تحوّلت الإصابة بفيروس كورونا إلى «وصمة عار» عند البعض، وأصبحت نظرة الناس قاسية ومجحفة في حق المصابين به، رغم أنّ أي واحد منّا معرّض للعدوى كون الفيروس التاجي سريع الانتشار ولا يفرّق بين أحد سواء كان في كوخ أو في بروج مشيّدة، أو كان يملك كل الأسلحة لمحاربته أو بيدين خاويتين.
رغم أنّ وزارة الصحة والمختصّين من أطباء وخبراء وعلماء نفس حرصوا منذ دخول الوباء إلى الجزائر على التعريف به وشرح أعراضه ومصدره وطرق انتشاره وكيفية الوقاية منه، إذ يكفي ارتداء الكمامة وغسل اليدين دوريا بالماء والصابون أو بالهلام الكحولي، واحترام التباعد الاجتماعي، والحجر الصحي لمنع تفشيه، إلا أن ذلك لم يمنع فئة من الناس من الاستهتار به إلى درجة نكران وجوده، والفئة المتبقية باتت مهووسة به وتراه هو الموت بحد ذاته، وتتعامل معه كمرض الإيدز أو أشد، رغم أن له علاج والمصاب به يشفى قبل أن يشعر بجميع أعراضه إذا كانت مناعته قوية.
ذهلت وأنا اسمع أطراف حديث جرى بين فتاتين أكبرهما لم تتجاوز 15 سنة، والأخرى في النصف من عمرها، حوّلتا الحي فجأة إلى ساحة عراك بالكلمات. في البداية اعتقدت أنّ كلامهما بصوت مرتفع يسمعه القاصي والداني أمر عادي لأنّ كل واحدة تقف في شرفة منزلها ومسافة أكثر من 100 متر تفصل بينهما، وظهر لي أن الموضوع يعود إلى خلاف طفولي ليس إلا، فالفتاتان تعوّدتا اللعب معا وتربطهما قبل ذلك صلة قرابة، ولظروف الحجر باتت اللقاءات بينهما قليلة، ولكن حينما أصرّت إحداهما على طلب الصفح من الأخرى عن تهمة لم تقصدها وترد عليها الثانية بالجزم أنّها قصدتها، وهي «إهانة لن تسامحها عنها» توقّفت في مكاني لأنّ الأمر أعمق من جدال بين طفلتين.
فالفتاة الأولى كانت تبرّر للثانية بشدة، وتعيد الكلام أكثر من مرتين «لم أقل أن جدك مريض «بذلك الشيء» - لم تتجرّأ على تسميته - قلت فقط أنّ والدي منعني من القدوم لمنزلكم الى غاية صدور نتائج تحاليل جدك المريض بالأنفلونزا المصحوبة بالحمى، لذلك التزمت منزلنا إلى غاية أن تهدأ الأمور».
الثانية ترد بغضب: «لكنك قصدتِ ذلك وقلت أن جدي مريض بكورونا، هي إهانة لن أسامحك عنها»، والتزمت الصمت وحاولت الهروب منها وكأنها تحمل خطيئة لا تغتفر، ولا يجب الجهر بها.
توقّف صراخ و جدال الطفلتين واستعاد الحي هدوءه، ولكن بعد أقل من أسبوع انتشر عويل وصراخ الفتاة التي رفضت مسامحة صديقتها، وهي تبكي فقدان جدها للأبد، فقد ظهر فعلا أنه كان مريضا بكورونا، وهي اليوم أخذت روحه بعد أن تفاقمت وضعيته الصحية وأصبح لا يقدر على التنفس.
توقّفت مليّا عند جملتي «مريض بذلك الشيء» و«هي أهانة لن أسامحك عنها»، حديث الطفلتين عكس حالة خوف وخجل بالفيروس انتشرت وسط الكثير من أفراد المجتمع وتجذّرت عند الكبار قبل الصغار، لأن الأطفال في نهاية المطاف هم صورة منا، يقلّدون أحاديثنا وسلوكاتنا وينصفون قراراتنا حتى وإن كانت خاطئة.
وأبان حديثهما عن تعامل خاطئ مع الفيروس التاجي ومع المصابين به، فما الذي يدفع إلى إخفاء الإصابة به والخجل من إعلانه، وإن كان إخبار المقرّبين خاصة هو وقاية وحماية لهم، هل بسبب النظرة الدونية للمجتمع؟ لأنّ الكثير من المصابين اصطدموا بـ «نفور» حاد من الأهل والجيران ومن القريب قبل البعيد، وأصبحوا «منبوذين» ويشار إليهم بالأصبع وكأنهم أصحاب أوزار لا تغتفر، وصنّفوا في خانة ناقلي العدوى وممّن ينبغي إقامة عليهم الحجر والعزل إلى أجل غير مسمى رغم تماثلهم للشفاء، وكأنهم صاروا يحملون الفيروس في جيناتهم أو أصبح يجري مجرى الدم في عروقهم.
وما الذي يسبّب كل هذا الهلع والرعب من الفيروس التاجي إلى درجة عدم القدرة على تسميته والنطق باسمه، هل لأنّه اقترن مع الموت وأصبح مرادفا له في لاوعي الضعفاء، رغم أنه مرض له علاج وعدد ضحاياه ليس بذلك الكم الذي يخلفه الجوع، السرطان والأوبئة الأخرى وحتى حوادث المرور.
كتمان الإصابة بالفيروس التّاجي يرفع عدد ضحاياه
أتذكّر كيف هدّد أهل مريض بكورونا أحد الأطبّاء المشرفين على علاجه، في حال أفصح عن مرضه لأي كان، أو ذاع خبر إصابته في قريته الصغيرة، وكيف التزمت الصمت إحداهن وأخفت أمر إصابتها وسط زميلاتها في العمل حتى لا ينفرن منها، وكيف بات الكثيرون يخفون حملهم الفيروس وتبرير حالتهم المستعصية بحساسية مزمنة، أو نزلة برد حادة، أو بصعوبة لا تنتهي في التنفس، هذه المواقف كثيرة وتتكرر يوميا في كل مدينة وفي كل مستشفى أو مصلحة علاج يرقد فيها المصابون بالفيروس أو ببيت به حالات مشتبه بإصابتها.
تقول السيدة «ح ــ م» في العقد الثالث من العمر مستغربة لـ «الشعب»: «أتفهّم خوف ورعب أي شخص من المرض، ورفض الإفصاح عن الإصابة به من طرف عموم الناس، لكن أن تقوم ممرضة عاملة بأكبر مستشفى بالعاصمة (هي فرد من عائلتها) بالتستر على إصابة أفراد عائلتها بالوباء والادعاء أنّه إنفلونزا قوية، رغم أن نتائج التحاليل ظهرت ايجابية، فهذا ما يحيّرني، فهي تدرك جيدا خطورة التستر على مثل هذا الأمر، ويوميا تشهد وقوع ضحايا جدد بسبب الفيروس القاتل، من بينهم زملاء لها، فكيف تتصرّف هكذا وتتلاعب بصحة الآخرين، في وقت كان يفترض بها أن تقوم بتوعية أفراد عائلتها وجيرانها، وحتى المترددين على المصلحة العاملة بها؟!».
أما «س ــ ب» فاندهشت من التنمر الذي بات يتعرض له المصابون بالفيروس، وصل إلى درجة التشفي في بعض الحالات، ونعت إصابتها بأنه قصاص من الله وعقاب لها، فهل يعقل أن يصل الأمر إلى هذا الحد والعالم كله اكتوى بناره، ويحارب على جميع الأصعدة لحماية أكبر قدر من الأرواح والخروج منه بأقل الأضرار؟
الأخصّائية النّفسانية عبد الرحماني: أسباب متعدّدة والنّتيجة واحدة
ربطت الأخصائية النفسانية إكرام عبد الرحماني في حديثها لـ «الشعب»، كتمان الإصابة بوباء كورونا وسط الجزائريين بعدة أسباب، منها ما لها علاقة بالمعتقدات والمسلمات المترسخة في أذهان الأفراد، كما حدث في منطقة سيدي عقبة بولاية بسكرة، التي عرفت أولى حالات الإصابة بالفيروس، ورغم ذلك رفض سكانها التصديق بتحولها إلى بؤرة وباء، واعتبروا ذلك «وصمة عار» لأن حسب اعتقادهم سيدي عقبة بلدة الفاتحين والعلم والعلماء، وليست منطقة لانتشار الفيروس التاجي.
كما أن الخوف من اتهام المصاب بنشر الوباء في حال تم تسجيل حالات إصابة أخرى في محيطه، جعل الكثير من حاملي الفيروس سيما الذين لم تظهر عليهم الأعراض يخفون إصابتهم، فضلا عن أنّ الكثيرين لم يتقبلوا هذا المرض لأن الإصابة به تعني الموت بالنسبة لهم، وتحول إلى داء الايدز بسبب التركيز على أخبار عدد ضحاياها، بدل التوعية بأهمية الإجراءات الوقائية الموصى بها، سيما الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وارتداء الكمامة، أو القيام بنشاطات مفيدة أخرى تنسي الضغوط المترتبة عن الوضعية الوبائية.
وتضيف الأخصائية النفسانية أنّ من بين الأسباب التي تقف وراء كتمان الإصابة بالفيروس التاجي، ترسّخ فكرة الخوف من المستشفى لدى المواطنين من كلا الجنسين، بسبب الأخبار المتداولة والشائعات المروجة خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن وضعية المريض بالمستشفيات، وعدم تلقيه الرعاية الطبية والاهتمام اللازمين، مما جعل الاعتقاد يسود لدى عامة الناس بأن من يدخل المستشفى لن يخرج منه حيا، بسبب هذه اللامبالاة، و هي أخبار لا أساس لها من الصحة.
وتصوير دواء كلوروكين على أنّه خطر على أصحاب الأمراض المزمنة وتناوله يؤدي للوفاة، نشر الهلع والخوف لدى البعض وجعلهم يرفضون أخذ العلاج بالمستشفيات، رغم أن هذا الدواء له آثار جانبية مثل الأدوية الأخرى، ويكفي اتباع نصائح وتعليمات الفريق الطبي المشرف على العلاج لتفادي الآثار غير المرغوب فيها، مشيرة إلى وجود مرضى من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة كالسكري تعافوا من الوباء بفضل اتباعهم إرشادات المختصين، وتقيدهم بجرعات العلاج، بالإضافة إلى اتباع نظام غذائي صحي يعتمد على الخضر والفواكه والفيتامينات لتقوية مناعتهم وهزم الوباء.
وأكّدت عبد الرحماني أنّ التكامل بين العلاجين الطبي والنفسي والنظام الغذائي الصحي ضروري حتى يكون العلاج المقدم لمرضى كورونا فعالا، ويحقق النتائج المتوخاة منه، داعية حاملي الفيروس الذين يرفضون التصريح بمرضهم التوجه إلى المستشفيات قبل تعقد حالتهم الصحية، حتى لا يحوّلون اضطرارا إلى غرف الإنعاش، فكلما كان العلاج متقدما كلما كانت فرص العلاج البديلة متاحة وكانت نسبة الشفاء كبيرة.
تعامل خاص مع المرضى والأطفال
أوصت الأخصائية النفسانية عبد الرحماني، الأصحاء بعدم التركيز على أرقام تطورات الوضعية الوبائية في الجزائر، أو التوقف عند مؤشرات الموت فقط، لأن تلقي مثل هذه الأخبار يوميا سيؤثر سلبا على مناعة الجسم، وبالتالي توفير المناخ الملائم لانتشار الفيروس، وبدل ذلك يمكن لأي شخص إشغال نفسه بنشاطات في البيت، كالقيام باستكمال ترميمات كانت عالقة، أو حتى صنع أشياء بالنسبة للرجال، وطبخ الحلويات والخياطة والرسم بالنسبة للنساء، وإشراك أطفالهم في الأعمال حتى لا يقعوا فريسة سهلة للملل والضجر في الحجر الصحي.
ولفتت الإنتباه إلى أنّ الطفل يحتاج رعاية خاصة من الأولياء، إذ عليهم انتقاء الكلمات عن الوباء حينما يحدّثونهم عنه، وألا تعطى لهم كل المعلومات حتى لا يحدث الخوف لديهم وخاصة لما يكون الطفل أقل من 5 سنوات، لكن في نفس الوقت يجب توعيتهم بأن هذا المرض كأي مرض معدٍ يكون خطيرا عندما نستهين به، وعلينا ألاّ نختلط مع الآخرين، وأن نلبس الكمامة ونغسل أيدينا بالماء والصابون أو بالهلام المعقم دوريا لنحمي أنفسنا وعائلاتنا منه.
أما عندما نكتشف إصابة مريض في العائلة ـ أضافت تقول ـ فعلينا أولا ألاّ نقطع الاتصال به وندعه يتقبل فكرة المرض، ونبسّط له الوضع، كأن نخبره بأن المرض ليس قاتلا، إلا في حالات نادرة بسبب الخوف الزائد أو القلق أو ما شابه ذلك، ونستعرض أمامه الحالات والنماذج التي شفيت، حتى أنه يوجد أصحاب الأمراض المزمنة وكبار في السن استطاعوا النجاة والتعافي منه لأنّهم تسلّحوا بالإرادة وقوة الإيمان، ونتركه يقارن بين حالات استسلمت ويئست وأخرى ظلت تقاوم، وبهذا نكون قد صحّحنا الفكرة الخاطئة بأنّ الوباء قاتل وأبدلناها بأن الوباء يقتل من يستسلم، والمرض يسيطر على من لا يحترم التباعد الإجتماعي وتدابير الوقاية.