الدكتور أفلح بهون علـي يفكّك النّزعـة الدائمـة نحو إعادة تشكيـل المفاهيـم المعرفيـة
استقراء نقـدي جدلي لأهــــمّ الثّورات الفكرية بالضفة الغربيـة
الحداثـة..لحظـــة تأسيسيـة وتحوّليـة في الفكر الغربــي.. مشبّعــة بــروح ثـوري لا يهــدأ
احتضنت قاعة المناقشات بكلية اللغة العربية وآدابها واللغات الشرقية ـ جامعة الجزائر 2 - حدثا أكاديميا لافتا، بحضور جمهور غفير من الطلبة والأساتذة ومتتبعي الشأن العلمي، تمثل في مناقشة أطروحة دكتوراه تقدم بها الباحث أفلح بهون علي، موسومة بعنوان: “الانقلابات الكبرى في العقل الغربي: جدل الدين والفلسفة والعلم والفن”. وقد جاءت هذه الأطروحة لتفتح عهدا جديدا أمام الدراسات، وهي تضع العقل الغربي تحت مجهر الدرس، بعد أن ركّز الفكر العربي - منذ النهضة - على دراسة ذاته المفكرة في ضوء المنتج الغربي، لم يحد عنه، ما أنتج سلسلة من الرؤى نهجت - في معظمها - نحو مطابقات المسارات التاريخية، دون اعتبار للاختلافات بين الضفتين العربية والغربية، ما يجعل دراسة العقل الغربي اليوم، سابقة فكرية عربية، تسعى إلى فهم طبيعة التحولات الفكرية التي طبعت مسيرة العقل الغربي، من خلال استقراء نقدي وجدلي لأهم الثورات الفكرية التي شهدها هذا المسار المعقد والمتعدد الأبعاد.
جلسة المناقشة التي استمرت على مدى تجاوز خمس ساعات، سيّرتها لجنة ترأسها الأستاذ الدكتور نذير بوصبع، الأستاذ الدكتور عبد القادر بوزيدة مشرفا ومقررا، الأستاذ الدكتور كمال بومنير، الأستاذ الدكتور رشيد كوراد، والأستاذة الدكتورة ويزة غربي.
في مستهل عرضه، قدّم الباحث أفلح بهون علي ملخصا شاملا عن أطروحته، وأبرز الإشكالية المركزية التي انطلق منها، والأهداف العلمية والفكرية التي سعى إلى تحقيقها، كما عرض الأدوات المنهجية التي اعتمدها، والمراجع النظرية التي دعم بها عمله الأكاديمي، مؤكدا على الطابع الجدلي والنسقي الذي اتخذه مسار العقل الغربي في انقلابه المستمر على نماذجه التفسيرية.
روح الحداثة وانقلابات الفكر
أشار الباحث أفلح بهون علي إلى أنه انطلق من ملاحظة مركزية مفادها أن الحداثة، بوصفها لحظة تأسيسية وتحولية في الفكر الغربي، مشبعة بروح ثورية لا تهدأ، هذه الروح - كما يرى - تتمثل في نزعة دائمة نحو التغيير والقطيعة مع الماضي، ما يجعل من العقل الحداثي عقلا متقلبا لا يستقر على حال، فهو دائم التجدد، قائم على النقد والهدم وإعادة البناء، وأضاف أن ما يميز هذا العقل هو قابليته المستمرة لإعادة التشكيل والتنظير والتجاوز.
غير أنّ الباحث لا يذهب إلى اعتبار كل “انقلاب فكري” قطيعة تامة، بل يرى أن الانقلاب، في عمقه، لا يخلو من تأصيل جديد لمنطق مغاير يُعيد تشكيل المفاهيم والأطر. فعندما تعجز النماذج السائدة (الباراديغمات) عن الاستجابة لتحولات الواقع وأسئلته، يظهر نموذج جديد يعيد توجيه الفكر، في دورة مستمرة من النقد والتجاوز. وهذا - كما يؤكد - ليس طارئًا أو عابرًا، بل سمة أصيلة في تكوين العقل الغربي ذاته، الذي يتغذى على الانقلاب والتجاوز بوصفهما محركين أساسيين في مسيرته.
تناول أفلح بهون علي، كذلك، الفرق الجوهري بين “العقل” و«الفكر”، معتبرًا أن العقل يمثل الآليات المنتجة للمعرفة ضمن شروط ثقافية وتاريخية معينة، بينما الفكر هو نتاج تلك العمليات. ومن هذا المنطلق، يطرح الباحث تساؤلات إشكالية حول إمكانية وجود عقل غربي وآخر شرقي، وهل تختلف العقول بتعدد الحضارات؟ في إجابته، يرفض أي تفسير بيولوجي أو عنصري، ويؤكّد أن العقل ظاهرة اجتماعية - تاريخية، تنشأ وتتشكل ضمن شبكة من التصورات والمعتقدات واللغات والرموز التي تنتجها كل حضارة.
ومن هنا، تفتح الأطروحة مجالا واسعا لتأمل نظرة الغرب المتغيرة إلى مفاهيم كبرى مثل الله، والطبيعة، والمجتمع، والتاريخ، والفن. ويستعرض الباحث محطات أساسية في تطور الفكر الغربي، منذ بداياته اليونانية، مرورا بالقرون الوسطى، فعصري النهضة والأنوار، وصولا إلى العصر الحديث، حيث اكتمل تشكل الشخصية الغربية الحديثة بفعل الثورات العلمية والسياسية والثقافية الكبرى.
وفي هذا السياق، شدّد الباحث، على أن هدف أطروحته لا يتمثل في تقديم عرض شامل للفكر الغربي، بل في تحليل مفاصل الانقلاب التي شكّلت وعيه، واستكشاف مدى تأثير هذه التحولات على العقل العربي الحديث في تفاعله مع الغرب.
“الانقلاب” كإطار مفهومي
اعتمد الدكتور أفلح بهون علي في أطروحته خطة بحث محكمة، وزع من خلالها الإشكالية على فصول متكاملة، حيث افتتح عمله بفصل مفاهيمي تأسيسي، خصّصه لتعريف “الانقلاب” بوصفه مدخلا لفهم دينامية المعرفة الغربية، وهو مفهوم يتجاوز الدلالة السياسية ليحيل على التحولات العميقة في البنية الفكرية والعقلية للحضارة الغربية. الانقلاب هنا لا يعني القطيعة الكلية مع الماضي، بل يشير إلى لحظة انكسار أو مفترق طرق تاريخي، يتم فيه الانتقال من نموذج معرفي إلى آخر.
وقد استند في هذا الفصل، إلى أعمال فلاسفة وعلماء كبار، مثل غاستون باشلار، وتوماس كون، وكارل بوبر، وألكسندر كويري، وبول فييرابند، الذين تحدثوا عن “القطائع الإبستيمولوجية” و«الثورات العلمية” و«تغير الباراديغمات”، باعتبارها لحظات تأسيسية تعيد تشكيل الفكر والواقع معًا. فالحداثة، كما يرى الباحث، ليست مجرد فترة زمنية بل هي عقل في حالة هدم وبناء دائمين، عقل لا يستقر على حال، يتمرد على الثبات ويسعى دومًا لتجاوز ذاته.
ويرى بهون علي أنّ فكرة “الانقلاب” تكشف عن بنية داخلية للعقل الغربي، وهي بنية نقدية وجدلية بالأساس، تتغذى من التوتر بين الدين والعقل، بين اليقين واللايقين، وبين الثبات والحركة. لذا فإن التحولات التي عرفها هذا العقل لم تكن عرضية أو متفرقة، بل تعبير عن منطق داخلي يُعيد ترتيب عناصر المعرفة والعالم كلما شعر بانسداد في الأفق المعرفي أو الوجودي.
مـن الكينونة إلى الصـيرورة.. التّحوّلات الكبرى في الفكر الغربي
تناول بهون علي في الفصل الثاني، المراحل التاريخية الكبرى التي عرف فيها العقل الغربي تحولات جذرية، مبرزًا كيف انتقل هذا العقل من مركزية الكينونة إلى دينامية الصيرورة. البداية كانت مع الفلسفة الإغريقية، التي اعتبرها الغرب منبع العقلانية، نظراً لاعتمادها على التفكير الحر ونقد الأسطورة، غير أن هذا المسار العقلاني تعرّض للجم خلال العصور الوسطى بفعل هيمنة الكنيسة، التي فرضت نظرة دوغمائية للوجود والمعرفة.
وقد بين كيف أن الفكر المسيحي أعاد صياغة المفاهيم اليونانية داخل منطق لاهوتي، فتم إقحام العقل في خدمة العقيدة، وهو ما أدّى إلى انسداد معرفي طويل استمر لقرون. إلا أن هذا الوضع لم يدم، إذ بدأت إرهاصات التغيير في نهايات القرون الوسطى مع بروز التيارات الإصلاحية ونزعات التأويل العقلي، التي مهّدت لعصر النهضة.
ومع حلول عصر الأنوار، تسارعت التحولات الفكرية الكبرى، حيث بدأ العقل الغربي في التخلص من الأنساق التقليدية، ليؤسس لنظرة جديدة إلى العالم قائمة على الحرية، العقل، الفرد، والتقدم. وقد بيّن الباحث أن هذه النقلة النوعية لم تكن معزولة، بل ترافقت مع ثورات في مجالات أخرى كالعلم والسياسة والفن، مما يجعل “الانقلاب” سمة شاملة تطال الوجود الغربي بأكمله.
ولادة العقل الكوني
خصص أفلح بهون علي الفصل الثالث لتسليط الضوء على تأثير الثورات العلمية في إعادة تشكيل النظرة إلى الكون والإنسان والمعرفة. انطلقت هذه الثورات من الاكتشافات الفلكية التي قادها كوبرنيك، وغاليليو، وكبلر، لتبلغ ذروتها مع نيوتن الذي أسس لكون آلي يمكن تفسيره وتنبؤه رياضيا.
وقد أدّى هذا التحول - بحسب بهون علي - إلى فصل الطبيعة عن المقدّس، وجعل الكون يُقرأ في ضوء قوانين عقلية صارمة، مما منح الإنسان شعورا جديدا بالقدرة والهيمنة، وأسّس لما عرف بالعقلانية العلمية. ثم جاءت الفلسفة الحديثة لتواكب هذا التغير، فظهرت نزعات عقلية صارمة مع ديكارت وكانط وهيوم وهيغل.
غير أنّ هذه المنظومة العقلانية ستُعاد مساءلتها مع بروز فيزياء النسبية والكوانتم في القرن العشرين، حيث فقدت المفاهيم الكلاسيكية مثل الحتمية، الموضوعية، والسببية مركزيتها، وبدأت مفاهيم جديدة كاللايقين، التعدد، والنسبية تفرض نفسها. وقد رأى الباحث أن هذه الانقلابات المعرفية عمّقت أزمة المعنى، وأعادت طرح الأسئلة الكبرى حول العقل والوجود والزمان، ما مهّد الطريق لظهور فكر ما بعد الحداثة.
اللاوعي الحديث واللسانيات الحديثة
وركّز الباحث في الفصل الرابع على انتقال الانشغال المعرفي من العلم إلى اللغة، حيث بدأت الأخيرة تكتسب مركزية جديدة باعتبارها الحامل الخفي للمعرفة، والوسيط الذي تتشكل من خلاله رؤيتنا للعالم. وقد بيّن الباحث كيف أن التحولات الإبستمولوجية التي عرفها القرن العشرون، خصوصًا مع صعود البنيوية واللسانيات الحديثة، جعلت من اللغة بنية مستقلة، تنطوي على نظام داخلي من العلاقات، لا يرتبط بالوعي الفردي بل بالبنيات الجماعية العميقة.
واستعرض أفلح، إسهامات مفكّرين كفردينان دو سوسير، ناعوم تشومسكي، ميخائيل باختين، وهمبولت، وهيغل، ليبيّن كيف أن اللسانيات أصبحت علمًا دقيقًا يطمح إلى فهم اللغة كبنية عقلية وثقافية في آن واحد. وقد تطورت هذه الرؤية لتشمل التأويلية والفلسفة التحليلية ونظريات الخطاب، مما عمّق الطابع البنيوي والتأويلي للمعرفة المعاصرة.
كما أكّد أن هذا التحول من العلم إلى اللغة لا يعني القطيعة مع العلم، بل إعادة تموضع للمعرفة، حيث أصبحت اللغة ساحة للصراع المعرفي، ومجالًا لفهم كيفية تشكّل الحقيقة، وبالتالي موقعًا جديدًا للانقلاب الفكري.
تفكّك العالم القديم وبناء الإنسان الجديد
أما الفصل الأخير، فقد تطرّق فيه الدكتور بهون علي إلى الانعكاسات الوجودية والاجتماعية للانقلابات الفكرية التي عرفها الغرب، حيث رصد تفتت المركزيات الكبرى، وانهيار الأنساق المغلقة التي كانت تُؤطّر الحياة والمعنى. مع نشأة الدولة الحديثة، وتقدّم الرأسمالية، وتفكك الروابط التقليدية، ظهرت أزمات وجودية وفكرية مست الحياة الغربية في عمقها.
ولقد ناقش كيفية ظهور التيارات الفنية والفكرية المتعددة، من الرومانسية والوجودية إلى البنيوية والتفكيكية، والتي تسعى كلها إلى استعادة المعنى أو إعادة بنائه، في عالم يتسم بالتشظي. كما توقّف عند تحولات مفهوم “الإنسان”، الذي لم يعد يُنظر إليه كمركز للكون، بل ككائن هش، مفتوح على اللامعنى، خاضع لخطابات متعددة.
ورأى أن هذا الوضع الجديد، رغم أزماته، يفتح إمكانات جديدة للفكر، قوامها الاعتراف بالتعدد، والانفتاح على الآخر، وتجاوز النزعة المركزية الغربية نحو عقل كوني مشترك، عقل يحترم الخصوصيات دون أن يسقط في فخ النسبوية المطلقة.
عقب العرض، فتح رئيس الجلسة باب المناقشة أمام أعضاء اللجنة الذين نوهوا بعمق التحليل وتماسك البناء المعرفي، وأشادوا بقدرة الباحث على الربط بين قضايا متشابكة ضمن نسق فلسفي واضح، كما أشاروا إلى بعض الملاحظات التي من شأنها أن ترفع من مستوى العمل عند تحويله إلى نشر علمي أو طباعته كمرجع أكاديمي.
وفي ختام المناقشة، وبعد المداولات، قررت اللجنة، بالإجماع، منح الباحث شهادة الدكتوراه في قضايا الأدب والدراسات النقدية والمقارنة، بتقدير مشرف جدًا، مع التوصية بالنشر، ليكون هذا العمل مساهمة نوعية في الحقل الفلسفي العربي المعاصر.
للإشارة، فإن المشرف على أطروحة الدكتور أفلح بهون علي، هو الأستاذ الدكتور عبد القادر بوزيدة، قامة علمية سامية، معروف بورعه المعرفي، وإحكامه العلمي، ويُشهد له أن جميع الأطروحات التي أشرف عليها تقدم الإضافات الرصينة للساحة النقدية العربية.
ولقد عبّر العديد ممّن تابعوا أطوار المناقشة عن إعجابهم بالمستوى العلمي الرفيع للنقاش الذي شهدته قاعة كلية اللغة العربية وآدابها واللغات الشرقية، معتبرين أن هذا الإنجاز إضافة نوعية للبحث العلمي الجزائري والعربي على السواء، ويعكس جدية الباحث، وجدية الجامعة في تشجيع البحث والتميز الأكاديمي.