تأملات في التحولات بين مافات وما هو آت

بقلم: م .ع بوطارق باحــث جامعــي
18 مارس 2013

الحلقة    (٢)   
3- العالم الفاعل وعالم الخدمة التابعة
       
 في المنطقة العربية والإسلامية، شهدت العقود الثلاثة الأخيرة مزيدا من الانقسام والتشرذم، وانتقلت بلدانها من الرومانسيّة الحالمة بالوعْد، والواعدة بالحلم، إلى واقعية الانبطاح، ومنها إلى الخدمة التابعة لمراكز القرار الدولي، وشهدت قضية فلسطين السّليبة نهاية قرن مأساوية، وتوشك أن تكون أندلس العرب والمسلمين المفقودة مرّة أخرى بسبب العجز والتواطؤ.

في شطري العالم العربي والإفريقي وهما الجزء الأكثر إصابة بالأمراض المزمنة في العالم المعاصر، مثل التخلف والتبعية الطوعية والاستبداد، فإنّ الكثير من نخبه المثقفة والسياسية تنساق أكثر فأكثر نحو الانغماس في الطائفية والنزاعات العرقية والتفاخر بالخدمة التابعة لمراكز الهيمنة الأجنبية، ولم يبق في أغلب بلدانه سوى ذكريات عابرة عن مكاسب حركة التحرر الوطني و نضالاتها من أجل الحرية والتقدم، والعدالة الاجتماعية وتكاد تمسحها هواجس الأمن والصراعات على المواقع وضعف التحكم فيما يخبئه المستقبل من احتمالات قد تطرأ  داخل أوطانها أو من خارجها.         
 تناسى العديد من الساسة والنخب المحيطة بهم ومعهم نجوم صنعهم إعلام اليورو والدولار، ومعهم بعض شيوخ الفتنة المتخصّصين في فتاوى التضليل باسـم الدين، وحسب الطلب، فضلا عن منظمات بينية فقدت وظيفتها منذ أمد بعيد، تناسوا جميعا أن بدايات العدوان على المنطقة كانت باسم المسيح ثم باسم التمدين ونشر التحضـر، وهي الآن تحت رداء الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكأن الديمقراطية يمكن أن تستورد مثل الثياب الجاهزة وأدوات الزينة والالكترونيات، وتقدم هدية مجانية من بلد لآخر، وينبغي أن ننتظر قبل نهاية العقد الحالي هل سيزهر الربيع؟ أم سيكون حلقـة في مسلسل الأوهام ويحمل بصمات صنع في ... (ì Made in )
 هناك من الوقائع والأدلة على أنّ الساحات الإفريقية والعربية تغرق أكثر فأكثر في الانفعالية وردود الفعل اللفظية والتمزق الداخلي بل والاحتراق بنيران الطائفية والعرقية والعودة إلى مجادلات سقيفة بني مساعدة  '' منّا رجال ومنكم رجال  '' بلا مشروع ولا قضية تستحق التجنيد والتضحية، سوى التباهي باستيراد منتجات حداثة الغير وهو يسعى لما بعد الحداثة ويخدعه ما يسميه إدوارد سعيد وهم الحداثة
Illusion of modernity ويأتي خبراؤه وحتى حماته منذ وفاة الرجل المريض
( الخلافة العثمانية) وخبراؤهم لبناء جسر أو تشييد فندق وتعقبهم جيوش لفضّ النزاعات القبلية والتفتيش على مضاعفات الانقلابات التي يقوم بها عسكريون في رتبة صف ضابظ لم يحصل على مرتبه الشهري من الخزينة المفلسة بسبب فساد التدبير بسبب الجهل والغباء، وسوء التسيير بسبب الأنظمة الشمولية وسلطة المال المنهوب وغياب سلطة القضاء الركن الأول للحكم الراشد.         
 وبينما تتجمع في العالم المتقدم- أروبا- أمريكا اللاتينية - جنوب شرق آسيا، كتل قارية تعمل على التقليل من عوائق التعاون وتسعى إلى التقليل من الحواجز أمام الاقتصاد والتجارة والتنسيق فيما يتعلق بالمصالح المشتركة، تتزايد في المنطقة العربية والإسلامية، والعديد من بلدان إفريقيا مصاعب التعاون وبؤر الصراع التي غرستها الكولونيالية وأذكى نارها التخلف وضعف الحكم الرشيد، وتجد فيها القوى الغربية جسرا مفتوحا للتدخل وفرض إملاءاتها بسهولة وسلب ثرواتها وتأبيد الوصاية عليها.       
 يبدو عالم الرخاء وراء المتوسط والمحيط وعلى الواجهة الإشهارية أكثر رحمة، وأوسع صدرا وضيافة، على الرغم من أزماته وتزايد سطوة اليمين المتطرف، ولكن من هو اليمين غير المتطرف؟ وماذا بقي من اليسار بعد وفاة السوفيات بعد شيخوخة مبكرة وبدون تأبين! وتزداد شرائح كبيرة - (باستثناء بلدان السداسي الخليجي بسبب صادراتها الضخمة من المحروقات مقارنة بعدد السكان) - فقرا ويأسا وتهميشا، وتظهر للساسة، وأجهزة الأمن المختصّة أشبه ببراكين على وشك أن تقذف باللهب في كل اتجاه، وتأتي على القليل من الأخضر، انطلاقا من أحزمة البؤس التي تُطوّق المدن، وكأنها ياجوج وما جوج في انتظار أول شرارة لتقذف بكل ما في صدورها من يأس وغضب وتمرّد!
     في شمال العالم وضعت الحرب الباردة أوزارها، ولكن الاستعداد للحرب التكنولوجية، هو اليوم على أشده، وليس ذلك بغريب، فقد أحصى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة في العقد الأول من هذا القرن أن من بين (٢٨٦٠) أسبوعا مرّت منذ تأسيس الهيئة الأممية في شبه جزيرة مانهاتن، لا توجد سوى ثلاثة أسابيع لم يحدث فيها نزاع مسلّح، وأن ٩٩ ٪ من الحروب دارت على رقعة العالم الثالث بقاراته الثلاث الإفريقية والأسيويّة والأمريكية اللاتينيّة، وأن من بين تلك النزاعات ما تجاوز ثلث قرن من القتل والتدمير المتبادل بين الجياع وضحايا الأوبئة، في إفريقيا بوجه خاص.

   ٤ وجهان لعالم اليوم الشر
 الأقصى والخير الأسمى

  وقد اعتبر أ.هوبزباون   E.Hobsbawn وهو من أشهر فلاسفة التاريخ المعاصرين في بريطانيا، ويُعدُّ مع برتراند راسل وتوينبي من مؤسسي فلسفة الحضارة في العالم الحديث، اعتبر هو بزباون أن القرن العشرين هو أقصر القـرون، ابتدأ في رأيه سنة ١٩١٤، وانتهى سنة ١٩٩١ وقـد فصّل في كتـابه الموسوعي عصر النهايات القصـوى
(١٩٩٤The age of extremes,) ما تميّز به هذا القرن، وهو كثـرة الحدود القصوى في الخير وفي الشر وعلى سبيـل المثال يقول في دراسته ما يلي:       
  في القرن العشرين خسرت الإنسانية ٧٥ مليون قتيل من الضحايا المدنيين والعسكريين في حربين عالميتين، كل منهما أكثر شراسة وسفكا للدماء من الأخرى، يقول الكاتب أنه بين ١٩١٤ و١٩٩١  قتلت الحروب والنزاعات الأهلية ٣٠٠ مليون ضحية، أي بمعدل ٣ ملايين شخص كل سنة.
  - في القرن العشرين صّعدت الكولونيالية من جبروتها ونسيت أروبا مبادئها وإعلاناتها الإنسانية فولدت الفاشية والنازية وشيوعيّة الكولاك بدل اشتراكية العدل والتضامن، وأعادت تسْمية الرّقيق والعبيد باسم الملّونين وطبقت عليهم التمييز العنصري الأكثر إذلالا وبشاعة.    
- في النصف الثاني من القرن العشرين تزايدت الحروب الأهلية وانتهت الحرب الباردة بسلام مسلح وراجتْ تجارة السلاح ومحاربة كسادها بخلق بؤر التوتر.
- ظهرت في تلك المدة فنون جديدة للتعذيب حتى أصبح من الاختصاصات المطلوبة في كثير من الجيوش المتحاربة وقوات الأمن، - وقد قدمت فرنسا بعض خبرائها في التعذيب إلى ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية - وأحيانا تقدم الدول التكريم والميداليات والرتب للمتفوقين في اختراع وممارسة فنون التعذيب وذلك علنا، وتُوقِّع في نفس الوقت على مواثيق حقوق الإنسان!  
- بالمقابل وعلى الرغم من كل ذلك عرفت الإنسانية في القرن العشرين نعما كثيرة هي الخير الأقصى:
- بعد عدة ألفيات تضاعف سكان الأرض أربع مرات خلال مائة عام فقط، بعد أن بقي خلال مئات السنين أقلّ من مليار واحد أو مليار ونصف حتى ١٩٠٢ .
- للتزايد العددي عوامل كثيرة من بينها تقدم الطب والصيدلة، وانتشار اللقاحات والمضادات الحيوية؛ وخدمات النظافة والإضاءة، ووسائل التوعية والتربية، في المدارس ووسائط الإعلام.
- في نهاية القرن زاد متوسط العمر في البلدان المتقدمة بحوالي ٦٠ ٪ وانتقل من ٤٧ سنة في بداية القرن إلى ٧٦ سنة في آخر السبعينات، وفي البلدان النامية تضاعف متوسط الحياة خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وبعد أن كان يتـراوح بيـن ٣٢ و٤٠ سنة، زاد بحوالي ٢٥ سنة، وزاد في أدنى حد ( أفقر البلدان) بحوالي ١٢ سنة.
- زادت ثروة العالم أكثر من أربع مرات عما كانت عليه في بداية القرن الماضي، وزاد الاستهلاك بشكل مطرد في أمريكا واليابان وأروبا،  وبقي في حدود الكفاف أو أقل ـ (هناك في العالم من يموتون جوعا) ـ في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والكراييب، بأقل من دولار واحد، أو لا شيء على الإطلاق.
- تزايد تعوْلم العالم أولا عن طريق حربين عالميتين؛ ثم عن طريق المؤسسات الدولية التي أسفرت عنها الحرب العالمية الثانية، وأصبح لتلك الهيئات والمجامع مرجعية أو رأي أو قرار في السياسات الداخلية لكل بلدان العالم وحتى في علاقاتها البينية.
- انتهى القرن بتتويج الديمقراطية وحقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية في كل أنحاء العالم، وأصبح أمثال فرانكو وسالازار وبينوشي وبول بوت، معلّقين على جدار النبذ والعار وتلاحقهم اللعنات حتى من أقرب أصدقائهم السابقين، هل كان أحد يتصوّر قبل عشرة أعوام، أن يعيش بينوشي مدلل البيت الأبيض، بين آلام الاحتضار ومخاوف السجن والعار؟!
  هذه حمولة القرن الذي سمّاه المفكر البريطاني المذكور آنفا موطننا الثاني (لَفٌمٍمو لَُكمَّ زصد)، لأن الأغلبية من النخب والساسة، ونسبة عالية من الجيل الراهن عاشت على الأقل جزءا من نصفه الثاني، وتلك بعض امتداداته في مستهل هذا القرن.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024