في كثير من الأحيان تجهل الأم الدور الملقى على عاتقها في زرع حب الوطن داخل أبنائها ليكون الوفاء والإخلاص معنيان يتحّدان في مفردة «وطن» فعندما تردّد «الأم» على مسامع أبنائها الثلاثة الذي لا يتعدى سن أكبرهم التسع سنوات أن لا معنى لكلمة «وطن» بل هناك «الله» هي بذلك تهدم معالم الشعور بالانتماء لديهم وتحوّلهم -ان استمرت في ذلك- مع مرور الوقت الى رجال ولاءهم الأول لفكرة أو «عقلية» أو انتماء، وهذا بالضبط ما يخلق شرخا بين هؤلاء الأطفال وجزائريتهم لدرجة أنهم يعتقدون أنها أرض يعيشون عليها ويشبهونها بفندق تنتهي علاقتهم به بانتهاء مدة إقامتهم فيه.
عندما سمعتها تقول «لا وجود لوطن بل حق هو الله» تفاجأت بل لنقل أنني صدمت لأنها ابنة عائلة مجاهدة منذ بداية المقاومات الشعبية في الجزائر، عدد شهداء الثورة من تلك العائلة كبير لدرجة أنك أينما مشيت في المنطقة التي ينتمون إليها تجد مدرسة أو شارع أو مؤسسة ثقافية باسم أحدهم، استغربت لدرجة أنني أوقفت النقاش لأن اختلافنا أصبح جوهريا ولا يمكن متابعته بتلك الصيغة فالجزائر أكبر من ان نختزلها في محل إقامة أو مجرد اسم لمحيط جغرافي، لأنهاالأم والانتماء والأصل ولا وجود لنا بدونها.
ما أخافني فيما قالته أو علمته هذه الأم لأبنائها هو ان البديهية التي تحاول زرعها داخلهم هي نفسها التي جعلت من الجزائري في التسعينيات آلة موت متنقلة فأول درس لُقّن للمغرر بهم عنوانه « الله قبل الوطن» وهذا بالضبط ما يجعلهم يشعرون يقينا أنهم لا ينتمون الى هذه الأرض الأمر الذي اقتلعهم من أسرهم وعائلاتهم ليتحول مع هذا الاجتثاث من الأصل الأخ والاب والام والأخت الى أعداء ولنا في تلك القصص التي نسمعها عن سنوات العشرية السوداء خير دليل على ذلك فلولا التلاعب بالعقول لما قتل الأخ أخاه و لا أخذ أخته أو والدته عنوة وتحت تهديد السلاح لتكون «سبية حرب».
قد يظن البعض ان هذه السيدة متشددة ومتعصبة دينيا، لكنها في الحقيقة ليست كذلك بل هي ممن يؤمنون بإسلام «ميمونة» (ميمونة تعرف ربي، وربي يعرف ميمونة) الإسلام عندها بهذا القدر وفقط في الصيف هم على شواطئ سيدي فرج يسبحون أما يوم الجمعة في المسجد يصلون، التشدّد هنا أعمق وأخطر لأنه يوقظ داخلنا النعرات يتحوّل الوطن معه الى شيء لا علاقة له بأرض قدمت من أجلها قوافل من الشهداء اختلطت دمائهم دون ان نميز عند جريانها بين هذا وذاك...ما اذهلني انها من النخبة ولا يمكن ان تسقط في مثل هذه الترهات التاريخية وان تكون فريسة سهلة للفخ الذي نصبته السلطات الاستعمارية منذ ان وطئت اقدام جنودها أرض الجزائر بغرس الجهوية بين أبناء الوطن الواحد لتفرقنا وتحولنا الى مجرد أقليات لكل واحد منها انتماؤها القومي والسياسي.
الغريب ان هذه الأم غير واعية للدمار الذي تحدثه على شخصية أبنائها لأنها لم تتوقف عند «لا وطن بل حق هو الله» فهي انتقلت الى مرحلة ثانية أخطر هي ان كل من يخالفها هو خائن ،...نعم قالتها لأكبر أبنائها «ذلك شخص خائن و لا أقرباء لكم في هذا المكان» ما يعني انها ترفض قرابة من لا يتفق معها، وهو نفس الشيء الذي حدث قبل سنوات عندما أصبحت القرابة تقاس بـ» درجة الايمان»، علينا ان نعي ان الجزائر تحتاج الى من يغرس بذرتها في قلوب أبنائها منذ نعومة أظافرهم، كما فعلت جداتنا من قبل و لولا ذلك لما كنا اليوم نقرأ على بطاقتنا الشخصية «جنسية جزائرية» بل «أنديجان».
...على الأم ان تدرك الهاوية التي نحن اليوم على حافتها...عليها ان تقتنع ان السقوط داخلها لن يستثني أحدا منا لأننا وان أنكر البعض جزائريون ولن نكون غير ذلك ولنا فيما يعانيه الجيل الثالث من المهاجرين الى فرنسا من اذلال على ارض ظنّوها منذ صغرهم انها وطنهم لكنهم وجدوا أنفسهم فرنسيون من درجة ثانية لأن أصولهم جزائرية مسلمة و «الفاهم يفهم».