بدأت مشواري التواصليّ مع أسرانا الأحرار في شهر جوان 2019 (مبادرة شخصيّة تطوعيّة، بعيداً عن أيّ أنجزة و/أو مؤسسّة)؛ وقمت مذّاك بمئات الزيارات. أصدرت كتاباً بعنوان “يوميّات الزيارة والمزور – متنفّس عبر القضبان” تناول زياراتي لأحرارنا حتى السابع من أكتوبر 2023 وتمّ إشهاره يوم 18.10.2024 في معرض عمان الدولي للكتاب. (دار الرعاة للدراسات والنشر وجسور ثقافيّة للنشر والتوزيع).
هاتفني أسير محرّر مباشرة بعد مغادرته للسجن وقال: “إحنا على حافّة القبر، بدهم يدبّونا فيه وإحنا بدنا نعيش. أن تخرج من جوف الحوت حياًّ نعمة ربّانيّة. الأسير ما بدّو تعاطف، بدّو يعيش. الناجي من يخرج من السجن يتنفّس.
لو قعدت كمان شهر بتِفرق، متت مرتين/ ثلاث وانتصرت على نفسي. ساعة مغادرة القسم وقفت في الساحة وصرخت بأعلى صوتي: وصيّتي لكم: حِبّوا بعض”.
والله لو بعرف هيك وضعك ما جيت زُرتَك، غادرت حيفا الخامسة والنصف صباحاً ووجهتي سجن النقب الصحراويّ، 270 كلم، وبعد طول انتظار أطلّ الصديق الأسير هيثم جمال علي جابر (مواليد 10.12.1974، وفي الأسر منذ 23.07.2002)، لم أتعرّف عليه بدايةً رغم أنّ هذا اللقاء السادس بيننا (رتّبت زيارة 4 أسرى، منهم ثلاثة لم ألتقِهم من قبل)، أشعث الشعر وطويل جداً، مع جدّولة وشبَرَة، هيكل عظمي متحرّك، وصُدمت حين أزال الكمّامة وتعرّفت عليه، ذُهلت، وبعد أن تمالكت أعصابي قلت له بعفويّة، مع غصّة بالحلق، “والله لو بعرف هيك وضعك ما جيت زُرتَك”، وبعد الاحتضان والقبلات عبر الزجاج البغيض أخذ يستفسر عن مشقّة السفر والاطمئنان عن زوجتي سميرة والأحفاد، وبلّغته سلاماتها.
أوصلت له بداية سلامات العائلة، بشّرته بنجاح هدى ودارين بالتوجيهي وتسجيلهما للجامعة، ورسالة الأسيرة المحرّرة إخلاص التي وقّعتها “بنتك إخلاص”، وحدّثته عن زيارتي لأهله وطمأنته عليهم.
حدّثته عن لقائي بإبراهيم وإخلاص في مطعم الفلاحة بعين عريك (برفقة فراس حج محمد وابنه عاصم ومصطفى نفاع)، ومشواري لمعرض عمان الدولي للكتاب متمنيّاً مشاركته في السنة القادمة. حدّثني عن زملاء الزنزانة؛ عمر سلمية (من إذنا/ الخليل – 5 سنوات بدون زيارة)، صابر بوذية (كفر حارس)، سامح الأسمر (مخيم بلاطة)، فادي أبو عطية (الأمعري)، محمد عثمان (عكا)، كريم عياد (بيت لحم)، إسلام عويضات (أريحا)، هشام عواد (عسكر)، ومحمد فرخ (طولكرم).
اعتدته في زياراتي السابقة مهندماً، متكَليِن ومزبِّط شبابه، وحين استفسرت عن حالته أجابني: “آخر مرة حلقت يوم 11 أكتوبر، نزلت عشرات الكيلوات، بس تشافيت من المرض بعد العمليّة، كلّنا كنّا مصابين بالإسكابيوس، والله الوضع هدّ حيلي”.
أوصى بتعلّم هدى ودارين بجامعة النجاح، وهديّة نجاح كلّ واحدة منهما قسط كامل “إوعوا تفرّطوا بيهن وتجوّزوهن بدون تعليم!”
طلب إيصال سلاماته للعائلة وخصّ بالذكر والديه وأخواته نسرين وأسيل، وأخوته جميعاً. قلق بالنسبة لكتاباته ومنشوراته وإصداراته. طلب إيصال سلاماته الحارة لزوجتي سميرة، وإخلاص وإبراهيم، وإسراء عبوشي وهناء فياض وسلوى الطريفي. وحين افترقنا قال لي فجأة “إطمّن، قرّبت الحلاقة...برّا”.
هواي شمالي
بعد لقائي بهيثم جابر في سجن النقب الصحراويّ، أطلّ الأسير عمر عبد القادر عبد الله القواسمي (مواليد 11.02.1964)، عرّفته بنفسي وأنّني رتّبت الزيارة بناءً على طلب نجله مقداد، فانفرجت أساريره وقال بعفويّة “هواي شمالي”، وسرح مع جولاته في حيفا وعكا وباقة.
أوصلت له بداية رسالة زوجته وسلاماتها فتنعنش وانتشى، وكذلك سلامات الأحفاد والأبناء والبنات والنسايب، وحينها “تروحَن” وشطح معهم برهة من الزمن، وإيلياء بتجنّن وبتمشي، ومتابعة مقداد الحثيثة لموضوع مرضه ورفع شكوى لإدارة السجون.
أخبرني بحالته الصحيّة، الصحّة “أصلح” (بتُّ أمقت مصطلح “أحسن” بما يتعلّق بأسرانا وأوضاعهم بعد السابع من أكتوبر)، شفي من السكابيوس/ الجرَب اللعين، ووزنه صار 56 كيلو بدلاً عن 90، (أبو التسعين ممنوع يزيد عن الستّين، بموجب سياسة وتعليمات الإدارة وإجراءاتها)، تصلّحت التغذية شويّة، المناعة ضعيفة، عانى 80% من الأسرى من دمامل بالجسم وحكاك نتيجة لتفشّي السكابيوس، وتغلّبوا عليه.
حدّثته عن خطيب ابنته أسحار (مهندس حاسوب، خلوق ومؤدّب، بصلّي وما بدخّن، وكريم)، وتجهيزه للبيت على أتمّ وجه، وأنّهم قرّروا تأجيل العرس للترويحة، طلب تحضير كرت العرس لعلّ وعسى القاضي يقصّر مدّة الأسر لدوافع إنسانيّة.
خبّرته عن مشواري للخليل وزيارة المحل بإدارة مقداد وقتيبة، وعن تحضير الدبس الخليلي (وحسبوا حسابي بدبس الموسم). حدّثني عن زملاء الزنزانة؛ أبو فيروز (23 عام في الأسر ويعاني من مرض)، أبو جوهر (22 سنة سجن/ رام الله)، الريحاوي (22 سنة في الأسر)، أدهم بنات، ورفيق زكارنة، والتضييقات والمنغّصات التي يمارسها السجّن، وصعوبة الانقطاع عن العالم الخارجي وأخباره.
طلب إيصال سلاماته للعائلة وخصّ بالذكر زوجته، وابنته أسحار، والأحفاد، ومشتاق للجميع. يتابع حِفظ القرآن ليلحق زوجته، ومشتاق كثيراً للجميع والأمل كبير. وحين افترقنا تواعدنا بلقاء قريب في رِحاب الخليل وجولة ع الأصول. لكما عزيزيّ هيثم وعمر أحلى التحيّات، الحريّة لكما ولجميع رفاق دربكم الأحرار على أمل لقاء قريب في فضاء الحريّة في بلد حرّ.
لا تؤجّل لقاء الحجات
في لقاءاتي مع أسرى الأحكام العالية في سجون الاحتلال كان الوالد/ة أو كلاهما محور مركزي في حديثنا، وكان لي تواصل مع العشرات من ذوي الأسرى الذين التقيتهم، ودعوني لزيارتهم ولكني لم أستجب لدعواتهم و«ما كان لي عين أفوت بيوتهم” دون صديقي الأسير.
حدّثني صديقي حسام في الكثير من اللقاءات عن والدته، الحاجة آمنه، وفي إحداها قال لي: “هناك أمهات ينتظرن بوابة السجن وأخريات بوابة الفنادق.” تواعدنا باللقاء معاً في حضنها ولكن سبقتنا يد المنون لتختطفها دون وداع يوم 08.01.2024، ولم ألبّي دعوتها لزيارتها “بلا” حسام.
تواصل معي والد شادي ووعدته بزيارته في الخليل وخذلته ورحل دون أن ألبّي دعوته. ومثلهم كُثُر.
زادت حرقتي حين احتضنتني والدة أسير نابلسيّة وقالت “بدّي أشمّ ريحة الغالي” وكنت قد التقيته قبلها بيومين. تجلس أم الأسير باب البيت بعيون دامعة وغصّة في قلبها تنتظر غاليها لتُطلق الزغرودة وتحتضنه حرًا طليقًا؛ وكثير من الأمهات لم تتذوّق طعم الفرحة منذ اعتقال ابنها/ ابنتها، ومنهنّ من توفيّت بحسرتها محرومة من احتضان غاليها/ غاليتها، فكيف لي أن أزورها وحدي؟
وعدت الحاجة زينب (والدة الأسير سالم مشهور أبو صفية) بزيارة قريبة ورحلت بداية الأسبوع دون أن أفي بوعدي. بعث لي ابنها إبراهيم (أسير محرّر حديثاً وأخو سالم) رنقيّة وكتب: “حبذا أستاذي العزيز ألا تؤجل لقاء الحجات وخصوصا أمهات الأسرى والشهداء. وكيف استعجلت والدتي قبل أن تتم زيارتها.
وعندها الكثير من الكلام والقصص عن فكرة مزيونة المقربطة بالحياة، ولكن لم تستطع أمي مواجهة ملك الموت أو تقصّ رأسه قبل أن يقبض روحها”. لروح الحاجة زينب وأمهات الأسرى والشهداء الرحمة والسكينة ولأبنائهن حريّة عاجلة.
زيارة عن زيارة بتفرِق (6)
قمت بالسنوات الأخيرة بمئات الزيارات لأسرى وأسيرات في سجون الاحتلال، وكان لكلّ زيارة مذاق آخر. لكن اليوم قمت بزيارة/ لقاء غير شكل. التقيت بأنهار الديك في سجن الدامون يوم 11 أوت 2021 فصُعقت حين وجدتها حاملاً في شهرها الثامن، متوتّرة جدًا من فكرة الولادة في الأسر، “علاء مش رايح يتحمّل!”، إدارة السجن أعلمتها أنّهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع الأمر، وهي خائفة أن يأخذوا علاء/ المولود منها وتظّل سجينة وهو بعيد عنها.
وقالت لي بحرقة: “بدّي أخلّف برّا ويرجّعوني بعدها قدّيش بدهم!”، وتأملت أن تتحرّر قبل الولادة. “الأسيرات حابّات بيبي صغير في السجن ولكن رغم هيك بدعولي أطلع”.
كم حنّت لاحتضان ابنتها جوليا، وأرادت مكالمة فيديو لمشاهدتها، وهذا أضعف الإيمان. طلبت صورًا لجوليا، صغار العائلة والأهل، وأصرّت على جلسة محكمة وجاهيّة لتصرخ في وجه النيابة والقاضي العسكري: خلاص، تعبنا وبدنا نطلع!! قمنا بحملة دوليّة لإطلاق سراحها، بدأتها صحيفة “المدينة” الحيفاوية، والتحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين، ومن ثَم مؤسسات محليّة ودولية.
وكان لها ما أرادت. هاتفتني حال تحرّرها من الأسر، في طريقها إلى قريتها كفر نعمة، ووعدتها بزيارتها ولم أفِ بوعدي.
هاتفتني من مستشفى الولادة لتبشّرني بولادة علاء ووعدتها بزيارة وأخلفت وعدي ثانيةً. بتّ أمقت “مهرجانات” التحرّر وما يرافقها من نفاق وصور. كتبت أنهار على صفحتها يوم 14.11.2021: “أروع شخص قابلته داخل الأسر المحامي الأستاذ حسن عبادي”.
صُعقت ثانية حين أخبرني أخوها مطيع صباح السبت 10.02.2024 أنّها فارقتنا وبكّرت الرحيل. حين أصدرت كتابي “زهرات في قلب الجحيم” جاء في الإهداء: “إلى روح أنهار الديك التي غادرت هذا العالم على حين غرّة”.
قرّرت أن أسلّم النسخة الأولى من كتابي لأبنائها جوليا وعلاء. رافقني الصديق عاصم حج محمد ووالده فراس في زيارتي لقرية كفر نعمة. التقيت بجوليا وعلاء ووالدة أنهار (تهاتفنا في حينه كثيراً ودعتني لزيارتهم وماطلت بالأمر) والعائلة الحاضنة، وحين ناولت علاء وجوليا نسخة الكتاب، تصفّحَته بصريّاً على عُجالة وحين وصلت صفحة 32 صاحت “جوليا، جوليا”! تحدّثت عن لقائي بأنهار، وعن وضع أسيراتنا وأسرانا، وأوضاع البلد، وطيلة اللقاء والكتاب في حضن جوليا.
قلتها مراراً وتكراراً؛ لم أعتد لقاء الأسرى والأسيرات الذين التقيهم في السجون مباشرة بعد تحرّرهم، أمقت “مهرجانات التحرّر” لكونها استعراضيّة نفاقيّة وما زال الآلاف يقبعون خلف القضبان، ولكن هذا اللقاء مدّني بالأمل، رغم الألم، والإصرار لأكمل المشوار حتّى تصفير كافّة السجون. حين افترقنا قالت لي جوليا (ابنة الخامسة): “بدّي نسخة من الكتاب لستّي، لأنّه هاي بدها تظلّها معي تا أصير أقرأ!”. اعذرني غسّان؛ والله زيارة عن زيارة بتفرق.
خير هديّة في الزمان كتاب (138)
شاركت معرض عمان الدولي للكتاب بدورته الثالثة والعشرين وأسعدني مرافقة صديقي الشاعر والروائي أحمد أبو سليم حفل إشهار وتوقيع روايته “باباس” (رواية، 221 صفحة، لوحة الغلاف: الفنان التشكيلي السوري سعد يغن الصادرة عن دار الفينيق للنشر والتوزيع في بيروت) وأهداني نسخة منها.
كتب في التمهيد: “ما الَّذي كنتَ ستفعله لو كنتَ لو كنتَ تشعر بأنَّك تملك هذا العالم؟ وأنَّك تأمر فتُطاع، وأنَّ بوسعك أن تنال كلّ ما تريده بلا تأخير؟ وأنَّك جرَّبتَ كلّ ما يمكن أن يجرِّبه البشر وانهيتَ منه؟ “كتب صديقي الناقد مجدي ممدوح حول الرواية: “تتمحور الرواية حول “الحب والموسيقى”، حيث ينتقل أبو سليم من الهم الوطني إلى الهم الإنساني، مجسدًا معاناة الإنسان بما هو إنسان، وهي معاناة عابرة للأزمان والأوطان”.
وأنهى أبو سليم الرواية كاتباً: “حين تصبح الحياة بهذه القسوة لا بدَّ من الطُّوفان إذن كي يغسلها من أدران البشر. إنّه الطُّوفان! إنّه الطُّوفان من جديد يا مريم! “ما كان كان، لكنّ ما كان، كان في الحسبان.” كتب لي في الإهداء: “الحبيب حسن عبادي حتى تستقيم الحياة. أحمد أبو سليم 18.10.2024”. شكرًا عزيزي أحمد على هديّتك القيّمة.