القصبة معلم حضاري يعود لأزمنة غابرة لكنه ما زال قائما وصامدا في وجه كل محاولات طمسه من طرف الإنسان. أصوات تتعالى يوميا من أجل الحفاظ على هذا التراث تارة باسم جمعيات وتارة أخرى فرديا، إلاّ أنّه لا أحد من هؤلاء تجده في الميدان من أجل أداء مهمته في عين المكان، بل الكثير من هؤلاء يفضّلون الصالونات والأبراج العالية للحديث عن القصبة.
وقد أدّى هذا الفراغ إلى معاينة مفادها ''أنّهم مسؤولون'' على الورق فقط، يتاجرون بالقصبة ويتباهون بها من منطلق غريب جدا على أنّهم من ''مواليد'' هذا الصرح فقط أو تربّوا فيها حاليا، غير أنّهم يرفعون لواء ''كم أحبّك'' من أجل أغراض مشبوهة.
ما يتوارد على مسامعنا ليس كما وقفنا عليه بالقصبة، خلال يوم كامل اطّلعنا على عينات للحالة المزرية التي وصل إليها هذا الفضاء الحضاري، من إهمال لا يوحي أبدا بأنّ هذا المعلم مصنّف من طرف اليونيسكو ضمن منظومة التراث العالمي، لا لشيء سوى لأنّ المواقع التي كانت محل ترميم وإعادة تأهيل لا تحظى بمتابعة ميدانية أو حراسة مشدّدة، كل شيء متروك لعبث الإنسان.
أناس غرباء استولوا على ''الدويرات'' التي أخلاها أهلها، الذين استفادوا من سكنات جديدة في جهات أخرى عادوا ثانية إلى ''دارهم القديمة''، هناك من حوّلها إلى غرف للكراء دون وجهة حق أي لا يملك أي وثائق رسمية، وهناك من جعلها مكانا للقاء الأحباب والخلان. يوميا يسجل توافد لا يعدّ ولا يحصى على القصبة من كل حدب وصوب، ناهيك عن المحلات التي تحوّلت إلى مخازن للسلع والمواد الأولية، ومنها ما هي مغلقة غادر أصحابها هذا المكان أو تخلوا عنه لأناس آخروين، يمارسون أنشطة لا علاقة لها بهيبة القصبة، المتميزة بالحرف النادرة التي للأسف اندثرت مع مرور الزمن كالنحاس، النجارة، الدباغة، الحياكة، الحلي، الأفران التقليدية وغيرها.
ماذا تبقّى في القصبة اليوم؟ انهيارات بالجملة لما يسمى ''بالدويرات'' التي كانت تقدّر بحوالي ١٥ ألف دويرة ما بين ١٦٥٦ و ١٧٨٤، واليوم لم يعد هناك سوى ٣٦٠ دويرة، وفي مقابل ذلك أغلقت كل الحنفيات التي تزوّد الناس بالمياه العذبة، وتقهقر عددها من ١٥٠ حنفية إلى ٣ حنفيات فقط.
لا بكاء على الأطلال..ولكن..
لسنا هنا للبكاء على الأطلال، وإنما أردنا من خلال تلك الإطلالة على واقع القصبة أن نطلع القارئ والجمعيات المسؤولة على أنّ المقاربة المتّبعة حاليا في التعامل مع هذا المعلم تجاوزها الزمن، ولم تعد صالحة إن لم يسارع الجميع إلى إيجاد البدائل الفورية والآليات المستعجلة للتكفل بهذا الأمر، باستحداث هيئة تكلّف مرافقة القصبة بعيدا عن الوصاية الإدارية التي تتحمّل المسؤولية المباشرة في مراقبة كل ما يحدث هناك من تجاوزات ضد كل تلك الأملاك التابعة للخواص أو للوقف، وهناك تفكير جدي من أجل وضع ما يعرف بأمن حماية الآثار من الإندثار والإهدار، وهي مراكز خاصة توضع عند مداخل القصبة وكذلك الصرامة في معرفة أي محاولة لتغيير طبيعة البناء الأصلي، وهذا نداء صادق صادر عن محبّي القصبة وبخاصة الغيورين عليها.
البداية كانت من شارع ''مارينقو'' الذي يفصل بين القصبة العليا والقصبة السفلى، هنا سجّلنا من خلال الملاحظات الأولية أنّ الإدارة الفرنسية عملت جاهدة من أجل غلق مداخل القصبة بواسطة شق طريق يبدأ من شارع ''روندو'' إلى غاية سيدي عبد الرحمان، ليعانق ما يعرف ''رامب فالي''، وهذا لبناء سلسلة من العمارات ذات الطابع العصري لإخفاء القصبة كلية عن الأعين، أي كل ما يتعلق بما هو عمران جزائري، وسكن تلك الأحياء اليهود وأجناس أوروبية أخرى.
وكلّما التقيتَ ساكنا من سكان القصبة إلاّ ويبدي حسرته وتأسّفه لما تشهده هذه المنطقة من تدهور متواصل، لا ندري لماذا هذه الحالة النفسية لدى هؤلاء؟
هل هو انشغال واقعي يترجم حقا قناعة عميقة في التكفل بهذا الملف؟ أم هي مجرد دموع تماسيح تذرف في كل مناسبة لإظهار الذات والإنتماء الضيق؟ لا نفهم مثل هذا المنطق المزدوج الذي يطرح مرة على أساس الحنين إلى الماضي، ومرة أخرى بالاعتراف بالعجز في مواجهة هذا الواقع اليومي، وهذا بتغييب السلطات العمومية التي يوجه إليها كل اللّوم في هذا التقاعس.
في الطريق المؤدي إلى مدخل القصبة وقفنا على إشارة تحتاج إلى التنويه بها، وهي وجود لوحة تذكارية مدوّن عليها ''هنا أقام الفنان القدير الحاج امحمد العنقا من ١٩٤٤ إلى ١٩٥٨''، وبجانبه عمارة نظيفة مزينة بشكل ملفت للانتباه يشرف عليها السيد ديدو.
عمي الهاشمي...٥١ سنة في النحاس
مباشرة وطأت أقدامنا القصبة العليا، وعلى مسافة ليست بطويلة التقينا مع عمي الهاشمي بن عميرة وهو حرفي في مادة النحاس، يصنع نماذج في غاية الأهمية، الوحيد الذي ما زال يمارس هذه المهنة منذ ٥١ سنة، في دكان بسيط للغاية يتواجد بشارع حسين بورحلة (رو دوبلوغين سابقاّ، هذا الرجل ما زال يحمل حبّا لا يفنى لهذه الحرفة، يصارع كل العوامل، متحديا الزمن بأدوات عمل تقليدية، حفاظا على هذه الصنعة التي تعلّمها عن السيد زولو محمد، وهو في سن الـ ١٥.
السيد الهاشمي يتمتّع بحيوية وإرادة قوية وروح عمل عالية، لا يمكن التأثير عليه بكل تلك السهولة عندما يتذكّر بأن مثل هذه الحرفة في طريق الزوال، ولا أحد يتحرك لوقف هذا الموت البطيء لأغلى ما تملكه الجزائر، ويتأسّف شديد التأسّف لعدم قدرته على تقديم يد المساعدة للشباب بسبب ضيق مساحة المحل، ونقص المواد الأولية التي لا يسمح بالحصول عليها بالسهولة المطلوبة. ويتذكّر جيدا بأنه حوالي ١٥ حرفيا كانوا ينشطون في محيطه من العاملين في الحياكة، الخشب، الجلد، الصوف، النسيج (الحرار) و''الزلاج'' لا أثر لهؤلاء اليوم، ''منهم من ترك مهنته، ومنهم من توفي''.
ويبدي السيد الهاشمي تخوّفه من أنّنا سنصل في مرحلة معيّنة من هذا التسيب إلى استيراد حرفيين من الخارج ما دام ليس هناك بديل، وقد حظي بـ ١٠ تكريمات من قبل السلطات المعنية، التي وعدته بظروف عمل أحسن لكن بقيت مجرّد صيحة في واد. كما يوجد بحوزته سجلا لكل من زاره في هذا المحل من وفود رسمية أجنبية وسفراء، اقترحوا عليه أن ينتقل إلى بلدانهم قصد تعليم شبانهم هذه المهنة، لكن سنّه وارتباطه بعائلته لم يسمح له بالسفر.
عمي خالد...حياة كلها خشب فني
العيّنة الثانية التي أخذناها على ضوء الحرف المندثرة هي الخشب، أي كل ما يتعلق بالجانب الفني والجمالي لهذه الصناعة، الوحيد الذي يواصل هذه المهنة هو السيد محيوت خالد الذي يتواجد بشارع سيدي دريس حميدوش (رو كاسبا سابقا)، يؤدي عمله في هدوء تام حسب الطلبات التي ترد إليه، في ورشة ورثها عن أبيه بآلات بسيطة جدّا، لكنه عازم على الاستمرار والحفاظ على هذه الحرفة بالرغم من ضغوط الإدارة التي أتعبت هؤلاء بالضرائب.
ويرى السيد محيوت أنّه من أسباب ''انقراض'' هذه المهن غياب نظرة واضحة لدى مصالح الضرائب التي لا تراعي ما بين ما هو ثقافي وما هو تجاري، ممّا جعلها تدخل تغيرات جذرية على طبيعة الرسم الخاص بهؤلاء الحرفيين، الذي كان جزافيا من ٢٠ دينارا إلى ٤٥٠ دينارا، هذا ما شجّع الكثير من أصحاب المهن على السير في هذا الطريق بكل حب وشغف قصد السعي لحماية هذه الحرف من الذوبان، لكن في رمشة عين وبين عشية وضحاها ألغيت هذه الصيغة وعاد الجميع إلى ما يعرف بالتقييم كباقي التجار الآخرين. وعندما شعر الكثير بهذه الضغوط المتزايدة، قرّروا تغيير الوجهة إلى أفق أخرى بعد أن استحال عليهم الأمر القيام بنشاطهم العادي، وهناك من أغلق محله مفضّلا ممارسة أشياء أخرى.
ويذكر في هذا السياق حرفيين كان لهم باع طويل في القصبة والفضل الكبير في ترميم قصر الشعب في السبعينات وهم: عمي حميد قبطان، حسان دامرجي، محيوت محمد، وخوجة بالإضافة إلى السيدين بونطة عثمان وزروقي، هؤلاء تمّ الإستعانة بهم في إعادة تأهيل الخشب الفني بقصر الشعب.
والحالة التي تعيشها الحرف في الوقت الراهن ما هي إلا محصّلة لوجود أناس لا علاقة لهم بهذه المهن، يشرفون عليها لكنهم لم يمارسوها في الواقع ولا يعرفون مشاكلها للأسف، ممّا عطّل الكثير من الأشياء في هذا الميدان وأخّر كل انطلاقة واعدة التي برمجها أصحاب الحرف للخروج من دائرة التحسّر والحنين.
حدادي: ''حافظوا على ما تبقّى''
ووجّه السيد حميد حدادي رئيس جمعية حماية البيئة والمحيط لولاية الجزائر، الذي كان رفقتنا في هذه الجولة نداءً عاجلا إلى سكان القصبة قصد الحفاظ على ما تبقّى فيها من ''بناءات'' قائمة، داعيا العائلات التي تملك ''دويرات'' و''محلات'' أن تنهي أو بالأحرى تسوّي مشكل الوراثة بين الأبناء، الذين انقسموا ما بين من يريد البيع أو الاحتفاظ بالملك، واتّضح في نهاية المطاف أنّهم لم يتوصّلوا إلى صيغة تذكر ممّا اضطرهم إلى صدّ أبواب الدويرة وغلق المحلات. ويلاحظ زائر القصبة أنّ جل هذه الأملاك ضحية هذه الخلافات الحادة بين أفراد العائلة الواحدة.
ويرى السيد حدادي بأنّ هناك العديد من العوامل ساهمت في تدهور القصبة، منها إدخال قنوات المياه بدلا من الاحتفاظ بالبئر فيما يعرف ''بوسط الدار''، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أن هناك أشخاص يبيعون ''الغرف'' لأناس غرباء، وهؤلاء لا يحوزون على أيّة أوراق ثبوتية أو وثائق إدارية رسمية. وهناك للأسف من حوّلها لوكر للآفات الاجتماعية، وهناك فئة أخرى تعمل على إتلاف تلك ''الدويرات'' عمدا من أجل الحصول على سكنات جديدة. وفي هذا السياق، قال لنا السيد حدادي أنّ الكثير من السكان يستعملون القصبة كمحطة انتقالية لأماكن أخرى، في غياب حدّ أدنى من الردع، متوقّعا أن يتم نقل الكثير من هؤلاء إلى الشاليهات في غضون الأيام القادمة، هذا ما يتداول لدى البعض. ويشدّد السيد حدادي على ضرورة احترام عمال النظافة الذين يشتغلون بالأحمرة لنقل النفايات كونهم يتلقّون صعوبات جمّة.