زحف الاسمنت وانتشار القمامة يشوّه جمال الحظيرة
شهادات عن غياب الثقافة السياحية تنقلها «الشعب»
وصفها سياح أجانب زاروها منذ سنوات، بأنها جوهرة طبيعية تسحر العيون، وترجف لها القلوب، وتبعث المسرة والطمأنينة في النفوس، ويهدأ فيها المضطرب، وينعم بهوائها وموسيقاها، التي لحنتها طيور وحيواناتها وحشراتها الهادئة، وخشخشة أوراق أشجارها، ولوحات طبيعية رسمها الخالق منذ الأزل، صارت قلعة من الجنان المعلقة على مرتفع الأطلس البليدي، يطل أحيانا من بين الغيوم والسحاب، على سهل المتيجة الخصب، والمصنف ضمن أخصب ثلاثة سهول في العالم، وهي لا تختلف عن المناطق السياحية التي تتمتع بها دول أخرى، يشهد لها بالنشاط الترفيهي، ومن زارها يتعلق قلبه بها، ويقسم بالعودة إليها، للتمتع بسحرها الذي لا يقاوم.
إنها حظيرة الشريعة بمرتفات عاصمة المتيجيين ومدينة الورود البليدة، والتي زارتها “الشعب” في هذه الأيام المضطربة في جوها، وعادت بشهادة سياح وعشاق الطبيعة، يحلفون على أنهم كانوا وسط جنة غناء في سماء كوكب الأرض. التفاصيل في هذا الاستطلاع.
تاريخ زاخر بالجماليات والحنين
يجمع المهتمون بالتاريخ، على أن حظيرة الشريعة في البليدة والمصنفة حسب منظمة اليونسكو العالمية “محمية طبيعية “، أن اسمها مشتق من الشريعة الإسلامية، كان سكان “الدواوير” المنتشرة في رحابها – كان بها 14 دوارا - يلتقون في مواسم محددة، ويعرضون مسائلهم ومشاكلهم في البيوع والمواريث والحدود والخصومات، ويفصلون فيها حسب ما تقضيه شريعتنا السمحاء، بل أن من السكان من يتقرب من جاره أو قريب له، ويطلب في حشمة واحترام يد ابنته لابنه.
يشهد شيخ فقيه الخطبة ويعلنها بين الجميع، ويفرح الناس ثم يعودون إلى “دواويرهم” وهم ينتشون، وكان الجميع يرضى بأحكام تلك الجماعة ولا يشذ، ومنذ ذلك التاريخ تعارف الجميع على حمل تلك التلال والمرتفعات الطبيعية العذراء تسمية”. يؤكد الكلام المتواتر المهتم بشؤون التاريخ وهاوي الصور التاريخية يوسف أوراغي في دردشة مع “الشعب”. مضيفا أن الشريعة على مدار التاريخ، كانت وستظل قبلة وبوابة لعشاق الجمال الساحر، وفرجة للتمتع بالطبيعة العذراء والهواء الصافي النقي، وأن عشق الناس لها ليس فقط يخص من زارها ووطأت قدماه أرضها وعشبها وتنفس هواءها، بل هي لوحة مرسومة بدقة متناهية، تتراءى للقاصي والداني، وتدخل الفرحة في القلب بمجرد النظر في أفقها.
التصدي لزحف الاسمنت وبداية الاستثمار الحقيقي
باتت الشريعة في سنوات مضت، بيئة لزحف الاسمنت ومشهدا لانتشار الأوساخ، من يزور الحظيرة السياحية والطبيعية هذه الأيام يقف على مشاهد انتشار ملفت للانتباه لورشات ومواد البناء في كل ركن وزاوية، حتى يخيل للزائر أنه بمنطقة عمرانية وليست محمية طبيعية، والغريب أن عددا من تلك الورشات تجاوزت الحدود وتوسعت فوق مساحات غابية، بإنجاز أرضيات اسمنتية قضت عليها تماما وحولتها إلى ما يشبه المنحوتات، في حين التزم القليل بإنجاز “شاليهات” من الحطب تناسبت وطبيعة المنطقة وزادت في جماليتها دون تعد على المساحات المغروسة.
ووسط الاشجار العالية وقفنا على صورة مشمئزة مشوهة للمقدصد السياحي الترفيهي: أكوام من الأوساخ والقمامة وبقايا مواد البناء في كل مكان دون اعتبار أو حسبان لطبيعة العنوان أو ثقافة السياحة.
لكن وسط هذه الهالة المتناقضة وغير الحسنة، أطلقت السلطات الوصية، جملة من المشاريع الاستثمارية، وفتحت الأبواب أمام المستثمرين، ودعت إلى تحفيزهم، حتى يتغير وجه المنطقة، وتزيد في درجة النشاط السياحي، ولا تبقى الحظيرة عنوانا يرتبط في زيارة الناس إليها مع موسم تساقط الثلوج فقط، بل على العكس، يحرص المسؤولون، على أن الحظيرة العذراء، ستتحول على مدار الـعام بأيامه ولياليه قبلة تقصدها العائلات، وعنوانا مهما للسياح الأجانب، وبهذه المشاريع التنموية، يمكن التصدي لكل من تسول له نفسه العبث بالطبيعة والإضرار بها.
وفي هذا السياق، باشرت السلطات المسؤولة إنجاز مشاريع، تتعهد بأنها ستدفع بعجلة الاستثمار السياحي، وتزيد من المداخيل ضمن قوانين وشروط، تضبط وتردع المساس بحقيقة المحمية الطبيعية، متى تحقق تحديد الأوعية العقارية لأجل ذلك.
مخططات هندسية من أجل قطب سياحي واعد
أعدت مديرية السياحة مخططا توجيهيا سيتحقق مع آفاق عام 2030، بإنجاز قطب سياحي، يدرج ضمن واحد من الأقطاب السبعة، التي يركز عليها للنهوض والدفع بالفعل السياحي بربوع الولاية، وهو ما أكده مدير السياحة منصور عبد السلام لـ«الشعب” قائلا: “أن المشروع يتضمن إنجاز منطقة للتوسع السياحي، تتربع على مساحة إجمالية تساوي 14 هكتارا، تنجز فيه شاليهات ومساحات موجهة للعب الأطفال، ومرافق حيوية في الإطعام والمشروبات وأخرى، ويضاف المشروع إلى مشاريع مجسدة فندقية وفي الإطعام، حيث تفتقد الشريعة إلى فنادق، ماعدا تلك التي تتواجد على أرضها وتعود في تاريخها إلى عقود وتركة خلفها الاستعمار، ولا تكفي للسياح وزوار الحظيرة، حيث لا تتسع لنحو 100 سرير فقط في الوقت الراهن، وهو ما يجعل حتمية إنجاز مثل هذه المشاريع أكثر من ضرورة، لتلبية حاجيات السياح بشكل مرضي”.
الثقافة السياحية مغيّبة لدى الزوار والعائلات
كشف مسير فندق “الأرز” طارق واعلي، في حديث لـ«الشعب” حقيقة مرة واقعية، لخصها في قوله، بأن مسؤولية الإهمال التي مست بعض الجوانب من الحظيرة، تعود في مسؤوليتها إلى العائلات وبعض الأشخاص، الذين يزورون الحظيرة ولكنهم يفتقدون إلى ثقافة سياحية، بدليل أن غالبيتهم يحضرون محملين بمتاع وكأنهم يقصدون مناطق التخييم لأيام.
وأضاف واعلي أن بعض العائلات تجلب معها الطعام محضرا في قدور، ولم يخف جانب نقص المرافق الضرورية مثل دورات المياه وحنفيات شرب الماء وفضاءات لعب الأطفال، رغم النوايا التي بدأت تظهر في تدارك تلك النقائص، وغلق مراكز التخييم، وتحولها إلى أطلال كعوامل أخرى، ساعدت في غياب الثقافة السياحية والوعي السياحي، وأقر أن أيام الاستجمام والتنزه تقتصر على نهاية الأسبوع أو مناسبة تساقط الثلج.
وبالرغم من ذلك، فالناس لا يقصدون الفنادق وإن كانت قليلة، موضحا أن الكثير يخشى أسعار تلك العناوين، في حين أسعارها لا تكاد تختلف عن أسعار محلات الإطعام في أي مكان آخر، بل بالعكس أحيانا أسعارهم تقل بكثير عن بعض المطاعم وسط البليدة مثلا، ونبه بالمناسبة إلى ملاحظة أن الكثير من الناس أصبح يقصد منبع القردة بالشفة والحمدانية في المدية ويتزاحمون على محلات الأكل بها، بالرغم من أسعارها الباهظة، ويضيف أن مشكل غياب ونقص النقل وتعطل التيليفيريك زاد في عزوف الناس، وتغيير وجهاتهم نحو أماكن أخرى للترفيه والبحث عن الراحة.
عودة تشغيل “التليفيريك” تزيل الأتعاب
عاد الأمل مع إعادة إصلاح التليفيريك وتحديثه بالكامل، ورفع المسؤولون عنوانا أن الوصول للشريعة لن يزيد عن 20 دقيقة، وهي الحقيقة التي ظهرت مع عودة أشغال الصيانة في شهر جانفي الماضي، على أمل أن تنتهي ويعود نشاط المصعد الهوائي، الذي تعطل منذ سبتمبر 2013، بعد عودته للحياة في 2010 مطلع شهر أكتوبر القادم.
إنه تحدي رفعته الشركة الجزائرية الفرنسية المختلطة، لأجل بعث الحياة من جديد بهذه الوسيلة المتنقلة في الهواء، مع التعهد بإعادة بعض التصاميم في العربات وتحديثها أكثر، لضمان راحة المسافرين عبره، وسيمكن عودة نشاط “التليفيريك” أن يجنب السير والوصول إلى قلب الحظيرة عبر طريق ملتوي ومنعرج، شكل في العديد من المناسبات خطرا على أصحاب المركبات، خاصة المتهورين، لوقوع حوادث قاتلة ومأساوية، على أمل أن يستعيد بدوره خط الكراسي المتحركة في الهواء “التيليسياج” المتوقف، أيام مجده ويزيد من النشاط السياحي ويوقيه.
الأمل والحلم المنشود
الجهد المبذول والذي بدأت تظهر ملامحه مؤخرا، أعاد الأمل والحلم للناس، وجعل آفاق المنطقة في كسب رهان جديد لتفعيل السياحة، بإحدى المحميات الطبيعية في العالم، واقعا لا بد أن يتحقق، خاصة أن الجاهل بأسرار المنطقة، لا بد عليه من أن يشهد على أن تاريخ الحظيرة، كان دائما مهما، وأنه منذ الظهور الأول للسكان بتلال الحظيرة، والمنحدرين من أصول أمازيغية، ما تزال عائلات كثيرة تتكلم لغة الأجداد، وتتغنى بتقاليد موروثهم، مرورا بعهد العثمانيين والمستعمرين الفرنسيين، إلى ما بعد استقلال الجزائر واسترجاع السيادة الوطنية، ستظل الشريعة مصدر إلهام للشعراء والرومانسيين من الكتاب المخضرمين، ومنتجعا يقصده المسؤولون والوفود الرسمية ورؤساء الدول، ومهبطا للمتعة والفرجة، لطبيعة اختارها المولى أن تكون نسخة متقاربة من جنانه الخالدة، فوق مرتفع سقاها الشهداء بدمائهم، حتى يهبها لأبناء وطنه فردوسا أرضيا خالدا خلود خالقه.