المدقق في جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، يجد نفسه أمام نوع جديد من التقتيل والإبادة الجماعية لشعب أثبتت الوثائق التاريخية أن 90٪ منه يكتب ويقرأ ويحسب. جرائم ضد الإنسانية استمدت شرعيتها من ثالوث الشر المتكون من رجال الدين، العلماء والسياسيين، اجتمعوا كلهم لتحقيق هدف واحد هو إبادة أبناء الأرض لزرع أوروبيين في دولة لا تعترف إلا بجذورها، وهي حقيقة فلسفة السياسة الاستيطانية للمستعمر الفرنسي التي شكلت جوهر تدخل البروفيسور محمد رزيق بكلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
أول ما افتتح به البروفيسور محمد رزيق مداخلته المعنونة بـ “فلسفة الاستعمار من ارتكاب الجرائم”، في منتدى نظمته مؤسسة “الشعب”، بالتنسيق مع المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954 في الذكرى 77 لمجازر 08 ماي 1945، بتصحيح تسمية الاستعمار الفرنسي بالاستدمار، لأنها الكلمة الأصح والأدق لوصف ما قامت به فرنسا في الجزائر. فمن الخطأ تسميته بالمستعمر، لأنه لم يعمر ولم يبْـن بل خرب وأحرق ودمر وأباد، بالرغم من رفعها حجة الرسالة الحضارية لتبرير تواجدها على الأراضي الجزائرية.
كائن خبيث
لاحظ البروفيسور، أنه يكفي أن نعلم أنها عندما دخلت الجزائر وجدت معظم الجزائريين يكتبون ويقرأون ويحسبون ذكورا وإناثا، بدليل أن اللجنة الإفريقية التي أسستها فرنسا في 1833 والتي تضم جنرالات ورجال فكر وسياسيين، قالت “أينما توجهنا إلا ووجدنا أن الجزائريين يقرأون ويكتبون بنسبة تتجاوز 90 ٪«، لكنها عند خروجها من الجزائر بعد 132 سنة تركت وراءها مجتمعا يغرق في أمية وظلام دامس، لأن التعليم كان مقتصرا على الفرنسيين وأبناء “الحركى” و«القيّاد”، فأولاد الشعب كانوا يحضرون نفسيا للأعمال اليدوية والشاقة، والدونية كـ “الرعي” و«يخمّس” عند المعمرين.
«كيف يفكر المستعمر؟”، سؤال طرحه رزيق في مداخلته ليجيب قائلا: “الاستعمار كائن خبيث”، فعندما نتحدث عن الدول، بحسبه، نصفها بأنها كيانات، لذلك فالاستعمار الفرنسي كائن يفكر وفق منطق “لا نستطيع فهمه أو استيعابه”. فالتاريخ يعلمنا أن الجزائريين كانوا مشدوهين أمام ما تقوم به فرنسا من جرائم ضدهم، وكانوا في حيرة وتعجب، لأنهم “لم يألفوا هذا النوع من الحروب”.
لأن تلك التي تعودوا عليها هي حروب الفرسان مضبوطة بأخلاق وشهامة الفارس لا غدر فيها ولا خيانة، لكن الاستعمار الفرنسي كانت إبادة، حرقا، تقتيلا، بتر الأطراف وبقر بطون الحوامل واستخدام الكلوروفيل و«النابالم “والأسلحة الذرية والكيماوية، فما وقع شيء من الأسلحة في أيديهم إلا واستخدموه لتحقيق أطماعهم الاستيطانية المبنية على سحق أبناء الأرض وإبادتهم و«زرع” شعب جديد من الأوروبيين.
وحتى نفهم سبب تخلي الفرنسيين عن إنسانيتهم في تعاملهم مع الجزائريين، علينا أن نعرف الأساس الفكري لسياسة الاستيطان الفرنسي في الجزائر، لذلك كشف البروفيسور أن الاستعمار كان يستمد شرعية ما يقوم به من جرائم يندى لها جبين الإنسانية من الثالوث الميكيافلي المتكون من رجال الدين، العلماء على اختلاف تخصصاتهم ورجال السياسة، وهو ما جعل منه ثالوثا شيطانيا لم يترك أي وسيلة إلا واستخدمها ضد الجزائريين.
«ثالوث الشيطان”
أول طرف في هذا الثالوث هم رجال الدين. قال رزيق إنهم اعتمدوا الفكر المسيحي الغربي للكنيسة التي كانت تصف الأفارقة والآسيويين بأنهم ليسوا بشرا، بل هم أقل مرتبة منهم، سكنهم الشيطان لعدم إيمانهم بالعقيدة المسيحية والثالوث المقدس، ومن دخلهم الشيطان، حسب معتقدات الكنيسة في القرون الوسطى، يجب حرقه، وهو ما يفسر ما قامت به فرنسا في محرقة غار الفراشيش في 19 جوان 1845 ومذبحة الأغواط في 21 نوفمبر 1852، والظهرة وكل ما قاموا به وفعلوه في مجازر 8 ماي 1945.
رجال الدين -إذاً- كانوا يقدمون “الفتوى” أو المبرر الديني لما يقوم به المستدمر من جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية للشعب الجزائري على مدار 132 سنة، بل كانوا دائما بمثابة “الظل” لأصحاب القرار من سياسيين وعسكريين كانوا يقررون مصير المجتمعات المحتلة من طرف القوى الاستعمارية.
أما الطرف الثاني من ثالوث الشر، فهم العلماء على اختلاف تخصصاتهم، حيث يدرس علماء الانثربولوجيا الشعوب دراسة مستفيضة في تاريخها وجغرافيتها وعاداتها وتقاليدها وكذا الدين والفكر والسلوك، ليمنحوا السياسي ورقة يضعونها في يديه ليعرف كيف يتعامل مع هذه الشعوب، حيث نادوا بشعار “جوّع كلبك يتبعك”، فإن اختار الشعب مقاومة المستعمر ما على السياسيين سوى تجويعه لإرغامه على الاستسلام. وأعطى البروفيسور مثال الصيدلي بوديشو، الذي قال إن التعامل الوحيد مع الجزائريين هو العصا.
ولم يسلم الطب من التحيز لصالح المستعمر، فقد سخرت فرنسا الطب لأطماعها الاستيطانية، من خلال إثبات أن عقول الشعوب الأخرى أصغر من عقل الرجل الأبيض، فقد قسموا الشعوب إلى جنس أصفر وأسود وأبيض، كل له مواصفاته؛ وصفوا الأول بأنهم أغبياء وحمقى والثاني يحسن الرقص والثالث فخلق ليقود الشعوب والعالم، وهنا جسد الرجل الأبيض العنصرية في أتعس صورها، أما بقية العلوم فتصب كلها لخدمة الاستعمار، أما السياسي والعسكري فيقومان في المرحلة التالية بتنفيذ هذه الأفكار التي يروجها رجال الدين وعلماء الاستعمار على ارض الواقع.
أما الطرف الثالث فعادة ما يطلع السياسي على تقارير ودراسات للقيام بتحليل ووضع الخطط، وقد كتب الكسيس دوتوكفيل كتابا عنوانه “الديمقراطية في أمريكا” (1835 - 1840م). أما الجزائر فكتب فيها ثلاث أعمال، تكلم فيها عن ضرورة إبادة هذا الشعب ومعاقبته وحرق مزروعاته، لأنه شعب لا يفهم إلا بالعصا.
أما العسكري الفرنسي عند قراءة تاريخهم ليسوا رجال فكر، بل هم يبحثون عن تعليق النياشين، لذلك هم مستعدون لفعل أي شيء لبلوغ غايتهم، فمعظم الجنرالات والماريشالات وبعضهم أصبح رئيسا لفرنسا عندما قدم إلى الجزائر كان مجرد جندي بسيط ترقى لدرجة ماريشال كالجنرال يوسف، بيجو، دومنتانياك، ميسيي، سانت آرنو، روندن، ماكماهون، فقد رقتهم إلى رتب سامية بإبادة الشعب الجزائري وسحقه، وقتله وكانوا يتفنّنون حيث قال الجنرال دومنتانياك يروي ما يقوم به في المعارك في رسائل يرسلها لأقاربه في فرنسا، متحدثا فيها عن أبشع صور الجرائم التي قام بها ضد الجزائريين في مختلف مناطقها، لدرجة انه قال انه أصبح كلما ينام يرى نفسه دبا، لكن هذا الوحش الذي قتل وذبح الجزائريين قضى عليه الأمير عبد القادر في معركة سيدي إبراهيم بتلمسان سنة 1845.
وأشار البروفيسور، إلى أن الاستدمار اعتمد هذه الفرضيات التي تحولت إلى نظريات ثم إلى حقائق علمية مثبتة ليطبقها في الجزائر، لأنها موجهة خاصة ضد الشعوب المقاومة الرافضة للاستسلام كالشعب الجزائري، فإلى اليوم يتحدث اليمين المتطرف عن المسلمين والعرب بنفس لسان الجنرالات الفرنسيين الذين أبادوا الشعب الجزائري، فالعنف بالنسبة لهم هو اللغة الوحيدة التي تفهمها الشعوب المسلمة والعرب.
علاقة عضوية
أكد البروفيسور وجود علاقة عضوية بين العالم المثقف والسلطة وهنا السلطة بمعنى الدولة، فالدول اليوم سواء المحترمة أو الكبرى أو على الأقل الدول الصاعدة، السياسي فيها لديه جيش من العلماء يؤازرونه ويفيدونه بالدراسات والتقارير والملخصات، أما عندما تنفضّ هذه العلاقة وتصبح غير موجودة يحدث الارتجال، لهذا دعا في كل ما يكتب وفي كل المنابر أن “أيها الحكام والسياسيون لديكم جيوش من الأساتذة والباحثين لم تفتح لهم الباب ليظهروا عبقريتهم”.
وذكر بما قام به كيسنجر وزير خارجية أمريكا ومسئول الأمن فيها، فهو في الأصل أستاذ الجامعي تمت الاستعانة به، وبفضله انتصرت إسرائيل على العرب، وهو من صنع أزمة الصحراء الغربية لمنع الجزائر من الانطلاقة، هي مشكلة وضعتها أمريكا والدوائر الإمبريالية لوقف تقدم الجزائر، لأن المغرب يعرف انه لا يملك أي علاقة تاريخية ولا عضوية مع الصحراء الغربية، فلم تطلق رصاصة واحدة من 1884 إلى 1975 على الصحراء الغربية، فلما خرج الإسبان قالوا إن الأرض أرضهم، موضحا أن السياسي يستنير ويسترشد ويأخذ من العلماء لمعرفتهم أدق التفاصيل.