قليلون من سكانها من يدرك أصل تسميتها ويعلم ماذا تعنيه كلمة «فوكة» ولكن الأمثال الشعبية التي تتحدّث عن هذه المدينة الجميلة لا تزال تتداولها الألسن لاسيما من طرف الوافدين إليها من الناحية الغربية للولاية، وهي تؤكّد أنّ الأمر له علاقة وطيدة بتواجد المياه الجوفية غير بعيدا عن سطح الأرض وعلى نطاق واسع.
يشاع عن مدينة فوكة أنّها كانت نموذجا متميّزا لانتشار الينابيع والعيون التي تنبعث منها مياه عذبة لذة للشاربين إلى درجة ارتباط تسميتها بمصطلح «فوقة» والذي تطور فيما بعد إلى فوكة لأسباب لها علاقة بتداعيات الاستعمار الفرنسي للمدينة بحيث كان يشاع قديما بأنّ سكان المنطقة كانوا يقتنون مياه الشرب من الينابيع المنتشرة محليا أو عن طريق حفر آبار صغيرة تجلب منها المياه عن طريق اليد مباشرة، مما يؤكّد فرضية وجود المياه في مستويات علوية أو فوقية من الأرض، ومن ذلك برزت عدّة عيون لا تزال بعضها قائمة إلى الآن كعين الحجر وعين سيدي محمد وعين مرقب وعين مروش وعيون أخرى لا تزال أطلالها تتحدّث عنها بالرغم من بطش الإنسان وطغيان الطبيعة كعين السبع بوسط المدينة وعين السبايس بالقرب من مقر الدائرة وعين لالة عودة بالقرب من المقبرة، وهي العين التي كانت تشتهر بقدسية مياهها بمعية ينابيع أخرى كان سكان مدينة القليعة المجاورة يقتنون منها لرش بيوتهم تبركا بها، بحسب ما تؤكّده بعض الروايات محليا، وتشير عدّة روايات تتداولها ألسنة المهتمين بتاريخ البلدة إلى تسجيل أكثر من 100 ينبوع للمياه، خلال فترة ما قبل نشأة المدينة قبيل غارة الاستعمار عليها عند احتلاله للجزائر مباشرة.
معظم العيون اندثرت واختفت عن الأنظار
غير أنّ قدسية العيون والينابيع لدى الآباء والأجداد لم تشفع للأجيال المتعاقبة من الحفاظ عليها وترميمها خدمة للتقاليد وحفاظا على الموروث الاجتماعي والتاريخي للمنطقة بحيث زحف الاسمنت الذي لا يرحم على معظم العيون التي اختفت عن الأنظار بفعل بطش الإنسان وطغيان الطبيعة ولم تعد الآن تتحدّث عن تاريخ المدينة على الإطلاق، بحيث تمّت إحاطة معظم العيون والينابيع بأسوار خاصة في حين تمّ طمس آثار بعض منها ولا يزال إلا العدد القليل منها شاهدا على تاريخ فوكة المليء بالمياه العذبة وتأتي في مقدمة العيون المندثرة عين السبع الواقعة بوسط المدينة والتي جفّت عن آخرها بفعل طغيان الاسمنت المسلح من حواليها وتخلي مختلف الأجيال عنها عبر الزمن، إلا أنّها لا تزال تحتفظ بتسميتها لذات الموقع الذي يحتضن حاليا سكنات خاصة ومرافق عمومية، كما إختفت عين لا عودة بضريح الولي الصالح سيدي عبد القادر عن الأنظار بفعل تراكم الأحداث والسنين، وهي العين التي ارتبطت بنضال وتاريخ الولي الصالح سيدي علي امبارك الذي اتّخذ من القليعة مقرا له.
عيون تستقطب الفضوليين وتعجّ بالسيارات المعروضة للغسيل
رغم تطور شبكات توزيع المياه واستفادة المنطقة حاليا من مياه الشرب على مدار 24 ساعة في اليوم، إلا أنّ ذلك لم يمنع سكان فوكة وما جاورها من التردّد على عيون المنطقة لجلب المياه أو استغلالها بعين المكان لأغراض مختلفة، حيث تأتي في مقدمة هذه الأغراض عملية غسل السيارات، كما هو الشأن بالنسبة لعين بن عزوز الواقعة بين فوكة والدواودة والقليعة والتي تحولت في الفترة الأخيرة إلى مقصد لعشرات السيارات يوميا لغرض تنظيفها ويزداد هذا العدد، خلال يومي العطلة الأسبوعية بحيث تصبح الطريق المحاذية للعين صعبة المرور بفعل كثافة السيارات المتوقفة هناك وكذلك الأمر بالنسبة لعين سيدي أمحمد التي لا تزال تمد المياه على مدار أيام السنة وكانت تشكّل إلى وقت قريب مصدرا للتزود بمياه الشرب للعديد من سكان المنطقة قبل أن يتم تزويدهم بشبكة مياه الشرب الحديثة لتتحول العين، خلال السنوات الأخيرة إلى مصدرهام للمياه بالنسبة لفلاحي المناطق المجاورة ولا يختلف الأمر كثيرا عن عين مرقّب المجاورة، إلا أنّها تعتبر أقلّ شأنا مقارنة بسابقتها ولكنّها لا تزال شاهدة على التاريخ الذي رافق نشأة وتطوّر مدينة فوكة، وغير بعيد عن هذه الأعين الثلاثة تقبع عين الغابة بجوار حي سي أمحمد بوقرة والتي لا تزال تزود العديد من السكان بالمياه وتعتبر مصدرا هاما لمياه السقي بالنسبة لفلاحي المنطقة، فيما تسيل مياه عين مروش بفوكة البحرية في البحر مباشرة ولم يتمكن أحد من استغلال مياهها بالنظر إلى وجود بدائل أخرى مطروحة محليا.
إلا أنّ العيون أو الينابيع ليست هي وحدها التي تحتفظ لنفسها بالحديث عن نشأة وتطور مدينة فوكة، فالآبار العميقة نسبيا والتي تمّ حفرها خلال فترة الاستعمار على امتداد الطريق الولائي رقم 126 باتجاه مدينة الدواودة وكذا بطريق القليعة لا تزال قائمة إلى الآن ولا تزال توفّر القدر الكبير من مياه السقي للمزارع المجاورة باعتبارها تقع على محور غني بالمياه، كانت كذلك منذ القدم ولا تزال على هذه الحال بشهادة الذين عايشوا الأحداث منذ فترة الاستعمار.
المخيم المزيّف رواية أخرى تدعّم تاريخ فوكة العريق
يجمع العديد من المهتمين بتاريخ مدينة فوكة كتوفيق بوفريوة واسماعيل معشوق وغيرهم على أنّ المدينة لم تكن مفتوحة أمام أيّ كان خلال الفترة الاستعمارية ولاسيما خلال عقود من الزمن تلت فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر بحيث تشير بعض الروايات إلى إنشاء سجن كبير بالمدينة على شاكلة مخيّم وقيل عنه بأنّه مخيّم مزيّف ومنه جاءت كلمة «faux camp» التي تعني ذلك وتحولت إلى فوكة فيما بعد بحيث كانت فرنسا تلقي بضباطها المخالفين لتعليمات قياداتهم بذات المخيّم فيما تشير روايات أخرى إلى كون المخيّم الذي أنشئ بالمدينة كان يستقطب الشخصيات الفرنسية الرفيعة المستوى لغرض قضاء بعض فترات الراحة ولا تزال إحدى زاويا المخيّم قائمة إلى حدّ الآن ولم يتم هدمها بالنظر إلى دفاع العديد من محبي المدينة عنها، وبين هذه الرواية وتلك تبقى مدينة فوكة تزخر بزخم كبير من الروايات والقصاصات التي ترفع من شأن تاريخها الذي صنعته الطبيعة وأتى عليه بطش الإنسان.
الميّاه تحول فوكة إلى نجمة الصباح
من أهم الروايات التي لا تزال تتداولها ألسنة المهتمين بتاريخ فوكة كونها كانت تدعى «نجمة الصباح»، خلال فترة ما قبل الانتداب العثماني على الجزائر وهي التسمية التي أطلقها عليها سكان مدينة بواسماعيل المجاورة، بحيث تتحول أشعة الشمس الموجهة لمياه منطقة فوكة الفوقية إلى نجمة حقيقية خلال الفترة الصباحية لاسيما وأنّ منطقة فوكة تقع في اتجاه القبلة بالنسبة لمدينة بواسماعيل، وهي التسمية التي تلاشت واختفت عن الأذهان مع مرّ السنين خاصة وأنّ مدينة منطقة فوكة لم تكن حينها مأهولة وكانت عبارة عن جملة من الأراضي الفلاحية الخصبة، غير أنّ ذلك يؤكّد للمؤرخين بأنّ المياه كانت تعتبر الميزة الأكثر اتساعا وانتشارا بفوكة، خلال فترات زمنية خلت.
هؤلاء أدرجوا مقتطفات من تاريخ فوكة بمؤلفاتهم
كثيرون أولئك الذين أدرجوا مقتطفات من تاريخ فوكة في مؤلفاتهم غير أنهم لم يكونوا جميعهم منصفين، كما أنّ الموضوعية والاحترافية غابت عن كتاباتهم نسبيا بشهادة غيرهم، وفي ذات السياق فقد أشار «جيل كاميل» في كتابه «أين إختفت ورود فوكة؟» إلى أنّه عاد لزيارة المدينة في نهاية الستينيات لتفقد واستذكار المنطقة فاجتمع الناس من حوله بالقرب من مكتب البريد قبل أن يتحول إلى المقبرة المسيحية، أين أشير له بأنّ الورود التي أقتنيت خصيصا له جيء بها من مدينة بواسماعيل باعتبار فوكة لا تحوز على ذلك حينذاك ليخلص أهالي مدينة فوكة إلى كون كلّ ما كتبه هذا المعمّر يعتبر في الحقيقة إهانة لهم ولمدينتهم أكثر، مما سجّل اسمها على سجلات التاريخ، غير أنّ الأستاذ حكيم صالحي من مدينة القليعة المجاورة أدرج في كتابه المنشور، خلال العام المنصرم عدّة قضايا هامة تؤرّخ لمدينة فوكة، منذ إنشائها في 1842 واستقدام 80 امرأة من مدينة تولون سنة 1846 لغرض تزويجها بمعمّرين كانوا قد التحقوا بالمنطقة، منذ فترة بحيث حصل زواج جماعي حينها وتشكلت المدينة في أصلها من 60 عائلة كانت قد أقامت هناك بعد أن فرّت 20 امرأة عائدة إلى تولون لأسباب غير معروفة واستفادت العائلات المقيمة بفوكة من أحواش عديدة قدّمت لها هدية من السلطات الفرنسية، كما أشار الأستاذ صالحي في كتابه إلى العثور على عدّة قلل يعود تاريخها إلى فترات زمنية قديمة بمركز مدينة فوكة تمّ نقلها إلى متحف تيبازة لاحقا.
أشار الكاتب أيضا إلى استراحة الوافدين من منطقة متيجة والقليعة لفوكة البحرية لغرض اقتناء مادة الملح بموقع عين السبع وحدث ذات يوم أن أقدم السبع على افتراس أحد المقبلين على اقتناء الماء من العين ومن حينها سميت بهذه التسمية وفقا لبعض الأقاويل التي تمّ تداولها بكثرة بالمنطقة واستنادا إلى شهادات العديد من المهتمين بتاريخ المنطقة كالمرحوم سليمان عناني من القليعة.
نقرأ تفاصيل أكثر عن نشأة مدينة فوكة بكتاب: «تاريخ فوكة» الذي ألّفه مجموعة من محبي هذه المدينة الساحلية وتمّ نشره سنة 2005 تجسيدا لفكرة المرحوم محمد فرساوي وهو كتاب يحوي العديد من الأحداث التاريخية والقضايا المختلف بشأنها بحيث إجتهد المؤلفون في البحث عن الوثائق الرسمية الشاهدة على كتاباتهم، بدءا بمرسوم إنشاء بلدية فوكة وانتهاء بعدّة أحداث هامة حصلت بعد الاستقلال بحيث أكّد أحد مؤلفي ذات الكتاب أحمد ماجن على أنّ تسمية فوكة كبلدية مستقلة حصل سنة 1846 بعدما كانت ملحقة ببلدية القليعة من ذي قبل، كما تتضمن صفحات الكتاب فكرة هامة مفادها كون مزرعة الشيخ براهيم بفوكة والتي يقع بها السوق البلدي حاليا كانت ملحقة بحديقة التجارب بالحامة طيلة العهد الاستعماري وهي المزرعة التي كانت تحوي على مختلف أنواع الأشجار ناهيك عن الحيوانات البرية المتنوعة.