يتناول كثير من المحلّلين الحرب الرّوسية الأوكرانية من زاوية صراع الحضارات، الذي قال به صامويل هنتنغتون، ويعتقدون أنّ المسألة متعلّقة بصراع (شرق – غرب) بحكم مواقع أطراف النّزاع جغرافيّا، غير أنّ هذه الرّؤية تبدو لنا بعيدة عن الواقع، لأنّ التحليل لا ينبغي أن يقع في فخّ الخرائط، ثم إنّه حين يكون تحليلا منهجيا، يمكن أن يدرك بأنّ نظرية «صراع الحضارات» – بقضّها وقضيضها – لا تعبّر عن رؤية فكرية عميقة، وإنّما عن «مسلك» سياسي أدّى ما عليه في مرحلة تاريخية بعينها.
وقد يكون واضحا أنّ الحضارات لا تتصارع، وإنما تتكامل تاريخيا، وتاريخ العالم أثبت أنّه لا يحتمل سوى حضارة واحدة مهيمنة، ما يعني أن السّابق عليها لا يكون في حكم «الحضارات»، وإنّما هو في حكم «ذكريات الحضارات»، إذ لا يمكن أن نتحدّث عن «حضارة قائمة» يعبّر أبناؤها عن تبعية مطلقة لـ «الحضارة القائمة»، وحتى إن احتفظ هؤلاء بـ «تقاليدهم وعاداتهم وأناشيد مآثرهم»، فإنّهم يجدون أنفسهم مضطرين إلى تأطيرها بفروض الحضارة المهيمنة، ثم إنّ «الصّراع» يقتضي النّديّة، تماما مثلما يقتضي «الحوار» الكفاءة، وهذان شرطان لا يتوفّران للجميع، ما يعني أنّ هنتنغتون حبك مغالطة تستعصي عن التحليل، كي يصطنع عدوّا وهميا يمكّن الحضارة المهيمنة من تمرير أطماعها تحت غطاء «السّلم» و»الأمن» و»مصلحة الانسان»، ويسمح لها باستغلال الخطاب الحضاري بما هو رافدٌ يشجّع المغلوبين على أمرهم كي يتقبّلوا «الأذى» بنفوس مطمئنة.
الصّراع اليوم إذن، ليس صراع حضارات، وإنما هو صراع ضمن الحضارة الواحدة التي ارتدّت عن قيمها الإنسانية، وتسلّلت إليها أفكار هدّامة لمعنى الإنسان في ذاته، ما يفرض هزّة قويّة تجدّد الفكر، وتستعيد للإنسان قيما ضيّعتها عليه أهواء السياسة، فإذا مرّت، في أثناء الصّراع، مصلحة هذا هنا، ومصلحة ذاك هناك، فالأمر طبيعي للغاية، في عالم يبحث عن ترتيب جديد للحياة..