لا يدعو إعلان فرنسا أوغيرها من الدول التي تنتشر عسكريا في الساحل الإفريقي، عن القضاء على قادة إرهابيين بارزين، إلى التفاؤل باستتباب الأمن في المنطقة، لأن عمليات مكافحة الإرهاب تحتاج إلى ضربات حقيقية في إطار إستراتيجية شاملة، وليس مجرد السعي إلى تحقيق انتصارات رمزية مؤقتة.
لازالت أسباب تنامي أنشطة الجماعات الإرهابية، في الساحل الإفريقي متوفرة، ومرشحة لمزيد من التصعيد، بالنظر إلى الوضع في ليبيا الذي طالما كان سببا رئيسيا في حالة اللاأمن التي تسود المنطقة منذ سنة 2011.
لذلك يبقى من غير المنطقي اعتبار القضاء على قادة إرهابيين بارزين، انتصارا كبيرا، لأنه لا يمكن إيهام شعوب المنطقة التواقة إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية بتحسن الوضع عبر آلة دعائية غير مطابقة للواقع.
لقد حاولت فرنسا في الأيام القليلة الماضية، الاستثمار في مقتل الإرهابي الخطير عبد المالك دروكدال، في عملية عسكرية شمال مالي، اعتبرها الإعلام الفرنسي «ضربة رمزية وجهتها فرنسا في حرب الساحل».
وجاء الإعلان عن هذا الصيد «الثمين»، ساعات قليلة بعد مظاهرة حاشدة في العاصمة المالية باماكو، رفع فيها المحتجون لافتات تطالب برحيل القوات الفرنسية (عملية برخان) من البلاد والمنطقة ككل.
وتعود مطالبة شعوب دول الساحل الإفريقي (مالي، النيجر، التشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا)، بطرد قوات عملية برخان، إلى السنة الماضية، بعدما تضاعفت الهجمات الإرهابية ضد جيوشها وتنامت أعمال العنف الإثني.
وأمام الانتقادات الشديدة للقوة العسكرية الفرنسية، المتهمة «بالتقاعس»، و»قلة الفعالية» و»عدم التنسيق الاستخباراتي»، وجدت السلطات الفرنسية نفسها مجبرة على مواجهة صريحة مع نظيراتها في الساحل الإفريقي، وانتهت قمة «بو»، بين ماكرون ونظرائه من الدول الخمس، منتصف جانفي الماضي، إلى استمرار «الانخراط الفرنسي»، في مكافحة الإرهاب.
ووجهت انتقادات لاذعة للقوات الفرنسية، إثر مقتل 49 عسكريا ماليا، بقرية إنديليمان، قرب الحدود مع النيجر، شهر نوفمبر من العام الفارط، لأنها لم تقدم لهم المعلومات ولا الدعم عندما كانوا يستغيثون تحت وابل الرصاص.
قلب الحقائق
الاحتفاء الإعلامي الفرنسي بمقتل دروكدال، يكشف مدى استماتة فرنسا في إبقاء قواتها بالمنطقة، من خلال توجيه رسالة «مفادها أن لديها ما تقدمه في الحرب على الإرهاب».
لكن استمرار برخان، لا يمكن أن يتم على حساب قلب الحقائق، حيث صرحت وزيرة الجيوش الفرنسية قبل أيام، بأن «التهديدات الإرهابية في الساحل، تؤثر على الوضع الأمني في جنوب ليبيا».
والواقع أن الانهيار الأمني الذي أصاب دول مالي والنيجر وبوركينافاسو، ناجم عن تدخل حلف الناتو في ليبيا سنة 2011، بضغط من الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي. وأدى سقوط نظام العقيد معمر القذافي إلى انتشار حوالي 70 مليون قطعة سلاح في المنطقة، ويذكر العالم، كيف سقط شمال مالي سنة 2012، بيد الجماعات الإرهابية التي كانت مدججة بشتى أنواع الأسلحة.
وتتحمل فرنسا، مسؤولية كبيرة تضاعف قدرات التنظيمات الإرهابية في الساحل، فانحيازها إلى جانب طرف على حساب آخر في الاقتتال الداخلي الليبي ساهم في وصول أسلحة متطورة إلى أيدي الإرهابيين بمالي والنيجر. وسبق وعثرت قوات الوفاق الليبية، على صواريخ «جافلين»، المضادة للدبابات بقاعدة تابعة لحفتر جنوب طرابلس، واعترفت فرنسا بملكية تلك الصواريخ نافية «قابليتها للاستخدام»، وإذا لم تستخدم فعلا، فإن غيرها من الأسلحة المتطورة وصلت دون شك إلى الحدود الجنوبية لليبيا.
استراتيجية شاملة
لا يشكل مقتل الإرهابي دروكدال أوغيره من قادة ما يسمى «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، فارقا في الحرب على الإرهاب بالمنطقة، لأن هذا التنظيم يعيش أصلا حالة وهن وانحسار منذ 2011. وتجري منذ 2014، عملية تبادل للأدوار بينه وبين تنظيم داعش الإرهابي. وأكثر الهجمات دموية ضد جيوش مالي والنيجر وبوريكنافسو، ومنذ نصف الثاني من سنة 2019، نفذها ما يسمى تنظيم داعش (الإرهابي) بالصحراء الكبرى.
إن تنامي قوة تنظيم داعش الإرهابي في منطقة الساحل الإفريقي، ليست بالأمر بالمفاجئ، فقد توقعت جميع هيئات الاتحاد الإفريقي وبالأخص مجلس السلم والأمن، هذا الوضع منذ سنة 2016، حين أعلنت عن وجود مخطط ترحيل حوالي 6000 إرهابي من سوريا والعراق إلى إفريقيا.
وكان مفوض مجلس السلم والأمن الإفريقي إسماعيل شرقي، قد تساءل شهر فيفري الماضي في حوار لوكالة الأنباء الجزائرية، «عن سهولة الوصول المكثف لعناصر من تنظيم داعش الإرهابي إلى منطقة الساحل».
وتساءل أيضا عن « انتشار الأسلحة وتطور طرق عمل الهجمات الإرهابية وسهولة اختراق الحدود واستغلال أعمال العنف بين المجموعات العرقية من قبل مجموعات إرهابية».
وخلص شرقي، إلى أن الحرب على الإرهاب باتت تتطلب إلى استراتيجية جديدة، تراعى فيها جوانب أكثر شمولية، منها انخراط أقوى لجيوش الدول الإفريقية وتنويع الشركاء الأجانب في بناء القدرات القتالية، ومساعدة الحكومات على إرساء قواعد الحكم الراشد وتحقيق الاستقرار السياسي.