أعادت مخلّفات زلزال واحد أوت الماضي فتح ملف “القصبة” من جديد من طرف جمعيات ذات الصلة الوثيقة بكل حيثيات الموضوع، خاصة في جوانبه التّنظيمية المتعلّقة بالمحافظة على هذا المعلم من خلال ترميمات جادّة بعيدة كل البعد عمّا يعرف بالتّرقيعات.هذه الحادثة الطبيعية أيقظت ضمائر الكثير ممّن يتواصلون يوميا مع واقع وآفاق القصبة، بدقّ ناقوس الخطر نظرا لما بلغه هذا الموقع من تدهور،إلى حدّ لا يطاق يتطلّب تدخّلا سريعا من قبل السّلطات العمومية وفق نظرة جديدة تختلف عن سابقتها في تسيير هذا التّراث العريق.
فلا يعقل في كل مرّة نقف على نفس المشاكل التي تستنسخ وكأنّه لم ينجز أي شيء في جانب التّرميم.
نحن اليوم أمام هذه الحالة أي أن العداد يشغل من جديد، وهذا بإعادة فتح نقاش آخر حول القصبة باجترار نفس المسائل، وتكرار قضايا اعتدنا على سماعها منذ السبعينات كالترميم الذي لا يخضع للمقاييس المتعارف عليها، وغياب سلطة ضبط لمراقبة حالة البنايات وتهديم الدويرات عمدا للحصول على سكن والمتاجرة بالغرف.
هذه المعاينة لم تنته منذ سنوات طويلة تعود إلى ما يعرف بمخطط «كوميدور”، وهي اللجنة الدائمة للدراسات وتطوير التنظيم والتهيئة في ١٩٦٨، تلاه مخطط التوجيه العام في ١٩٧٥ إلى غاية ميلاد في ٢٠١٢ ما يعرف بالديوان الوطني لتسيير واستغلال الأملاك الثقافية المحمية، وكذلك الوكالة الوطنية للقطاعات المحمية التي لم تفعّل حتى الآن، وتنتظر أن تدخل هذا المجال.
العقلاء في منعطف حاسم
وفي هذا السياق، يرى السيد محمد بن مدور، رئيس جمعية عقلاء قصبة الجزائر وباحث في التراث والتاريخ، أنّ “النّداءات التي ما فتئنا نوجّهها إلى السّلطات العمومية هي من أجل تحسيس الجميع بأهمية هذا المعلم، وتوفير الآليات التي يتطلب الأمر إن تكون حاضرة لإعادة التكفل الجدي بالقصبة، والخروج من الدائرة المفرغة التي للأسف وقعنا فيها نتيجة كل هذا التداخل في المهام، وانعدام الرؤية الواضحة والشفّافة وكثرة المتدخّلين. هذا كله غيّب ذلك التّصور لمشروع قائم بذاته هيمنت عليه التوجهات الادارية ممّا عقّد كثيرا أي مسعى يقوم على إشراك الفعاليات الأخرى في أي عمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”.
وسجّل السيد بن مدور أنّ هناك تشخيصا دقيقا لحالة القصبة نجدّده في كل مرة عبر مطالب ذات المنفعة العامة بواسطة رسائل مفتوحة للجهات المعنية أو عن طريق تقارير مفصّلة حول الوضعية الاجتماعو ـ العمرانية، تسرد فيها دقائق الأمور بشكل واضح جدا في كل الأبعاد الواقعية والاطار القانوني وغيرها.
وفي هذا السياق، أكّد السيد بن مدور بأنّ هناك إرادة قوية من أجل التّشديد على أنّ للجزائريين كفاءات قادرة على التكفل بكل المواقع المصنّفة عالميا من طرف اليونيسكو وعددها ٧ على المستوى الوطني،وقصبة الجزائر واحدة من هذه المعالم بالامكان إعادة الاعتبار لها، وهذا بإضفاء عليها طابعها العمراني الأصلي، وإبراز أسوارها الأولى الممتدة على المحيط المقدر بـ ٥٢ هكتار.
ولم يكتف السيد بن مدور بالاشارة إلى هذا الجانب، بل دعا إلى ضرورة مواكبة ومسايرة هذه الحيوية من خلال إنشاء مؤسسة مختصة في فن وتقنيات التّرميم، تدرج ضمن البرامج المقرّرة في المدرسة المتعددة التقنيات. نقول هذا من باب أنّه يلاحظ عدم وجود هذا التكوين على مستوى منظومتنا التعليمية، وهذا شرط أساسي من أجل بلوغ الأهداف المسطّرة في هذا الشّأن.
وفي هذا الاطار، كشف أن زلزال ١ أوت أضرّ كثيرا بالتّرميمات الأخيرة، حيث سقطت أجزاء منها، وهذا بالطّبع يؤدي إلى إعادة النّظر بشكل شامل فيما يخص سياسة الترميم الحالية التي تنجزها البعض من المؤسسات.
وفي هذا الاطار، يرى بن مدور أنّ الصّيغة الأكثر ملاءمة هي التي يسند فيها أي مشروع إلى وزارة اسكن والعمران، التي بدورها تقوم بانتقاء المتناولين ذوي الخبرة الواسعة في مجال الترميم، حتى وإن تطلّب الأمر الاستعانة بالشّراكة الأجنبية، غير أنّ ما يجري حاليا هو التّعامل مباشرة مع أي شركة يختارها مكتب الدراسات، وهو ما يجعل دائما المتابعة لا تخضع لمبدأ تحديد المسؤوليات بدقة تجاه ما ينجز خاصة إذا كان لا يروق ذلك للجهة الوصية المشرفة مباشرة على المشروع، وهو ما وقع مع دار “خداوج العمياء”، مسجد كتشاوة ودار السلطان، وغيرها من البنايات التي استدعت عناية فورية من قبل الدوائر المهتمة بالتراث.
ورشة مفتوحة..إلى متى؟
بالرّغم من كل هذا التّشابك في ملف القصبة، إلاّ أنّ جمعية عقلاء قصبة الجزائر تحاول التّحرك باتجاه تثمين المسعي القائم على المضي قدما قصد إعادة الاعتبار الشّامل لكل هذا التراث التاريخي، باعتماد منهجية مبنية على التكامل بين كل الفعاليات الجمعوية، وإدراجها ضمن رؤية موحّدة حيال كيفية خدمة الهدف المسطّر، وهذا ما سجّل يوم ١١ أوت الماضي عندما التقت ١٦ جمعية بغية تقييم مدى تقدّم الأشغال فيما يتعلق بترقية الورشات المفتوحة في هذا الإطار.
وبعد نقاش ثريّ وبنّاء، قرّر الحاضرون رفع رسالة مطوّلة إلى السيدة وزيرة الثقافة تضمّنت عرض حال تاريخي وتنظيمي حول القصبة، وما تبع ذلك من وضع العديد من الأطر القانونية القادرة على مسايرة هذا المعلم منذ نهاية الستينات إلى غاية ٢٠١٢ بدأت العمليات مع مكتب الدراسات التقنية والهندسية والعمرانية بتوقيع اتّفاق بين الجزائر و«اليونيسكو” أفضى إلى ما يعرف بورشة القصبة، سمح لخبراء الطّرفين بإقامة مخطّط تثمين القصبة.
وتوقّفت الوثيقة عند محطّات بارزة في مسيرة القصبة، وهذا بإنشاء ديوان التدخل وتنظيم عمليات التهيئة للقصبة سنة ١٩٨٥، والوكالة الوطنية للآثار وحماية المواقع والرموز التاريخية سنة ١٩٨٧، وفي سنة ١٩٩٢ صنّفت كمعلم عالمي من طرف اليونيسكو ومع محافظة الجزائر الكبرى سنة ١٩٩٧ كان هناك مندوبية تصوّر ومراجعة القصبة، وهو هيكل منحت له كل الصّلاحيات الواسعة. وفي سنة ٢٠٠١ وضع ما يعرف بالمركز الوطني للدراسات والانجازات العمرانية، وفي سنة ٢٠١٢ عادت المبادرة لمديرية الثقافة لولاية الجزائر والديوان الوطني لتسيير واستغلال الأملاك الثقافية المحمية وتبعتها الوكالة الوطنية للقطاعات المحمية.
أين نحن من كل هذا؟ من خلال قراءة متأنّية يتّضح بأنّ هذه الهياكل ماتزال تسير بأساليب سابقتها، ولم تستطع استحداث تلك الوثبة المرتقبة من لدن الجميع.
لذلك فإنّ نفس المطالب ماتزال تتوارد على مسامع كل متتبّع لهذا الملف الشائك، خلاصتها غياب ذلك الاجماع حول ما ينجز في القصبة والكل يبحث عن تلك “المدينة الفاضلة” التي تشهد كثرة الجمعيات المحيطة بها، وتمسّكها بخطّها المطلبي.
ويعتبر هذا التّحالف للجمعيات أن هناك نقائصا ما تزال لصيقة بأي مشروع للتّرميم، تكون أحيانا تعجيزية نظرا لاستحالة إنجازها كالمطالبة بعودة أسوار القصبة. من يقوم بمثل هذا العمل؟ وهذا في الوقت الذي يشتكي الجميع من رداءة عملية الترميم، فكيف بأشغال بمثل هذا الحجم؟
وفي نفس السياق، فإنّ الجمعيات تدعو إلى إخلاء هذا المكان، وإعادة الطّابع الأصلي للمنازل.
ماذا بقي من دويرات؟
حركية الدخول والخروج في القصبة لا يمكن التحكم فيها نظرا لحساسية المكان، وجل الذين يقصدون العاصمة لأول مرة يبحثون عن موقع يأويهم سواء بالنسبة للكراء للأشخاص الذين يعملون أو الطلبة وعينات أخرى لا يجدون إلا القصبة نظرا للأسعار المنخفضة. هناك من يكمل إقامته الى غاية حصوله على سكن،وهناك من يغادر بمجرد أن يعثر على الأحسن أو يسوّي أعماله.
هذه الحالة لا يمكن أن يتحكّم فيها أي شخص لأنّ الملكية خاصة تابعة لأفراد هم الذين يقومون بالكراء للآخرين، وما يحدث في هذا الجانب يثير الدهشة والاستغراب، وهؤلاء لا يهمّهم التّرميم أو المحافظة على البنايات بقدر ما يهمّهم ما يدخل جيوبهم، فكيف كانت هذه الدويرات وكيف أصبحت اليوم؟
استنادا إلى مصادر تاريخية، كانت هناك حوالي ٤٠٠٠ دويرة سنة ١٥١٦، ومع التغييرات ارتفع العدد إلى ١٥ ألف منزل ما بين ١٥٩١ إلى ١٦١٠، وعقب انفجار مخزن للأسلحة، تأثّرت ٥٠٠ دويرة بذلك، وفي ١٦ أوت ١٨٣٠ تمّ إحصاء ٨٠٠٠ منزل بطابعه الجزائري الخاص.
وعقب الاعتداءات الخارجية على الجزائر وخاصة الفرنسية منها وبسبب عوامل طبيعية أخرى، سجّل ضياع ٦٤٧٧ دويرة، والعدد النهائي لـ “الدويرات” في سنة ١٩٦٢ كان هنالك ١٥٢٣ دويرة، منها ٩٨٢ ذات الطابع المحلي و٥١٤ بناية. ومن ١٩٦٢ إلى غاية ١٩٨٠، كشفت التقارير التقنية عن انهيار ١٦٣ منزل، ومن ١٩٧٠ إلى ١٩٨٠ أي في فترة لا تتعدى الـ١٠ سنوات سجل ضياع ٣٠٠ منزل في القصبة العليا والسفلى، ومن ١٩٧٠ إلى ٢٠٠٤، في مدة ٢٤ سنة سقطت ١٠٦٠ دويرة، ومن ٣١ ديسمبر ٢٠٠٤ إلى ٤ أكتوبر ٢٠١٠ لوحظ وجود ٦٣٠ مبنى، ١٨٧ منها شاغرة.
وحسب الدراسة التقنية في جوان ٢٠١٢، كانت هناك ٣٢٧ دويرة متدهورة كليا، و٢٧٧ أقل تدهورا، و٢٦ في حالة جيدة. وفي إحصاء آخر اتضح وجود ٢٩٢ دويرة تابعة للخواص، و١٥١ وقف و١٨٧ شاغرة بمجموع ٦٣٠ دويرة مع فارق ١٩٦ ملف لم يودع من طرف أصحابه لدى لجنة الاصغاء.
وتلخيصا لكل ما قيل سلفا، فإنّ ٦٣٠ بناية ما تزال حاليا في القصبة و٨٩٣ أخرى شاغرة، وما يسترعي الانتباه في عملية الاحصاء هذه هو العثور على أكثر من عقد بخصوص المالكين، بالاضافة إلى ذلك وجود مالكين لطوابق بداخل الدويرة، وكذلك مالكين للغرف أو ما يعرف بالمنزه.
هذه الأرقام تبين مدى الاهتمام الجزائري بكل ما هو تراث، يلاحظ في إصدار المنشور رقم ٢٨١ - ٦٧ المؤرخ في ٢٠ ديسمبر ١٩٦٧ والمتعلق بحماية التراث التاريخي والطبيعي إلى غاية يومنا هذا باستصدار المرسوم رقم ٤٨٨ - ٠٥ المؤرخ في ٢٢ ديسمبر ٢٠٠٥ المتعلق بالديوان الوطني لتسيير واستغلال الأملاك الثقافية المحمية، زيادة على ذلك فإنّ الترميمات التي تثار عليها ضجّة اليوم بسبب عدم مطابقتها للمواصفات المعمول بها عالميا، وإسنادها لغير أهل الاختصاص ليست وليدة اليوم بل يعود الاهتمام بها إلى سنوات طويلة جدا، ففي سنة ١٩٧٠ انطلقت الأشغال إلا أنّها تأجّلت إلى غاية ١٩٨١ لتتوقّف وتعدو مرة أخرى في ١٩٨٥، وكذلك في ٢٠٠١ و٢٠١٠.
وبالرغم من التباعد الكبير بين محطة وأخرى تتراوح ما بين ١٠ و٥ سنوات من التوقف، إلا أن ارادة التكفل بهذا الموقع تصنّف في خانة أولويات السلطات العمومية عندما لاحظت بأن هناك تلاعبا كبيرا من قبل ساكني القصبة بعد استفادتهم من ١١ ألف سكن بكل الصيغ. والمشكّل للأسف مازال قائما إلى يومنا هذا، لذلك لابد من نظرة أخرى تجاه ملف القصبة تعتمد على آليات عمل حديثة تختلف اختلافا جذريا عن سابقتها، فلا يعقل وجود حوالي ١٠ هياكل أسندت لها مهمة متابعة القصبة ولم يبق منها إلى يومنا هذا سوى ثلاثة أنشئت مؤخرا أي منذ حوالي سنتين فقط،لتستكمل هذا المسيرة الطويلة.كما على مسؤولي الجمعيات تجاوز حالة البكاء على الأطلال بطرح الموضوع من زاويته الواقعية، وليس من توجّهات الانتماء الضيّق لحيّز معيّـن. هذه النّظرة قد تؤثّر على أيّ عمل مستقبلي مع التّحلي بنوع من واجب التحفظ، لأنّ كثرة الانتقادات لم تبن أيّ مشروع بأبعاده الحضارية.