وجبة غنية يأكل منها القريب والغريب
يمثل عاشوراء اليوم الذي نجى فيه المولى عز وجل نبيه موسى عليه السلام من فرعون وظلمه .وتذكر المراجع الدينية في هذا السياق أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قدم إلى المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من محرم فقال:«أنا أحق بموسى منكم” وأمر بصيامه كما أمر بمخالفة اليهود بصيام اليوم العاشر ويوم قبله أو يوم بعده لذلك يرتبط الاحتفال بعاشوراء لدى الجزائريين على غرار المسلمين في العالم بصيام التاسع والعاشر أو العاشر والحادي عشر من شهر محرم.
بعيدا عن الاحتفال بهذه الذكرى في شقها الديني ، لازالت عادات إحياء عاشوراء تضرب في أعماقها التاريخية لتحكي بعض تفاصيلها التي تتشبث اليوم بالبقاء في البيوت الورقلية . ويعد طبق الفول أحد هذه التفاصيل التي تكافح الأمهات اليوم للحفاظ عليه كعادة وموروث وتعمل على نقله إلى الأجيال القادمة.
الفول أو “الأوّن” كما يطلق عليه باللغة الأمازيغية المحلية سيد المائدة في مثل هذه المناسبة الدينية التي انسجمت منذ قرون عدة بالتراث التاريخي للمنطقة حتى أصبحت تقليدا هاما في القاموس الاجتماعي، وترتبط عملية تحضير هذا الطبق الذي يطهى إما حلوا بالتمر “الغرس” أو مالحا بالأيام التاسع والعاشر والحادي عشرة من هذا الشهر حيث ينقع الفول في الماء في ليلة التاسع من محرم ويطبخ في اليوم الموالي ليؤكل في يوم عاشوراء.
هو طبق مصاحب لكل الوجبات والجلسات العائلية خلال هذا اليوم، فضلا عن عادة تبادله بين الجيران والأهل والأقارب، طبق الفول التقليدي في عاشوراء يطبخ مع التمر وكذا مع لحم القديد ويأخذ الفول كل تلك النكهات الممزوجة لتنسجم معا وعادة ما يطهى في قدر كبيرة ليأكل منه القريب والغريب ويوزع منه أيضا.
البيوت الورقلية ، لا تكاد تخلو من الفول الذي لابد أن يكون حاضرا بقوة في هذه الفترة من السنة تحديدا، ويشير وقوع الاختيار على الفول بالتمر الذي يطهى في أغلب العائلات بمناسبة عاشوراء إلى اعتبارات عدة فحسب الحاجة أم بابوسان يعد “الأوّن” من أقدم الحبوب التي عرفتها البشرية .كما أنه كان ولازال يشكل غذاء أساسيا للعديد من المجتمعات، فضلا عن أنه لا يكاد يوجد بيت ينعدم فيه الفول نظرا لما يحتويه من أهمية غذائية، ويأتي المزج بين الفول والتمر تضيف نفس المتحدثة إلى أهمية التمر كمنتوج محلي تتميز به هذه المنطقة عن غيرها، فبالإضافة إلى القيمة الغذائية التي يحملها كل من التمر والفول يعد التمر أيضا غذاء متوفرا في كل البيوت.
بالنسبة للحاجة أم بابوسان فإن طهي “الأوّن” في البيوت هو من أبرز العادات الصامدة في وجه الزمن والتغييرات التي طرأت على المجتمع فأفقدته الكثير من المعالم التي كانت تميزه، فإحياء عيد عاشوراء في ورقلة اختلف في الكثير من الأمور عما كان عليه في السابق، حيث اختفت تفاصيل وطقوس عديدة كانت تطبع الاحتفال بهذا اليوم ولازالت قله قليلة ممن تتمسك بهذه العادات على غرار “الشايب عاشوراء” التي كانت تشكل إحدى اللوحات المسرحية الفنية التي تضفي بهجة على أجواء الاحتفالات بهذا العيد .
وتتلخص فكرتها في تجمع عدد من أطفال الحي بعد وقوع اختيارهم على واحد منهم لأداء دور الشايب عاشوراء، يضيفون على ملامحه ومظهره بعض التغييرات حتى يؤدي الدور كما هو مطلوب منه ويتبعه البقية، يتنقلون بين البيوت المجاورة طلبا لمواد غذائية مهما كان نوعها وحجمها وحسب الموجود ويجتمعون في الأخير لدى إحدى الأمهات في الحي ويشاركونها في طهي طبق “المختومة” التقليدي أو “تاكنيفت تادومت” كما هو معروف باللغة الأمازيغية بما جمعوه من البيوت المجاورة، هذه العادة -تقول أم بابوسان- والتي تحمل الكثير من معاني التضامن والتكافل الاجتماعي والتدريب على العمل الجماعي وكذا المنافسة من خلال منافسة مجموعات أخرى في التمكن من جمع كل المواد المطلوبة لإعداد “المختومة”، فضلا عن بعدها الفني الإبداعي الذي يتطلب من الأطفال إظهار كل فنياتهم لجذب الانتباه لم تختفي تماما، إذ لازالت بعض الأحياء والعائلات تحيي هذه العادة في عاشوراء.
التحضير لعاشوراء في العائلات الورقلية تضيف نفس المتحدثة كان ينطلق منذ عيد الأضحى أين تستغل الأمهات بعض اللحم القديد من الأضحية لإعداد طبق الفول وكذا يستغل بعض صوف الأضحية في إنتاج أساور من الصوف تسمى “الكوسر” تربط في معصم الفتاة الصغيرة ولا تنزع منه إلى غاية يوم عاشوراء بنية أن تصبح في المستقبل امرأة صالحة في المجتمع وقادرة على أداء المهام والحرف المنزلية بكل تفان وحتى تعرف معنى الاحترام الذي لا بد أن تبديه لغيرها وخاصة لكبار السن.
وبالإضافة لطقوس قص الشعر والتزيين بالحنة والكحل وغيرها من العادات التي تتفق فيها معظم العائلات في الجزائر، طقوس أخرى يتميز بها الاحتفال بذكرى عاشوراء في ورقلة على غرار منع إثارة الأصوات الصاخبة في البيوت والاحتفال بالزفاف خلال هذا اليوم وكذا استعمال المهراس لإعداد الأكل وغيرها من الأعمال المنزلية الأخرى التي تثير الفوضى، وهي جميعها تضيف الحاجة أم بابوسان عادات قديمة لم تعد تعمل بها العديد من العائلات اليوم.