لا وجود لإصابات ولا وفيات وحناجرهم معلقة على وطنين
تتقاسم الجالية الجزائرية المقيمة بإيطاليا نفس الآلام التي تعيشها عائلاتهم في الجزائر، قلوبهم مقسمة بين وجعين كلاهما يؤلم حد القسوة، وفي نفس الوجع يتقاسمون مع الايطاليين أنفسهم تلك المآسي والكوارث التي حصدت الآلاف من الأرواح، محولة أولى قبلة للسياح في العالم الى منارة للأشباح، لا تصحو إلا على جثث الموتى، المكدسة في المراكز الصحية وداخل ثلاجات حفظ الجثث، التي لم تعد تحصي هي الاخرى موتاها، بعد ان حولها وباء كورونا الى مشاهد من افلام الرعب والخيال، واضعا السلطات الايطالية امام خيار الاستسلام وانتظار فرج السماء.
يعيش ما يقارب 26 الف جزائري على الاراضي الايطالية موزعين على عدة مدن، يعملون في المهن الحرة، فيما يشتغل البعض منهم في مؤسسات إنتاجية واقتصادية، وتبقى القلة منهم تمتلك مؤسسات خاصة، تساهم بها في انتعاش الاقتصاد المحلي.
حاولت «الشعب « في هذا الاستطلاع، كسر الحجر الصحي المضروب على ايطاليا، وتنقلت عبر وسائل التواصل، الى حيث تتواجد الجالية الجزائرية هناك وتحدثت اليهم حول يومياتهم خلف جدران البيوت، بعد ان ضرب فيروس كوفيد- 19 على العالم برمته حجرا شاملا، فكانت اجاباتهم واحدة: «ننتظر لحظة الخروج من هذا الكابوس بأقل الاضرار وعودة الحياة الى طبيعتها المعهودة « فيما، أكدت السيدة «صبرينة. ح « المقيمة بمدينة بادوفا بمقاطعة الفينيتو شمال إيطاليا: « بانها كانت تعتقد ان الفيروس هو صناعة الدول الكبرى فيما بينها، وسينتهي بعد زوال المصلحة السياسية ذات الوجه الاقتصادي، خاصة وانه ضرب مدينة ووهان الصينية فقط دون غيرها من المدن او الدول الاخرى.
وتضيف صبرينة التي تنحدر من ولاية باتنة، وهي ربة بيت تعيش رفقة ولديها وزوجها، بأنه في شهر جانفي تم تسجيل اول حالة بمدينة روما لرعية صيني، وبعد الكشف عن حالة الإصابة، وضعته السلطات الايطالية في الحجر الصحي، رفقة كل عمال الفندق الذي كان مقيما به، وبعد التحاليل تبينت انها اعراض الانفلونزا فقط في ايطاليا «.
وفي 18 فيفري ظهرت هناك اعراض على مواطن ايطالي يبلغ من العمر 38 سنة، ويسكن في مقاطعة « لمبارديا « بميلانو، كان يشتغل في شركة ظهرت عليه هو الأخر نفس الأعراض، وبعد الكشف عليه تبين انه حامل لفيروس كوفيد-19 لكنه نقل العدوى الى عائلته، والى كل عمال الشركة التي أغلقت أبوابها نهائيا، لأنهم لم يأخذوا الاحتياطات اللازمة ومن ثمة حولوا الى الحجر الصحي.
وتضيف المتحدثة في نفس السياق انه وفي اليوم ذاته بعد ساعة من الاعلان عن الحالة الاولى تم الاعلان عن اصابة جديدة في البلدة التي تسكنها وهي «بادوفا» التابعة لمقاطعة «أل فينيتو»، ويتعلق الامر بشخص كبير في السن قدرته المناعية ضعيفة ما ادى الى وفاته، وفي ظرف 24 ساعة، انتشر الوباء بشكل سريع ليتم الاعلان عن مائة اصابة موجبة لكوفيد-19.
ارتفاع الوفيات بشكل سريع زرع الرعب
اما عن يومياتها مع الجائحة، تقول السيدة «ح.م» انه في يوم 23 فيفري المنصرم بدأت ملاح الخوف في الحياة الاجتماعية بصفة عامة خاصة في المقاطعتين لامبارديا، و أل فينيتو الواقعتين شمال ايطاليا، حيث تتواجد الجالية الجزائرية بكثرة، ليتم اتخاذ الاجراءات اللازمة بغلق المدارس وإجبار التلاميذ البقاء بالبيوت، رغم انهم غير معرضين للإصابة إلا انهم ينقلونها الى الكبار.
لكن المؤسف في كل هذا - تضيف- ان عدد الاصابات والوفيات ارتفع بشكل جنوني، وعجزت السلطات في مواجهة ذلك أو التحكم فيه، معلنة عن قرار الحجر الصحي في المقاطعتين، باعتبارهما مهد بؤرة فيروس كورونا المستجد العالمي الذي أخلط كل الأوراق.
تعنت السكان غذى تفشي الفيروس
القرار لم يعجب سكان ميلانو، لأنه سيعيق يومياتهم المعتادة في التجول والتسوق وغيرها، فقاموا بحجز تذاكر سفر على الطائرات والقطارات وهناك من ركبوا سياراتهم، وفئة اخرى اختارت الحافلات، لتكون وجهتهم جنوب ايطاليا، وهناك انتشر المرض ايضا بشكل خرافي لم يهضمه سكان الجنوب، دون معرفتهم الأسباب وراء ذلك.
وهنا قام الوزير الاول بالإعلان في مؤتمر صحفي عن الحجر الصحي لكل ايطاليا، حيث اغلقت كل المرافق التربوية والجامعية والتكوينية، توقف الادارة والمصانع غير المنتجة، كما أغلقت المقاهي ابوابها ومتاجر الحلاقة، ولم يسمح الا للمصانع المنتجة والمساحات الكبرى للتسوق «سيبرمركاتو»، الصيدليات والبريد.
تصريح بالخروج لشخص واحد
من جهتها تقول السيدة صفية بان سلطات البلدة منحت لهم استمارة «تصريح بالخروج» في حالة مغادرة البيت، يدونون عليها سبب ذلك في الخانة الموجودة على الورقة، تستظهر عند اول مراقبة للشرطة في الاحياء، لان الخروج من البيت يعد خطأ جسيما، عقوبته غرامة بـ300 يورو، والحبس لمدة ثلاثة اشهر وعند الخروج عليه الالتزام بالتعليمات، من مسافة الامان، وضع الكمامة، ارتداء القفازين ويكون التسوق داخل المساحات الكبرى بالأفواج، مع تجنب الاكتظاظ.
وأوضحت ذات المتحدثة، بأنها منذ انتشار الوباء لم تتصل بهم السفارة، لا في بداية الوباء ولا في عمق الازمة، ماعدا اعلان تم نشره على صفحتها الرسمية بالفايسبوك، حينها بدا الخوف يتسلل اليهم شيئا فشيئا، ولم يعد الامر كما روج له في اولى بداياته، على انه حرب بين قوى الشر، وهنا بدأ الخطر يحوم حولهم.
ومازاد من تعميق المسألة انهم يتلقون حملة توزيع الكمامات والسائل المعقم، كلما زاروا المستشفى او في الطرق، مما اجبرهم على التعايش مع الوباء، وذلك بشراء كل المستلزمات من ادوات التنظيف، الاكل، الالعاب الاضافية للأطفال قصد التغلب على الوقت، فيما استمرت الدراسة عبر الانترنيت مع الطلبة والأسرة التعليمية، رفقة تطمينات الحكومة الايطالية، كما عمق افراد الجالية الجزائرية الاتصال ببعضهم البعض عن طريق الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي، يتبادلون اخبار الجزائر فيما بينهم، حريصين على تقاسم النصائح، ثابتون في الشدائد بأنهم لحمة واحدة.
بلغة حزينة ودموع الغربة، تسبقها تمتمات الحسرة، على ما يلحق الجالية في ايطاليا من كلام لا يليق بأبناء البلد، ذنبهم الوحيد انهم يعيشون في بلد اصابه الوباء، بعدما كان الوجهة المفضلة للحرقة، فتقول: «نحن اخوتكم واخوانكم وأبناء الجزائر التي تسكن قلوبنا كل دقيقة».
أفراد الجالية يؤكدون من أولى بؤر الفيروس وأكبرها بأوروبا، أن الوباء اصاب العالم أجمع وايطاليا بشكل أخص لأنهم لم يلتزموا بطرق الوقاية وتعليمات الحجر المنزلي، لذلك انتشرت العدوى فيما بينهم، ووصل الحد إلى أن في اليوم الواحد اكثر من 600 شخص، لذلك «كونوا لنا سندا، وابقوا في بيوتكم، لان الحجر المنزلي وقاية من الاصابة بالفيروس».
فسيفساء جزائرية بمقاطعة بادوفا
وإذا كانت قلوب الجالية معلقة على الجزائر، فإنها فضلت البقاء في ايطاليا على العودة الى البلد، خوفا من نقل العدوى، بالرغم من انه لم تسجل اية حالة في صفوف الجالية الجزائرية قاطبة، ولكن الخوف على عائلاتهم، هو من جعلهم يختارون البقاء في بلد يواجه الموت وأبوابه مشرعة، مفضلين ذلك بدل ان يشار اليهم بالأصبع، ويعيش في ذات المقاطعة جزائريون من ولايات ومناطق عدة كالبليدة، الحراش، تيبازة، دلس، وهران، تبسة، غيليزان، باتنة، بريكة، نقاوس، بسكرة،... وغيرها ويعمل هؤلاء في شركات خاصة اقتصادية وانتاجية منها، كما يوجد في نفس المقاطعة نساء جزائريات متزوجات بايطاليين.
بعد فرض الحظر الشامل في ايطاليا ومنع الناس من مغادرة بيوتهم، تحولت الشوارع الى ممرّات للأشباح لا تسمع إلا مكبرات الصوت للمصالح الامنية الداعية الى الالتزام بشروط الحجر الصحي، وفي حالة ما اذا وقع اي طارئ فلا يحق لهم الخروج من الحجر، بل عليهم الاتصال بالرقم الاخضر، وسوف يتلقون الاسعافات الاستعجالية في بيوتهم.
ونفس الامر بالنسبة للمشتريات والإغراض الاخرى، فيمكن ارسال الطلبية الى المساحات الكبرى وتقوم هذه الاخيرة بتلبية الطلب وارساله الى غاية البيت، حفاظا على سلامة السكان.
فيما بادر بعض المدونين الى إنشاء صفحة «هاشتاغ» في التواصل الاجتماعي عنوانه «ابق في البيت» «يو استرا اكازا»، وهي مرحلة غير مألوفة بالنسبة اليهم لأنهم يرفضون البقاء في البيت، خاصة وان الفرد الايطالي من الجنسين معروف عنه الحيوية والنشاط الخارق للعادة وليس بالسهولة قبوله فكرة البقاء في البيت.
القنصلية الجزائرية تطلق حملة توعية
قامت القنصلية العامة بميلانو بإطلاق حملة توعية في اوساط الجالية حسب القنصل العام للجزائر علي رجال، من خلال تصريح ادلى به للتلفزيون العمومي، مؤكدا بدوره عن عدم تسجيل أية حالة عدوى بفيروس كورونا بين الجزائريين المقيمين بايطاليا، حيث إنه منذ ظهور فيروس كوفيد-19 في إيطاليا اتخذت السلطات الإيطالية التدابير الوقائية بغرض تفادي تفشي الفيروس، خاصة وهي المنطقة التي انتشر فيها الوباء بشكل مثير.
و أضاف القنصل العام للجزائر بإيطاليا ان الحملة كانت باستخدام قنوات الاتصال المتوفرة، مثل شبكات التواصل الاجتماعي والاتصالات الهاتفية، قائلا «نصحنا مواطنينا بإتباع التعليمات التي قدمتها السلطات الصحية للبلد المضيف، والتحلي باليقظة والحد من التنقلات إلا في حالة ضرورة ملحة».
إيطاليا تسابق الزمن
خصصت الحكومة الايطالية مبلغ 25 مليار يورو، اي ما يعادل 28.3 مليار دولار أمريكى لحماية اقتصاد البلاد من التداعيات الاقتصادية السلبية الناجمة عن تفشى فيروس كورونا المستجد، حسب ما اعلنته وكالة أنباء «آنسا» الايطالية على لسان الوزير الاول كونتي، يمكن استخدام المبلغ لمواجهة كافة الصعوبات المترتبة على حالة الطوارئ هذه، يضاف لمبلغ 7.5 مليار يورو الذي خصص لتلبية الاحتياجات الفورية، وقد سجلت ايطاليا نسبة فضيعة في عدد الوفيات بلغت ذروتها قبل ان يمس الوباء امريكا، لتحتل هذه الاخيرة اعلى نسبة للوفيات في العالم.
من قبلة لـ «الحراقة» الى مقبرة كورونا
عُـرفت ايطاليا بالوجهة الاكثر استقطابا للهجرات السرية من افريقيا نحو اوروبا، ولعلها القبلة الاكثر تفضيلا للجزائريين المغامرين الطامحين للعيش على ضفاف القارة العجوز، فبحكم موقعها في جنوب القارة، على شبه جزيرة، تحيط بها جبال الالب الشهيرة والبحيرات الجليدية، تحتوي ايضا على الحفر النارية والكهوف الفيروزية، ولعل من اهم جزرها سردينيا وصقلية ويكفيها انها كانت المضغة الاولى التي تشكلت منها الامبراطورية الرومانية ومولد عصر النهضة.
لم يذكر التاريخ في صفحاته ان موسم الهجرة من روما الى القارة السمراء، سيكتب من احرف من دم، وان المدن المعلقة على جغرافيتها، سيفر منها المرء ذات يوم، تاركا الارث والحضارة والبحيرات العجيبة الى شبح الوباء.
لن تقرع الكنائس أجراسها بعد اليوم، ولن يقيم سياح العالم صلواتهم في كنيسة القديس أنطونيو وهي اكبر كنيسة في ايطاليا، ولن يحج الاخرون الى كنيسة القديس غوستينا الذي قدم من مدينة طاقاست سوق اهراس الجزائرية حيث ولد على تاريخها، صال وجال على مسارح أمادور «مداوروش»، وجلس على تربتها معلما في قيم التسامح تحت شجرة الزيزفون العتيقة التي لا تزال الى اليوم تتذكر جلسات الذكر، ولن يستمتع الزوار بالرسومات المخلدة لأعظم الفنانين على جدران كنيسة السيدة العذراء، ولن يجلس الاخرون على خشبة شكسبير يستذكرون امجاد العروض.