قبل حوالي عشرين عاما، خرج عالم الاقتصاد، سيرج لاتوش، كي يطلق صفّارة إنذار، ويعلن أن ما تلبّست به الحياة من قيم العولمة لا يمكن أن يدوم، وأنّ المرحلة التّاريخية التي يعيشها الغرب في أوج تطوّره وازدهاره، توشك على وضع نقطة الختام. فـ «العولمة» أطّرت الواقع المعيش وفرضت نمطا استهلاكيا خالصا على جميع أنحاء الحياة، ما يعني أن انتصارها، لم يكن سوى انتصار للسّوق، وهي مكان لا يصلح للحياة وإن ازدهرت أرقامه؛ ولهذا، دعا إلى ضرورة التأصيل لواقع اجتماعي جديد، يساير تطلّع المجتمعات التي لم تعد تستوعب مركزية القيم الاقتصادية، وهو ما يدعو إلى المسارعة إلى إعادة الاقتصاد إلى مكانه الطبيعي، بما هو وسيلة بسيطة للحياة الإنسانية، وليس غاية نهائية لها، ما يعني التّخلي نهائيا عن الاندفاع نحو «الاستهلاك المجنون» الذي يتصاعد خطره على أسباب المعيشة، ويوشك أن يلقي بالإنسان إلى البؤس النّفسي والأخلاقي..
ولقد اقترح لاتوش، حينذاك، فكرة تحرير المخيال وتخليص العقل من هيمنة العوالق الاقتصادية، قبل أن يفرض التاريخ تغييراته الضّرورية التي ستكون مؤلمة بالتأكيد، ولم يكن من بديل موجود غير وضع متصوّر جديد لـ»الحياة» برمّتها، يسمح برؤية الأشياء بشكل مختلف، ويتيح تصوّر حلول مبدعة تكفل استعادة معنى «حياة الإنسان وطموحه»، عوضا عمّا اجتاح العالم من تنافس جعل «الاستهلاك» غاية في ذاته..
ويبدو، من خلال الأحداث المتواترة عبر العالم اليوم، أنّ قراءات لاتوش كانت حصيفة؛ ذلك أن ثنائية «إنتاج/استهلاك» تعمّقت أكثر، ورسّخت لمركزيتها في الفكر الإنساني، رغما عن الأصوات المحذّرة هنا وهناك، فهل يسارع العالم الحديث إلى توسيع فكرة «التّنمية»، والعناية بها على جميع المستويات، أم أنه يختار «التّغيير المؤلم»، ويواصل في منح الأولوية لجشع «الاقتصاد» وحده؟!.. هذا هو السؤال الذي قد يجد إجابة حين يعولم الفكر، وينال شيئا من مركز الاهتمام..