استقينا من فلاحي ولاية تيارت، أن أصعب المهن في فصل الصيف هو الحصاد، أي جني محاصيله داخل التعاونيات الفلاحية التي تستقبل هذه المادة الغذائية الاستراتيجية، فما بالك في شهر رمضان المعظم؟
من هذه الفكرة خرجت «الشعب» إلى الميدان لرصد هذا النشاط الكثيف بالمنطقة المعروفة بفلاحتها منذ العصور. كل التفاصيل في هذا الاستطلاع...
قصدنا هذه المرة مخازن تعاونية الحبوب الجافة ببلدية عين الحديد، على الطريق الوطني رقم 14 بولاية تيارت، وجدنا في انتظارنا السيد الحاج دوبة، رئيس مخازن عين الحديد، والذي يشغل هذا المنصب منذد 42 سنة بنفس المكتبونفس المخازن والذي لايزال يمارس الرياضة، لكونه رئيس جمعية اكرم «لا للعنف داخل الملاعب».
السيد دوبة يباشر عمله قبل الساعة الثامنة صباحا، لتحضير الوثائق الخاصة بكل ما يدخل المخازن، وكذلك تفقد الآلات وماكينات صعود الحبوب إلى المخازن.
تستقبل مخازن عين الحديد الحبوب، كالقمح الصلب واللين والشعير من مختلف البلديات المجاورة كفرندة وتاخمارت وبعض بلديات دائرة عين كرمس.
والغريب، أن السيد دوبة يعرف جميع الفلاحين الذين يتجاوز عددهم 3000 فلاح بالمنطقة، بسبب تجربته وأقدميته في هذا العمل. قال لنا في رد على استفسارنا عن هذا الموضوع: «ويعرف حتى النوعية التي تنتجها المنطقة، فبمجرد دخول شاحنة أو جرار إلى ميزان المخازن يعرف حبوب المنطقة من خلال عينة الحبوب التي يشترط رؤيتها من طرف العاملين قبل التخزين».
عين الحديد منتوج معتبر رغم شح السماء
تتوافر بلدية عين الحديد، التابعة لدائرة فرندة، على أخصب الأراضي الفلاحية في المنطقة، حيث يتراوح معدل الإنتاج ما بين 30 إلى 45 قنطارا في الهكتار، لكون أراضيها سهبية ومرتفعة، مما يسهل نزول الأمطار زيادة على تجربة فلاحيها ومعرفتهم بخبايا الأراضي الفلاحية، حيث لم تبخل عليهم وقت الشدة مثل هذا الموسم الذي تراجعت فيه نسبة التساقط.
وإذا كانت مخازن بقية البلديات لا تشهد طوابير كثيرة على غير العادة، مثل المواسم الماضية، فإن مخازن بلدية عين الحديد، بحسب رئيس المخازن لـ»الشعب»، لاتزال تستقبل منتوجات الفلاحين، ليل نهار، إلى غاية هذا اليوم وإلى غاية نهاية شهر جويلية، مما أدى بالسيد دوبة إلى زيادة عدد العمال الموسميين للتغلب على ظاهرة الطوابير.
متعة النشاط في شهر رمضان
بعد أخذ نبذة وجيزة عن المخازن التي لاتزال شاهدة وصامدة عبر العصور، دخلنا المخازن، حيث ضجيج آلات التفريغ وغبار الحبوب، صراحة يصعب البقاء داخل هذا الفضاء، ولا سيما لأصحاب ضيق التنفس.
وكان أول سؤال وجهناه للسيد محمد حول طبيعة العمل، حيث كانت الإجابة متقطعة قائلا: «أنا أعمل بإتقان لكسب قوتي... يجب أن يكون أحد هنا وإلا من يوفر لنا القوت».. وأضاف محدثنا، أنه يكره البقاء في البيت أو النوم لأنّ العمل عبادة.
وقال سي محمد، إن العمل في رمضان أحسن من سواه، لأن الحجم الساعي أقل، وأضاف مازحا: «لا أستطيع العيش بدون ضجيج، لكونه في العمل موجود عبر الماكنات وفي البيت مع مرح ولعب الأولاد، لكن ضجيج البيت فيه الحنان واللعب... أنا هنا أسير على هذا الدرب منذ ثلاثين سنة».
أما خالد، وهو عامل موسمي أي لا يعمل سوى في وقت تخزين الحبوب، رغم أنه شاب في مقتبل العمر، قال لنا إنه يغار من كبار السن الذين يعملون معه، لكونهم لا يتعبون أو لا يظهرون التعب ويعملون طول النهار بكد ودون تعب، ورغم محاولته منافستهم إلا أنه لم يفلح.
اكتسب خالد تجربة من هؤلاء القدامى، وهو الذي كان مدللا ولا يعمل طول النهار، غير أنه أردف أنه يستمتع بالتعب، ولاسيما عندما يعود مساء من العمل.
من جهته، أدلى عبد القادر بتصريح لنا عن ظروف العمل تحت الحرارة قائلا: إنه عامل في المخازن لمدة فاقت 21 سنة.
تدخل خالد، دون أن نسأله وقال لنا، هل تستطيعون البقاء معنا لمدة ساعتين دون أن تلمسوا شيئا، في تلميحه إلى قوته وصبره على العمل في شهر رمضان، وكانت إجابتنا ـ طبعا ـ لتطييب الخاطر والتشجيع لا نستطيع.
وعدنا للسيد الحاج دوبة، رئيس المخازن، لنسأله عن سير العملية، حيث شرح لنا أن الفلاحين يأتون بالحبوب إلى المخازن وعمالنا يقومون آليا بحمل الأكياس من الشاحنات أو الجرارات وتفريغها ويقوم آخرون بدفع الحبوب عن طريق المساحي ومنها إلى داخل المخازن التي هيئت قبل موسم الحصاد بطليها وتهيئة الأرضية وتفقد الأضواء والأبواب ونوافذ التهوية.
ووفق كمية المنتوج الفلاحي، يتم تسخير عمال موسميين لهم خبرة في هذا العمل، ويتم تنظيم الفلاحين حسب رزنامة يتم التوافق عليها حتى لا تكثر الطوابر، فكل فوج يحدد له يوم كامل يأتي بمنتوجاته الفلاحية ويتم تحضير الأوراق مسبقا.
وفي الأخير وبعد قضاء تقريبا نصف يوم رفقة العمال والمخازن، تعرفنا على طبيعة هذا النشاط وظروفه الوعرة وأدركنا كيف يتحدى هؤلاء ويكسبون رهان الأمن الغذائي.
