كنت أتلفت حولي في مقبرة العالية وهي تستعد لاحتضان جثمان الرئيس علي كافي، فيتأكد لي فعلا أن ''العالية'' أصبحت أبرز تجسيد للمصالحة الوطنية.
فقبرا الرئيسين هواري بومدين ومحمد بوضياف متجاوران، وغير بعيد عنهما قبر عباس فرحات، ونجد قبر كريم بلقاسم غير بعيد عن ضريح عبان رمضان وبجواره قبر عبد الحفيظ بوصوف، وآخرون، وكلهم وطنيون فرقتهم الاعتبارات السياسية وجمعتهم ''العالية'' كما جمعت اليوم خصوما للرئيس علي كافي أنساهم هازم اللذات كل الاعتبارات الذاتية، ولعل منهم من كان يردد :((ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر)).
وكانت الحفرة التي ستضم جثمان العقيد الراحل على بعد خطوات من قبر الرئيس أحمد بن بله، وكان بينهما شنآن معروف، تكفل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بمحاولة إذابته، بدعوتهما معا إلى احتفالات قصر الشعب بمناسبة أعياد استرجاع الاستقلال.
وكنت كتبت يوما رافضا اختيار بعض المجاهدين أن يدفنوا في غير العالية، ومع احترامي لبعض من رأوا ذلك لاعتبارات عائلية جديرة بالتقدير، فقد كنت أرى أن العالية ليست ملكا لرئيس أو زعيم أو قائد، ويجب أن تكون عنوانا دائما للمصالحة الوطنية، ومن هنا جاء أملي في أن تنقل إليها يوما رفات مصالي الحاج، الذي كان يوما والد الوطنية الجزائرية، وانحرفت به السبل في مرحلة معينة، ولكنه كان من الوطنية والرجولة بحيث رفض عرض الجنرال دو غول عندما دعاه للتفاوض حول مستقبل الجزائر، وقال'' :المفاوض الوحيد هو جبهة التحرير الوطني''، أو هكذا ما سمعته من أكثر من مصدر موثوق.
كانت العالية تتفجر بالمشيعين، وكان من بين الحضور من هاجموا الرئيس الأسبق بكل ضراوة عندما كان من المجاهدين القلائل الذين كتبوا مذكراتهم، وحرصوا على أن يستعرضوا أهم ما عاشوه من تاريخ الثورة، مجازفين بذلك بغضب من يريدون أحيانا إعطاء البشر الذين يحبونهم أو ينتسبون لهم صفة الكمال والعصمة.
بدأ تعرفي على العقيد علي كافي في ١٩٦١، عندما عين سفيرا للجزائر في القاهرة، وكنت أنا أعمل في المكتب العسكري مسؤولا عن الشؤون الطبية والاجتماعية للطلبة في المعاهد العسكرية، وأستكمل في الوقت نفسه دراستي الطبية.
لم يكن الأمر صداقة من أي نوع، فقد كان المستوى غير منسجم بالمرة بين قائد الولاية الثانية التاريخية ومناضل بسيط جاء من الولاية الأولى ليمارس مهام متواضعة في المكتب العسكري، وأنا من جيل يعرف للسابقين قدرهم وحقهم، وكنت وما زلت أقف في وضعية الانتباه أمام العقيد الطاهر زبيري، وهو زميلي في مجلس الأمة.
كان سي علي يتمتع بثقافة عربية أصيلة وبحيوية نضالية متميزة مما مكنه من فتح جسور بالغة الأهمية مع مجموع المثقفين المصريين، وكان يحظى بكل الاهتمام والتقدير والاحترام من المسؤولين المصريين، وفي مقدمتهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، واستثمر كل هذا الرصيد في دعم العلاقات بين الثورتين في البلدين، لكنه، كمناضل جزائري أصيل، كان يفرق تماما بين ما يلقاه من حب وتقدير وتجاوب وبين التزاماته كسفير لبلاده لدى بلد آخر، خاصة بعد أن قال وزير الخارجية الجزائرية آنذاك، سعد دحلب، لأعضاء البعثة الجزائرية في القاهرة بأن القادر على اتخاذ القرارات في غيابه هو السفير.
ويحضر علي كافي مؤتمر طرابلس الأول في ١٩٦٢ ويعود إلى القاهرة، وهناك يتعرض لموقف أثبت فيه أصالة المناضل الجزائري الملتزم بالانضباط الوظيفي، وكان ذلك في مارس من نفس العام.
فقد اتصل به السيد سامي شرف، سكرتير الرئيس المصري صاحب النفوذ الهائل، ليبلغه بأن الأخ أحمد بن بله سيصل إلى مصر، ويطلب منه أن يكون في الاستقبال على أرضية مطار القاهرة، ويجيب السفير بأنه لم يسمع بذلك، ويكرر سامي شرف المعلومة، ويكرر سي علي نفس الرد، مضيفا بكل حسم وحزم بأنه سيسمع بالأمر عندما يتلقى اتصالا من الحكومة الجزائرية التي يُمثلها، والتي يشغل فيها السيد أحمد بن بله منصب نائب رئيس الحكومة.
ولم يتلق السفير أي تعليمات مباشرة من الحكومة المؤقتة بهذا الشأن، وبالتالي لم يكتف بمقاطعة وصول بن بله في المطار، بل رفض أن يذهب لتحيته في مقر إقامته الرسمية بقصر الطاهرة.
كانت السلطات المصرية تتابع الأمر، وكانت تتصور درجة تعقيد الوضع الجزائري، وتتفادى كل ما يمكن أن يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية الجزائرية، وكان من نتيجة تحليلها هذا للموقف أن تأخر استقبال الرئيس المصري للضيف الجزائري، برغم صداقتهما الشخصية المتينة والهالة التي كان يتمتع بها كل منهما في الوطن العربي، وبرغم احتمال وجود أطراف قد تحاول المزايدة عليهما أو على أحدهما، مما كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج خطيرة.
ويدرك بن بله خطورة الموقف وتداعياته، فيتصرف كرجل دولة يفهم التزاماته والتزامات كل العاملين في الدولة، خصوصا خارج الوطن، وهكذا يتخذ مبادرة القيام شخصيا بزيارة السفير في مقر البعثة الجزائرية، وهي رمز السيادة الجزائرية.
وعلى الفور يمد علي كافي يده لمصافحة اليد الممدودة، فيقوم بزيارة الرئيس الأسبق في قصر الطاهرة، حيث يتلقى بن بله، وقبل أن يخرج سي علي من قصر الطاهرة، دعوة الرئيس عبد الناصر لاستقباله، ويتزايد شعور التقدير والاحترام للرجلين في كل الأوساط الرسمية المصرية، ويدرك الجميع ما هي الجزائر ومن هم رجال الجزائر.
وتمر الأيام وتتوالى السنون، ويتأكد أن ذاكرة الرئيس بن بله أقوى مما يظن الكثيرون، وتتصاعد الإشاعات قرب منتصف الستينيات عن تردي العلاقات بين الرئيس ووزيره الشاب للشؤون الخارجية، الذي كان من أقرب المقربين للعقيد هواري بومدين، نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع، الذي مكن تحالفه الاستراتيجي مع الرئيس طريق الأخير لرئاسة الجمهورية.
وعلى هامش لقاء للسفراء الجزائريين، يقيم رئيس الجمهورية حفل عشاء للديبلوماسيين، وعندما يتوجه علي كافي سفير الجزائر آنذاك في بيروت لمصافحة الرئيس يفاجأ بأن بن بله يعقد يديه خلف ظهره، والقاعدة البروتوكولية هي أن الرئيس هو الذي يمد يده أولا للمصافحة.
وتصدر عن الرئيس عبارة جافة، ويجيب علي كافي برد لا يقل جفافا، ثم يغادر قصر الشعب إلى فندقه حيث يتلقى مكالمة هاتفية من وزير الدفاع الذي لم يكن يغيب عنه أي شيء.
ويقول السفير للعقيد هواري بومدين أنه سوف يستقيل من منصبه، ويحاول بومدين إقناعه بأن ذلك يعني حرق كل الجسور مع رئيس الجمهورية، بكل ما يمكن أن ينجر عن ذلك من مضايقات للسفير، أبسطها ألا يجد في جزائر بن بله عملا لائقا بتاريخه وبمستواه.
ولا يكشف وزير الدفاع للسفير الغاضب عن كل نواياه المستقبلية، بل يكتفي بأن يقول له تعبيرا لم ينسه علي كافي أبدا'' :ما أستطيع أن أعدك به الآن هو أن أقتسم معك مرتبي الشهري.''
ويقوم وزير الدفاع بزيارة رسمية إلى القاهرة، وفي الوقت نفسه كان علي كافي يتوجه إلى بيروت عن طريق القاهرة للالتحاق بمنصبه، ويلتقي على متن الطائرة ديبلوماسيا جزائريا يبلغه بأن أيام بومدين في موقعه معدودة، وهو ما سمعه محمد قادري من عناصر في الدائرة المقربة من الرئيس، أكدوا له أن ذلك سيتم فور اختتام المؤتمر الإفريقي الآسيوي في الجزائر.
وبمجرد وجوده في القاهرة يسعي علي كافي للقاء وزير الدفاع، الذي يقول له ضاحكا، وقد فهم خطورة الأمر وسريته، بأن عليه أن يدعوه لعشاء في أحد مطاعم القاهرة التي يعرفها، ويعرض السفير على الوزير ما سمعه ويقول له حرفيا بأن الغذاء يأتي قبل العشاء.
ولقد رويت هنا ما سمعته شخصيا من الرئيس علي كافي، الذي أكد لي يومها في مقر إقامته على ضفاف العاصمة بأن بومدين لم يبد له حماسا كبيرا لتغيير نظام الحكم بالقوة، فقد كان بومدين يدرك التداعيات السلبية التي يمكن أن تنتج عن التغيير خارج الإطار الدستوري، وكان عليه أن يوازن بين الأسبقيات، وهو كان خبيرا في تحديد الأسبقيات.
ويقول لي ''سي عبد القادر'' يوما تعليقا على الإطاحة بالرئيس بن بله بأن مما سهل عملية الانقلاب وثوق بن بله في وطنية بومدين )وهو ما كنت سمعته شخصيا من الرئيس بن بله( فلم يكن الرئيس يتصور أن يجرؤ وزير الدفاع على إفشال تظاهرة تدعم الصورة الدولية للجزائر المستقلة.
وكان مما قيل يومها أن مصادر الرصد الرئاسية خدعت ببعض التحركات العسكرية التي تمت في إطار تصوير فيلم معركة الجزائر.
ودارت الأيام، وكنت ازددت قربا من سي علي خلال عملي في رئاسة الجمهورية، خصوصا عندما كان أمينا عاما لمنظمة المجاهدين، ثم ابتعدنا خلال وجوده على رأس مجلس الدولة، ثم اقتربنا من جديد عندما أراحه القدر من تلك المهمة التاريخية الشائكة، فكنت أزوره في بيته على ضفاف العاصمة، وأسعدني بملاحظاته عندما عرضت عليه مخطوط كتابي ''سفيرا زاده الخيال''، وأسعدني أكثر عندما أصدرت الكتاب بدون أن أقتنع ببعض الملاحظات، فشرفني بالمشاركة في تقديم الكتاب للجمهور خلال جلسة في المكتبة الوطنية قرب نهاية التسعينيات، وأتذكر أن ''سي عبد القادر'' هاتفني يومها محتجا بكل أخوة ومودة على عدم دعوته لحضور تقديم الكتاب .
ويبقى قبل أن أترحم على رئيس مجلس الدولة الراحل، واستباقا لتعليقات يتبرع بها عادة فارغو الشغل ممن يعلقون على كل استعراض لذكريات تاريخية قائلين بحكمة مفتعلة: لماذا لم تقولوا هذا قبل اليوم؟، يبقى أن أقول بأن الذكريات في هذا الحديث نشرت في صحيفة ''الشرق الأوسط'' يوم ٣ يناير ١٩٩٧، وأعيد نشرها في نفس الأسبوع، أي قبل نحو ١٦ عاما، في صحف جزائرية.