ثانيا: آليات ومشاهد التأثيرات والأبعاد الدولية في المنطقة
المجتمعات والشعوب الإسلامية لها قيم روحية ودينية متجذرة ومن خلالها تنطلق الوطنية أو فهم الأمة في مواجهة الاختراقات الثقافية والحضارية للأطراف الأخرى. مهما كان الخلاف الداخلي بينها، فإنها تتحد في مواجهة أي اختراق أجنبي لها ومن الصعب على المسلم مهما كان تسامحه ومسالمته ألا يخضع للتأثير باسم الدين والجهاد ضد أعداء الإسلام. المنظومة الغربية بالتزاوج مع البعد الصهيوني تعي ذلك وتعمل من خلال مراكز البحوث والمؤسسات الدينية والخيرية رغم شعاراتها الإنسانية، وتخطط أجندتها ضمن ووفق ذلك.
هذه الأهداف الإستراتيجية لا تتباين ميدانيا مع التطرف والتشدد الديني بل العكس أنها تصبح مجال ومبرر لتنفيذ مخططاتها وتحقيق أكبر مكاسب خاصة عندما يعرفون مسبقا أن الخطاب المتشدد والشعار الديني المتطرف لا يؤدي إلى تجسيد مشاريع اقتصادية وتنموية جادة تؤثر سلبا على اقتصاديات ومصالح الغرب بالدول التي بها هذه الحركات أو حتى الأنظمة السياسية. في هذا الإطار يتحول البعد الديني إلى آلية لتنفيذ أجندة الغرب وليس هدفا في حد ذاته. يمكن هنا ذكر الآليات التي توظف لتنفيذ هذه الأجندة.
١ . آليات ومشاهد استفزاز الوضع والتوتر والانقسام في الساحل الإفريقي
أ . آلية ومشهد تشجيع التطرف الديني والإرهاب
أهم وسيلة يحاول الإرهابيون التأثير بها على الرأي العام الإسلامي بالترغيب أو الترهيب هي شعارات وعناوين إسلامية: اللّه أكبر، الجهاد في سبيل اللّه، الإسلام هو الحل... مفاهيم، شعارات ومصطلحات عندنا نحن المسلمين متجذرة في إيماننا وقناعاتنا الدينية. وعندنا نحن الجزائرون حققنا بها مكاسب وطنية سامية في تاريخ ليس بعيد أثناء حرب التحرير الوطنية (١٩٥٤ ١٩٦٢-) . فالثورة الجزائرية حملت راية الإسلام وروح المقاومين وكان الجهاد في سبيل اللّه (المجاهدون) والضحايا كانوا شهداء الحرية والواجب الوطني. بيان أول نوفمبر في حد ذاته حمل الرسالة الإسلامية وبناء الدولة الجزائرية وفق المبادئ الإسلامية وليوثق الإسلام دين الدولة بعد استرجاع استقلال الجزائر (المادة الثانية من الدستور الجزائري). إذن إلى حد الآن لا يوجد خلل في شعار وعنوان الجهاد واللّه أكبر. ولكن الفارق الذي لا يقارن أن الثورة الجزائرية كانت ضد العدو المستعمر للمسلمين والإسلام بأحدث الأسلحة المدمرة ومارس أقصى وسائل القمع والتدمير المادي والمعنوي للإنسان الجزائري. أما وأن يستعمل الجهاد والكفاح والمقاومة ضد مسلم، فهذا تناقض وانحراف عن مبادئ وقيم الدين الإسلامي السامية والنبيلة.
يدخل ذلك ضمن استراتيجية ضرب الاسلام والمسلمين من الداخل. ذلك ما يفسر ما يحدث في الشرق الأوسط والساحل الإفريقي بامتداداته الثلاث. فالغرب لا يهمه من ينتصر من داخل المسلمين، بل أكثر من ذلك أن الذي يهمه أن ينهزموا جميعا. مثلما أجاب هنري كيسنجر كاتب الدولة للخارجية الأمريكية سابقا (١٩٧٣ ١٩٧٧-) عندما سئل من تفضل أن يكسب الحرب إيران أم العراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية (١٩٨٠ ١٩٨٨-)، فأجاب كيسنجر '' أتمنى أن ينهزم الاثنين'' . فلا يهم من ينتصر في العراق، أفغانستان، إيران، سوريا، ليبيا، تونس، مصر، مالي.... مادام هم مسلمون، المهم أن ينهزموا جميعا.
الإرهاب له وجهان وبعدين، الوجه الأول أن الذي ينفذ العملية الإرهابية له قناعة دينية (بتغليط طبعا) لدرجة يقال له أن حياته لاتهمه لأن الأهم هو ما بعد الحياة أي الآخرة، ولكن الذي وراء تأطير وتكوين الإرهابي له أهداف وأبعاد لا علاقة لها بالدين الإسلامي . قتل النفس بغير حق في ديننا الإسلامي هي من السبع الموبقات وبالتالي الانتحار بقتل النفس أو القيام بعملية إرهابية لقتل النفس وقتل الآخرين هي بغير حق والذي يقوم بها مآله جهنم.
الذي وراء تأطير وتكوين الإرهابي لا يهمه طبعا الدين ولكن الذي يهمه هو تحقيق الأهداف والأبعاد المبرمجة وفي مقدمتها ضرب استقرار الدول والشعوب لتحقيق أغراض اقتصادية في المناطق الحيوية والغنية بالموارد الطبيعية، والتواجد بمواقع إستراتيجية لإدارة وضع إقليمي أو دولي.
أسهل وأسرع وسيلة للتأثير في وضع ما محلي أو دولي هو ممارسة الإرهاب الذي يفتح المجال للتأثير والتدخل على غرار ما حدث في مالي. في هذا الإطار تدخل حتى عملية اختطاف الأوربيين بالساحل الإفريقي أو ما حدث باختطاف ثلاث (٠٣) أوربيين (١٣ أكتوبر ٢٠١١) في مخيمات اللاجئين للصحراء الغربية هدفها كان تأزيم الوضع والعلاقة بين البوليزاريو والدول الأوربية المساندة لها، وقد تم تحريرهم (١٨ جويلية ٢٠١٢). من جانب الإرهابيين الاختطاف يعود عليهم بالمال لتمويل ممارساتهم الإرهابية ومن جانب أصحاب المصالح الإقتصاد والمالية الإرهاب يحقق أجندات استراتيجية رغم الآثار السياسية السلبية للإختطاف على الحكومات الغربية . تعتبر فرنسا وإسبانيا من الدول التي تدفع الفدية مقابل تحرير رهائنها وبالتالي تصنف فرنسا وإسبانيا من الدول التي تمول الإرهاب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ذلك ما أكدته سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية بمالي سابقاً (٢٠٠٢ - ٢٠٠٥)، السيدة «فيكي هدلستون»، بأن الأوروبيين خلال الفترة ٢٠٠٤ ٢٠١١- دفعوا ٨٩ مليون دولار فدية للإرهابيين مقابل تحرير رهائنهم، فرنسا وحدها دفعت ١٧ مليون دولار ووصل حجم تقدير دفع الفدية من طرف دول أوروبية إلى ١٥٠ مليون أورو.
وما حدث في عين أميناس (١٦ جانفي ٢٠١٣) بتيغنتورين يدخل في نفس الإستراتيجية. الإرهابيون الذين نفذوا العملية في تيغنتورين قدموا من شمال مالي مرورا بالنيجر ودخلوا إلى الجزائر عن طريق ليبيا. وهم من جنسيات مختلفة من دول مجاورة تدربوا في مدينة مسراتة الليبية قبل وأثناء الإطاحة بالقذافي وأعطيت لهم التجهيزات الكافية وتمت مساعدتهم للوصول إلى شمال مالي وبأسلحة جد متطورة وبعلامة تدل على أنها من المخازن الليبية التي فُتحت عمدا لتهريب الأسلحة.
لقد كانت العملية العسكرية والحل الأمني للجيش الوطني الشعبي (١٦ جانفي ٢٠١٣) آثار مثالية وتأييد للحل الأمني الحاسم وطنيا وإقليميا ودوليا يمكن ذكر البعض منها هنا:
I. أظهرت الجزائر من خلال الجيش الشعبي الوطني الشعبي أن هناك خطا أحمر لا يمكن تجاوزه. أي المس بالسيادة الوطنية وضرب شرايين الاقتصاد الوطني. أكدت الجزائر مرة أخرى أنه عندما يتعلق الأمر بالأمن الوطني، فإن الحل الأمني الحاسم والسريع هو الاختيار الوحيد.
. II أظهر الجيش الوطني الشعبي احترافية عالية لفك أكبر عقدة أمنية مبرمجة ومخطط لها للمس بالجزائر أمنيا وسياسيا. تلبية مطالب الإرهابيين معناه السماح باختطاف أكثر من ١٣٠ أجنبي المتواجدين بقاعدة تيغنتورين خارج الحدود الجزائرية. وهنا تبدأ المعضلة والمؤامرة وفي مقدمتها تحميل مسؤولية الحماية للجزائر وتبدأ التحرشات وتظهر بأن العملية الإرهابية كانت اكتشافاً لأجندة أجنبية مبرمجة مسبقا.
. III أبرزت عملية الحسم الأمني في تيغنتورين تماسك الشعب الجزائري بمختلف شرائحه مع القضايا الوطنية التي تمس بالسيادة الوطنية ودعم الحسم الأمني ضد محاولات المس باستقرار وأمن الجزائر.
IV . رفض الشعب الجزائري للإرهاب ومحاربته ومقاومته لأنه لا يريد العودة للعشرية السوداء التي عاشها في التسعينيات من القرن الماضي.
. V ما أبداه الغرب من انتقادات ظرفية للحسم الأمني الجزائري كان أكثر للاستهلاك الإعلامي محليا داخل الغرب. لم تمر إلا أيام أو ساعات حتى بدأت الحكومات الغربية تثمن الموقف الجزائري. بل أكثر من ذلك بدأت منتديات ومؤتمرات فكرية وعلمية بمراكز بحوث بالغرب لدراسة مستوى الدقة والاحترافية للجيش الجزائري في تجسيد العملية العسكرية بأقل تكلفة بشرية خلافا لما قام به جيوشهم في أفغانستان ومناطق أخرى من العالم أو ما يقوم به الجيش الفرنسي في مالي حاليا.
. VI نجاح عملية تيغنتورين لم تكن فقط ذات بعد أمني وفي مقدمتها حماية الأجانب أو ذات بعد لحماية شرايين الاقتصاد الوطني بل كذلك كانت للمحافظة على تموين أوربا بالغاز حيث أن قاعدة تيغنتورين لوحدها تموّن الدول الأوربية بـ ١٠ ٪ من احتياجاتها الإجمالية من الغاز، تأتي في المرتبة الثالثة بعد روسيا والنرويج.
. VII أكدت الجزائر للعالم أن المنظور الإقليمي والمقاربة الإقليمية هي الاختيار الأمثل لتسوية الأزمة في الساحل الإفريقي. الدول الإقليمية لها إطلاع مباشر على المنطقة ومعنية بالدرجة الأولى بأمنها ووحدة أراضي دولها واستقرار شعوبها. التدخل العسكري يؤدي فقط للتصعيد وتعقيد الأزمة ويعطي فرص أخرى للمتطرفين والإرهابيين لكسب نفوذ أكثر بالترهيب أو الترغيب. يعكس ذلك ما يحدث حاليا بمالي بعد التدخل العسكري الفرنسي.
. VIII أثبتت التجربة الجزائرية بعين أميناس بأن مقاربة محاربة الإرهاب هي الأمثل وأن احتواء الإرهاب بمختلف مشاربه ومصادره الإقليمية والدولية لا يمكن أن يتم دون الحسم الأمني السريع. الجيش الجزائري لم يكن في الحقيقة في مواجهة عناصر إرهابية فقط بل أكثر من ذلك كان في مواجهة من وراء العملية التي انطلق مخططها منذ الأزمة الليبية بتنسيق وتحريض الاستعلامات الغربية بمراكز تدريب بليبيا وخاصة بمسراتة.
ظة . أثبتت الجزائر للعالم بأنها قوة أمامية في محاربة الإرهاب وأنها أدرى بالكيفية لمواجهتها. كما أثبتت لمرات بأن الإرهاب هو صناعة وتخطيط خارجي دولي وأن الجزائر كانت ضحية له في تسعينيات القرن الماضي.
أ. مشهد أو آلية التهريب والمتاجرة بالمخدرات.
تعتبر آلية تهريب المخدرات جد مؤثرة وفتاكة وتتقاطع مع الإرهاب تحت ستار الدين، حيث أن الممارسات الإرهابية تتطلب أموالا وبالتالي تهريب المخدرات مصدر ثري لذلك. وبهذا المنظور فإن التفكير المؤسس لتحليل الوضع في الساحل ومالي بصفة خاصة يجب أن ينطلق من آلية تهريب المخدرات والتسلح لتأمين التهريب مقابل مبالغ مالية خيالية.
تتجاوز تجارة وتهريب المخدرات عبر الساحل الإفريقي أحيانا أكثر من ٢٠ مليار دولار سنويا ٤٠ ٪ من المخدرات الصلبة تمر عن طريق الساحل حسب تقارير منظمة الأمم المتحدة، بوسائل مختلفة بما فيها نقل الكوكايين جواً مثل الطائرة (بوينغ ٧٢٧) التي نزلت في غاو محملة بالكوكايين (نوفمبر ٢٠٠٩) ـ ولم تستطع الإقلاع نظراً لعطل فني وصعوبة الإقلاع ـ.
وراء هذا التهريب عناصر في حكومات ومخابرات في دول متعددة خاصة الدول التي تشكل المسلك الرئيسي لتهريب المخدرات مثل المغرب والسنغال، وضع ليس بجديد، يرجع لعقود من الزمن ولكن تضاعف أكثر في السنوات الأخيرة، تنقل مروجي وممارسي تجارة المخدرات في المنطقة يتم بمشاهدة ورقابة وأحيانا بتوجيه من المخابرات الغربية المتعددة المشارب. لتصبح العناصر المهربة للمخدرات لاحقا آلة لتنفيذ الأجندة الكبرى من خلال خلق مبرر للتدخل بالمنطقة.
كما أن تواجد المخدرات في المنطقة يفتح مجالاً لاستهلاكها والتعامل معها كمادة مطلوبة داخل المجتمعات الإسلامية في الساحل الإفريقي والتي مُثُلها العليا وأخلاقها الإسلامية ترفض وتحرم ذلك. استهلاكها هي اختراق لهذه المجتمعات وبالتالي تصبح آلة لإضعاف تماسكها القيمي والعقائدي. إضافة إلى ذلك الشباب القوى الحية في هذه المجتمعات تصبح سجينة الحاجة للمخدرات وبالتالي القيام بأي سلوك أو فعل يمكن الحصول على هذه المادة الفتاكة، وهنا تصبح المخدرات جزء من ممارسات الإرهاب تحت تغطية دينية على غرار عمليات الاختطاف ودفع الفدية لدعم الإرهاب والإرهابيين.
ج. مشهد أو آلية المنظمات الأجنبية غير الحكومية.
من حيث المبدأ، منطلق وهدف وبعد المنظمات غير الحكومية هو إنساني وموضوعي وله تقبل مبدئي للمعنيين بنشاطهم. كما أن المؤطرين والنشطاء عادة لهم هذه القناعات والأهداف. يظهر الانتقاد لها هو في الأفعال والنتائج المرجوة منها والتي عادة هي سياسية أكثر منها إنسانية، مشاهد ذلك متعددة أهمها الإزدواجية في اختيار المجال والأهداف وإصدار الأحكام والتي كثيرا ما تعكس الخلفيات والأفعال لمصادر دولها وللممولين لها، سواء كانت منظمات تابعة لدول أو لهيئات دولية بما فيها منظمة الأمم المتحدة. فالمنظمات غير الحكومية الإنسانية الأجنبية تستعمل في معظمها من طرف المخابرات الغربية وتستهدف الدول الغنية بالموارد الأولية، وتؤدي مهام الذين يمولونها أي حكوماتهم لتمكين عناصر النظام في حد ذاته ليستمر في الولاء، وتقديم تقارير عن الوضع، وكسب الرأي العام في حالة التغيير، وتوفير الجسور الإعلامية والاستعلامات للحكومات الممولة من أجل التواجد لاحقا. غير ذلك أن هناك جمعيات ومنظمات محلية بالدول الغربية تبحث عن تمويل للإغاثة الإنسانية داخل الدول الغربية ولكنها مهمشة ولا يقدم لها الدعم المالي، في حين الجمعيات والمنظمات الإنسانية التي لها نشاط خارجي يخدم مصالح مراكز القوى المالية والاقتصادية في الدولة الأم يقدم لها الدعم والتشجيع السياسي والقانوني. السودان من خلال جنوب السودان ودارفور كانتا ميدانا لهذه المنظمات ونفس الوضع يحدث في سوريا ومالي ودول أخرى.
د. مشهد أو آلية تشجيع بروز حركات أو أنظمة إسلامية شكلية
الغريب عند الغرب هو التحول السريع جدا لمناصرة الحركات والأحزاب الإسلامية للوصول إلى السلطة تحت غطاء الديمقراطية والتعددية والتي في حقيقتها موجهة ومبرمجة. أهم مظهر في عدم جديتها هو الازدواجية في التعامل مع الأنظمة السياسية المعنية بالتغيير. كيف يعقل أن الإسلام إلى وقت قريب جدا لا يتجاوز الثلاث سنوات كان مصنفا ضمن الخطر على الغرب ويحمل تهديدات للحضارة الغربية والإنسان الغربي والمصالح الغربية، فإذا به فجأة يصبح مثمن ومزكى ومدعم وتلقب حركاتهم بالثورة وحاملي شعار التغيير والديمقراطية.
ما حدث في العالم العربي لا يختلف مع ما هو في إفريقيا خاصة في دول الساحل الإفريقي. هذه المنطقة التي لها تكامل مع الجزء الأكبر من العالم العربي والمتواجد بإفريقيا، مساحة وسكانا ومواردا ويدخل التخطيط في إطار أجندة متكاملة. من هذا المنطلق نتعرض إلى خلفيات وأبعاد الأحداث العربية الأخيرة أو ما يسمى «بالربيع العربي». ومن خلال ذلك يمكن للقارئ المقارنة بما سيحدث أو ما سيحدث في إفريقيا ومناطق أخرى من العالم.
المقاربة السياسية والإعلامية للأسباب والأهداف حول ما حدث ويحدث لبلدان وأنظمة سياسية عربية منذ سنة ٢٠١٠ أو ما يسمى «بالربيع العربي» والذي هو في الحقيقة ربيع للغرب وإسرائيل وليس للعرب من منطلق ديمقراطية ومشاركة سياسية تعددية أو بمبرر ترقية حقوق الإنسان وحرية التعبير، لا تعكس الخلفيات والأبعاد الحقيقية المبرمجة من طرف الغرب لترتيب الوضع والخريطة الجيوسياسية للوطن العربي قطريا أو إقليميا، وتنفذ باسم إرادات وآليات عربية. فإذا كان الهدف هو تأسيس أو تعزيز تعددية حزبية وتكثيف انفتاح حرية التعبير بالدول التي تمت بها هذه الأحداث، فلماذا تطبق بجميع الوسائل وبسرعة على البعض ويعفى منها آخرون، رغم أن المعفيين منها على الأقل هم كذلك معنيين بالديمقراطية التعددية والنظام الجمهوري. وهل بالعالم العربي فقط توجد أنظمة شمولية أو بها أنظمة سياسية بحزب واحد؟ ألا توجد أنظمة شمولية خارج العالم العربي؟.
إذا كان الهدف من هذا الدعم الغربي، والمبالغ فيه (التدخل العسكري ضد ليبيا لأكبر نواة عسكرية للغرب: منظمة الحلف الأطلسي أو دعم ما يسمى بالمعارضة السورية لضرب وحدة سوريا) هو من أجل تنصيب أنظمة سياسية جديدة لها توجه سياسي ينسجم والديمقراطية الليبرالية والتوجهات الاستراتيجية الغربية في الوطن العربي فإن الأنظمة السياسية التي تمت الإطاحة بها (النظام المصري في عهد حسني مبارك، والتونسي في عهد زين العابدين بن علي، واليمني نظام علي عبد الله صالح) كانت مزكاة ومدعمة من طرف الغرب نتيجة ولاءاتها أو انتماءاتها للسياسة أو الاستراتيجية الغربية في المنطقة، وسبب استمرارها في الحكم لعشرات السنين هو راجع للدعم السياسي والمادي الغربي لها. الأنظمة المطاح بها كانت تعمل لكسب الغرب، أما الأنظمة البديلة الناتجة عن ما يسمى بالربيع العربي فهي نتاج مباشر للغرب.
وإذا كان الهدف هو تحقيق مصالح اقتصادية فإن نظام القذافي في ليبيا كان أكثر مستهلك ومستورد للمنتجات والسلع الغربية (نسبة الاستهلاك الليبي من المنتجات الصناعية والتكنولوجية الغربية كانت تتجاوز ٨٠ ٪)، وتواجد الاستثمار الأوروبي والغربي بليبيا بصفة عامة كان يسير باتجاه واحد أي مصلحة الغرب خارج اكتساب ليبيا للصناعة والتكنولوجية، فالغرب حقق مصالحه الاقتصادية في ليبيا بامتياز خاصة في السنوات الأخيرة عقب زيارة القذافي إلى أوربا بما فيها فرنسا . (٢٠٠٧) شهور قبل الإطاحة بنظام القذافي وصلت (٢٠١٠) العلاقات الاقتصادية والتجارية بين ليبيا والاتحاد الأوربي إلى حوالي ٥٥ مليار دولار، أي أكثر من ٧٠ ٪ من تجارة ليبيا الخارجية. مع فرنسا وحدها وصلت العلاقات الاقتصادية والتجارية إلى حوالي ٢٠ مليار دولار بما فيها اتفاق تعاون لتطوير الطاقة النووية السلمية بليبيا وتزويد هذه الأخيرة بـ ٢١ طائرة من نوع إيرباص . (air bus)