إنّه من مواليد الستينيات وبالضبط في 18 أكتوبر عام 1964 ، في حارة عريقة من حواري عروس الزيبان ( بسكرة ) إنّها ( حارة الواد ) ، وعندما نقول ( حارة الواد ) في بسكرة تصرف الأنظار مباشرة إلى وادي سيدي زرزور الذي يحف بالمدينة من جهتها الشرقيّة، وسيدي زرزور هذا الولي الصالح الذي طبقت شهرته الآفاق وسارت بحديثه الركبان. في حين كان سوق الحشيش ( السوق الأكثر شعبيّة في تاريخ بسكرة الستينيات والسبعينيات) يحفّ بها من جهتها الغربيّة.
حارة الوادي حارة شعبيّة عريقة تفرض على الذي يعيش فيها، مهما كان مستوى أسرته المعيشي، تفرض عليه أن يحتك بالطبقة البسيطة من الناس، وأن تطبع في ذاته صور البؤس والحرمان المختلفة التي تعيشها هذه الطبقة ، كما يأخذ من أخلاقهم وسلوكياتهم الفطريّة التي تتميّز بالعفويّة والسّذاجة في كثير من الأحيان.
تغذى من تراث الامة ومخزونها الابداعي
عاش بدر الدّين بريبش حياة بسيطة هادئة يرضع من لبان المجتمع البسكري؛ ثقافته الشعبيّة المتجذرة في عمق أمتنا الحضاري، ودرس بمدارس بسكرة الناشئة؛ متوسطة العمودي ، وثانويّة ابن خلدون والمعهد التكنولوجي للتربيّة.
أمّا ثقافته خارج الإطار الرسمي المؤسسي فقد نشأ على تشرّب تراث الأمّة ، ومخزونها الإبداعي في عصور الازدهار، وكان يتابع ككل المثقفين في تلك الفترة الإصدارات القليلة والقيمة في الوقت نفسه، التي تصدر في الجزائر وعلى رأسها مجلّة الثقافة ومجلّة مقيدش أو ألوان، كما كان يتلقف بكثير من اللهفة ما يأتينا من خارج الجزائر على فترات متقطّعة ، مثل مجلّة المستقبل والوطن العربي، ومجلّة العربي الكويتيّة الشهيرة، ومجلّة الدوحة والفيصل، وغيرها من المجلات والدوريات التي تصنع لنا تنوّعا ثقافيّا في تلك الفترة.
لمّا أحسّ من نفسه قدرة على مداعبة القلم وتحبير الكلمات؛ أخذ يصوغ كلاما جميلا في هيئة قوالب شعريّة متميّزة ، فشدّ انتباه زملائه إليه وشاعت أشعاره بينهم فسمي شاعر القسم.
وفي يوم ما تفتقت قريحته الإبداعية فولج عالم القصّة بجدارة واقتدار ، مصحوبا بنفسه الشعريّ وروحه الفنيّة العذبة، وتفرغ للقصّة ونسي الشعر أو كاد.
لم أنشأ معه في حارة واحدة ولا في مدينة واحدة، فقد كان هو مدنيا وكنت أنا بدويّا ، على قرب المسافة بيننا، ولذلك لم أعرفه إلا في أواخر الثمانينيات ، عندما جمعتنا الملتقيات الثقافيّة والفكريّة ، وجمعتنا جمعيّة أضواء ودار الثقافة أحمد رضا حوحو ( في عهد المرحوم الشاعر عمر البرناوي والذي أعترفُ أنّه فتح لنا أبواب دار الثقافة ، رغم اختلاف توجهاتنا الفكريّة وكان رحب الصدر معنا، ولعلّنا أخذنا منه القدرة على الاختلاف مع الآخرين دون معداتهم أو إقصائهم من حياتنا)، وكانت السهرات الرمضانيّة في التسعينيّات تجمعنا في دار الثقافة فنقرأ القصّة ونستمع لغيرنا يقرأونها ، ونتحاور في شتى مناحي الفكر والثقافة.
حوار هادئ حول قضايا ساخنة
وبدأ بدر الدّين بريبش - الذي كان معروفا في الوسط القريب منه باسم ( بادي )- بنشر قصصه ومقالاته في مختلف الصحف والجرائد الوطنيّة ومن أهمّها الخبر، السلام ، النصر، أضواء ، العقيدة، النور.
وأذكر أنّه كان مراسلا لفترة ما لجريدة النور ويكتب فيها الأخبار المحلّية ، وكنت التقي معه باستمرار فنتناقش في الوضع السياسي والأجواء الأدبيّة والثقافيّة المختلفة ، فنتفق كثيرا ونختلف أحيانا، ولكنّه ذا أدب جمّ وحوار هادئ لا يعلو صوته ولا يحتدّ أو يشتدّ، ويبقي الباب دوما مفتوحا لـ (ربما وقد)، فتحا لآفاق التلاقي وتلاقح الآراء غالبا ، ومجاملة أحيانا حرصا على المودّة ودفعا لإحن النفوس وسخائمها.
قطعنا سويّا شوطا معتبرا في الجمعيّة الخلدونيّة نتجاذب الفكر من أطرافه والأدب بكلّ فنونه، تجمعنا الندوات واللقاءات الحميميّة في مقهى الحريّة بوسط مدينة بسكرة، حيث يجتمع معظم الأدباء والمثقفين ، حتى قال أحد الأصدقاء، لو أننا هجرنا هذا المقهى لخسر خسارة كبرى وأغلق أبوابه.
وكنّا نكتب وننشر قصصنا أو مقالاتنا وآراءنا النقديّة ولا نحلم بطبع نتاجاتنا الأدبيّة ، إلى أن قامت جمعيّة أضواء بمحاولة جريئة وطبعت لنا عملا مشتركا، في شكل بغاية البساطة ولكنّه كان ظهورا أوليّا في كتاب مطبوع ، أو هو كتيّب بشكل أدق، وكان عنوانه الذي اختاره لنا الأستاذ زين الدّين بومرزوق إن لم تخني الذاكرة؛ ( ذاكرة عرائس الرّمل ) ويبدو أنّ العنوان راق جميع من قرأه ، وقدّم له الأستاذ الأديب زين الدين بومرزوق بمقدّمة جميلة.
كان الكتاب عملا مشتركا قدّمت فيه نماذج قصصيّة لأربعة من كتاب القصّة في بسكرة، وهم الأستاذ المبدع والأديب المتميّز الزاهد في النشر على جودة بضاعته ، وعلو كعبه في فنّي القصّة والشعر على حدّ سواء ؛الصديق سعد سعود شخاب، والأستاذ سليم بوعجاجة والأستاذ المرحوم بدر الدّين بريبش ، وصاحب هذا المقال على ضعف بضاعته وقلّة حيلته.
كلّ كاتب اختيرت له أربع قصص وضعت بالمجموعة، ولقد كتبت عن الصحف والجرائد في حينها، وأعطوها ما تستحق من العرض والتعريف ولكن ( لا نقد ولا تحليل )، وأنا أقول دائما، ولعلّي سمعت هذا الكلام من غيري ولا أذكر قائله:
( الصمت هو حكم بالإعدام على العمل الإبداعي ) ، وأضيف فأقول والنقد - حتى ولو كان قاسيا - هو إحياء لهذا العمل وبعث آخر له في ساحة السجال الفكري والثقافي.
وعندما فتحت إذاعة بسكرة الجهويّة أبوابها ، أشرعت لنا أذرعها بكلّ حب وترحاب وكان بدر الدّين بريبش من السبّاقين – متعاونا – للعمل بها ، ولم يكن يهتم بأيّ مردود مالي أو يسعى إليه، بل لقد أخبرني فيما أذكر أنّه لم يكن يعلم طول الأشهر الأولى لعمله بالإذاعة؛ المقابل المادي لكلّ حصّة يقدمها ، وأكثر من ذلك فلقد أخبرني عندما كان يقدّم حصّته الإذاعيّة ( جولة في سيدي روم ) أنّه ينفق في إعداد الحصّة من حرّ ماله أكثر من المقابل الذي يتلقاه على هذه الحصّة.
«فواتح”.. باكورة إبداع لا حدود له
وعندما صدرت مجموعتي القصصيّة الأولى ( فواتح ) أقامت لها الخلدونيّة أمسيّة احتفاليّة بدار الثقافة أحمد رضا حوحو ، وأعدّت حولها كلمات نقديّة عجلى من طرف الأستاذ الدكتور صالح مفقودة والأستاذ بدر الدّين بريبش ، وتدخل كثير من المثقفين والمتتبعين بالتعليق عليها. لكن أغلب الكلمات كانت هي إلى المجاملة أقرب منها إلى المدح، نظرا إلى أنّ الأمسيّة احتفاليّة وليست نقديّة، ولأنّ أغلب الحضور أصدقاء وإخوان ومعظمهم لم يكن مهيأ للنقد الموضوعي، إلا أنّ بدر الدّين شذ عن الحضور وتناول في مداخلته المجموعة، بشيء من النقد الموضوعي.
وبعد انصراف النّاس واختلائه بي ؛ خشي أن أكون قد تذمّرت من نقده أو غضبت ، فتقدّم منّي وقال:
-لقد رأيت أنّ جميع من سيتدخّلون ؛ سيثنون على المجموعة ويقدّمون المجاملات البروتوكوليّة المناسبة في مثل هذه المناسبات ، فأردت أن أبدي رأيي صراحة ، حتى لا يقال أنّنا نجامل بعضنا بعضا ، على حساب الفكر والإبداع والنقد الموضوعيّ ، فلا تغضب منّي.
وبطبيعة الحال لم أكن غاضبا، ولم أغضب منه يوما قط ، فقد كان لسان الصدق الذي ينطق به لسانه، وطيب القول الذي ينثره من حوله يمنع أي إنسان أن يغضب منه. فقلت له:
- لا عليك. فوالله لأنا سعيد بنقدك أكثر من سعادتي بثناء الآخرين ومدحهم ، ومعظم ما أوردته من ملاحظات على مجموعتي ( فواتح ) ، هي في الصميم وأنا موافق على جلّ ما قلته فيها. وهذا حافز يدفعني للتطوير والإجادة.
ورغم أنّنا أصبحنا نعمل في المكان نفسه ( متعاونين في إذاعة بسكرة )، إلا أنّ لقاءاتنا قلّت ولم نعد نجلس مع بعض مدّة طويلة ، فقد تشعبت بنا دروب الحياة وانشغالاتها واستغرقتنا كليّة، ولكننا منينا أنفسنا بتغيّر الوضع وتبدل الأحوال.
وفي اللحظات التي نتقاطع فيها – أحيانا – بعد أو قبل التسجيل في الإذاعة أو في وسط المدينة؛ نتبادل حديثا خاطفا، لا يبلّ الصدى ولا يشفي الغليل ، وأذكر أنّ آخر مرّة التقيته فيها منذ شهرين تقريبا قبل وفاته ، حدّثني عن طبع مجموعته القصصيّة الأولى ( بقايا الذاكرة المحنّطة )، وكان يتأسّف ويتحسّر على أنّ النسخ التي ستعطى له لا تتجاوز العشر، وهو محتار كيف يوزعها على الأصدقاء والإخوان.
ولم ألقه بعدها إلا بعدما جاءني نبأ وفاته وكان صدمة هائلة ، أحقا مات بدر الدّين ؟
«بقايا الذاكرة المحنطة” الوجه الاخر لثقافة بريبش
وصدرت مجموعة بدر الدّين القصصيّة ( بقايا الذاكرة المحنّطة )، صدرت قبل وفاته ببضعة أسابيع أو بالأحرى تسلّم نسخه العشر منها، قبل وفاته بيسير وكنّا ننوي الاحتفاء بها في الجمعيّة الخلدونيّة، لكن القدر كان أسرع وحكمة الله أكبر وأعظم.
ولم يسعفنا الحظ في أن نحصل على نسخة منها، غير أنّ الأستاذ عبد الحليم صيد استطاع أن يستعير نسخة من عند أخيه عبد اللطيف، فاطلعنا عليها وأخذ على عجل بعض الصور المستنسخة من بعض الصفحات. تبدو الطباعة متوسطة ، الغلاف جيّد واللوحة الفنيّة المختارة يبدو أنّها اختيرت بعناية ، تعبر بدقة عن حجم التشاؤم الساخر والمعاناة المرّة التي طبعت جلّ قصص المجموعة الواحدة والثلاثين.
حظيت المجموعة بتقديم الأستاذ الكبير والأديب الشهير؛ الدّكتور عبد الله ركيبي وهي شهادة ذات وزن يعتدّ بها في الميدان النقدي وكان من ما قاله عنه، مسجلا اسمه في سماء الخلود الأدبي:
‘ .. ويزداد المرء إعجابا بصاحب هذه المجموعة القصصيّة ( بقايا الذاكرة المحنّطة )، لما يعرف أنّ صاحبها يهتمّ بالعلم فهو متخصص في الفيزياء والتكنولوجيا..”.
وقد أثار طلب القاص بدر الدّين بريبش من الدكتور عبد الله ركيبي أن يقدّم لمجموعته ؛ أثار في نفسه خواطر جمّة منها تنويهه بولاية بسكرة التي لطالما أنجبت كما يقول : ( كثيرا من الأدباء والكتاب والإعلاميين ونبغ فيها شعراء ومفكرون وباحثون ).
ويقول أيضا أنّه فكر في المواهب التي لا يوجد من يأخذ بيدها، ويكشف عن إبداعها، لاسيما تلك المواهب القابعة في الزوايا المنسيّة من القرى النائيّة والدشور المعزولة.كما قدّم أيضا للمجموعة الأستاذ الشاعر صمودي نصر الدّين، وهو صديق حميم لبدر الدّين بريبش رحمه الله.ثم تتلوها مقدمة القاص نفسه والتي يتحدّث فيها عن مجموعته بتواضع كبير ، ويكشف عن بعض خبايا وأسرار كتابة قصصها.
تتألف المجموعة القصصيّة ( بقايا الذاكرة المنحطة )، لبدر الدّين بريبش من واحد وثلاثين قصّة قصيرة اختلفت في حجمها كما يقول الأديب عبد الله ركيبي من صفحة واحدة إلى ثلاث وأربع صفحات في أحيان قليلة ، وهو يسمّي أغلبها أقصوصة ، وإن لم تعد هذه التسمية شائعة الآن ، فالمصطلح المنتشر بكثرة هو القصّة القصيرة أو القصّة القصيرة جدّا وهذه القصص هي: ( بقايا الذاكرة المحنطة والتي أخذت المجموعة تسميتها منها / مذكرات رجل ميّت / الطابور / الهديّة الخيرة / لن يسقط القناع).
وهي عيّنات يصلح أن نستخلص منها أسلوب بدر الدّين بريبش في الكتابة القصصيّة ، وخصائصه الفنيّة والتقنيات المستخدمة في ذلك ، ولأنّ بدر الدّين لم يكن مكثرا من كتابة القصّة لاسيما في السنوات الأخيرة فإنّه من الصعب للغاية تتبع التغيرات التي حدثت في أسلوبه أو التطوّر الذي وقع في أدبه، خلال ما يزيد عن عشرين سنة مارس فيها الكتابة بمختلف أجناسها، بدءا بالشعر ثم القصّة والمسرح والتمثيليات الإذاعيّة والمقال أيضا