول الوظيفة التي تجعلهم بالضرورة عملاء للدولة الفرنسية.
ولذلك نجد الاقبال المتزايد على المعهد الباديسي أكثر من غيره، باعتبار أن طلبته أشدّ حماسا ووطنية بدليل أن معظمهم التحق بالثورة ملبين نداء الجهاد، وعلى سبيل المثال نذكر منهم المجاهد محمد الطاهر عزوي، المجاهد محمد الشريف عباس، المجاهد السعيد عبادو، المجاهد محمد الأمين بن يحيى، المجاهد السعيد جعلال، المجاهد أبوبكر مسعودي، المجاهد محمد الوردي قصباية، المجاهد علي مزياني (بعلة)... وغيرهم كثير يتعذّر حصرهم بدقة وكلهم من رفاق محمد الصالح يحياوي أيام الدراسة وفي الجهاد، وهذا يؤكد التلاحم الموجود بين جميع طلبة المعهد الباديسي بقسنطينة دون غيره.
إذا دخل العدو أرض قوم وجب القتال
ولنعد إلى مواصلة الحديث عن المجاهد محمد الصالح يحياوي ونذكر بأنه قبل التحاقه بالثورة استدعي من طرف الادارة الفرنسية لأداء الخدمة العسكرية الاجبارية فقابل الاستدعاء بالرفض والعصيان وفضل الالتحاق على الفور بصفوف الثورة وكله إيمان وحماس بقداسة الجهاد ومحاربة العدو، معتبرا ذلك أمرا ضروريا وواجبا مقدسّا استنادا إلى ما ذكره علماء الإسلام: (إذا دخل العدو أرض قوم وجب القتال) وهذه هي حقيقة مشروعية الجهاد.
فالاستعمار جثم على هذه الأرض أكثر من قرن وربع قرن من الزمن، الأمر الذي يستدعي من الشعب الجزائري ومن كل الوطنيين الأحرار التعبئة والتجنيد لمحاربة العدو بجميع الطرق والوسائل المتاحة والممكنة.
الفقيد بعد التحاقه بالثورة سنة 1956، أثبت كفاءته وجدارته وقدرته على التحكم في إدارة سير العمليات العسكرية والمعارك التي دارت رحاها في مناطق جبال الأوراس رغم صغر سنه، لكن هذه الإشادة وهذا التنويه لا يخصان محمد الصالح يحياوي لوحده بل يعود الفضل في ذلك ـ أيضًا ـ إلى الأبطال الأشاوس من رفاق السلاح الذين كان معهم طيلة سنوات الثورة، وإليكم هذه القصة عن الفقيد محمد الصالح يحياوي صرّح بها المجاهد المرحوم علي سرار وأكدها معالي الوزير المجاهد عبد الرحمان بلعياط على شاشة التلفزيون، والقصة كما يلي: عندما وقعت (معركة الأرباع) ببلدية بوزينة بولاية الأوراس التي أصيب فيها المجاهد محمد الصالح يحياوي إصابة بليغة وخطيرة جِدًّا لَمْ يتمكن أثناءها من تغيير المكان إلى مكان آخر أكثر أمنًا، وبقي في مكانه يصارع الموت أو يقع في قبضة العدو فطلب من المجاهد علي سرار أن يستمر في الدفاع عنه إن أمكن، وإن رأى أن العدو سيقبض عليه لا محالة فليقتله، أجابه سرار على الفور: ((أنا بجانبك إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا بالخروج من المعركة سَالِمَيْنِ أو الاستشهاد)) .
قمة الوطنية.. رجل بوزن أمة
هذه هي قمة الوطنية والشجاعة والتضحية في سبيل الله والوطن. هذا وقد انتهت المعركة وبقي محمد الصالح يحياوي يعاني من شدّة الإصابة، وليست المرة الأولى، بل أكثر من 18 رصاصة في جسمه. وبعد الاستقلال عالج يحياوي في كثير من الدول مثل يوغسلافيا وألمانيا والأردن ولم يقبل أن يتمّ علاجه بفرنسا، ولا يعرفها طول حياته.
وأخيرًا نكتفي بهذا القدر من الكتابة عن سيرة ومسار هذه الشخصية الفذّة التي وصفتها الكاتبة الفاضلة علجية عيش في مؤلفها الجديد بعنوان: ((رجل بوزن أمة)) هذا هو عين الصواب والحقيقة التي لا مراء فيها.
وعلى هذا الأساس، فإن محمد الصالح يحياوي رجل المبادئ والقيم والأخلاق والنزاهة والإخلاص وحب الوطن، وعندما تتاح لنا الفرصة وتسمح لنا الظروف نتطرّق إلى حياته العسكرية والسياسية التي مارسها بعد الاستقلال.
رحم الله الفقيد رحمة واسعة وألهم ذويه جميل الصبر والسلوان.
في سطور
- من مواليد 1937 ببلدية عين خضرة التابعة لدائرة بريكة سابقا قبل المسيلة.
- نشأ وترعرع ببلدية بريكة - ولاية باتنة - هو من الضباط الأوائل لجيش التحرير الوطني عام 1956.
- حياته ومساره السياسي:
- ممثل الجيش الوطني الشعبي أثناء انعقاد مؤتمر الحزب في 16 أفريل 1964، وانتخب عضوا في اللجنة المركزية.
- عضو في قيادة الأركان ومجلس الثّورة 1965 بعد 19 جوان 1965.
- تولّى قيادة النّاحية العسكرية الثالثة 1964 - 1969 ثم قائد المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال ١٩٦٩ / ١٩٧٧.
- عين مسؤولا ومنسق جهاز الحزب في أكتوبر 1977، وكلّف بمهمة إعادة هيكلة الحزب وتنظيمه وتنشيط المنظمات الجماهيرية، حيث حصل على تأييد اليسار الجزائري المؤيد للخط الاشتراكي التقدمي خاصة المنظمات الجماهيرية (الاتحاد العام للعمال الجزائريين UGTA - الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين - الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات - الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية UNJA - الاتحاد العام للتجار الجزائريين..).
- وفاته:
توفي صبيحة الجمعة 10 أغسطس 2018 بمستشفى عين النعجة العسكري، عن عمر ناهز 81 سنة.