مازالت الثورة التحريرية المجيدة تعطي أمثلة في البطولة و الصمود، وتأبى النسيان الذي طال البعض من مآثرها البطولية الخالدة حيث تخرج أوراقها الواحدة تلو الأخرى، و تكشف عن أسرارها ومكنوناتها التي تجعلها إحدى أعظم ثورات العصر الحديث، فمليون ونصف مليون شهيد عربون السيادة و الاستقلال و تضحيات الشعب الجزائري و كفاحه المرير ضد الامبريالية و الاستعمار، لا يمكن إلا أن تكون وساما فخر للشعب الجزائري .
هذه الثورة المباركة ما انفكت تفاجئنا بأمجاد هذا الشعب و بعبقريته و إخلاصه لهذا الوطن المفدى، فإذا كانت أجيال الاستقلال تنعم بالحرية وخيرات البلاد اليوم فالفضل كل الفضل يعود لرجال وهبوا أنفسهم فداء للوطن و سقوا هذه الأرض الطيبة بدمائهم الطاهرة، و رغم ما جادت به قرائح الشعراء و الأدباء في التغني بهذه الثورة وتمجيد رجالاتها والجدل الذي كثيرا ما أثارته بطولات هذا الشعب، تبقى هذه الثورة صناعة جزائرية خالصة قد لا تستنسخ مثيلات لها في العالم، و مهما اطلعنا التاريخ عن مآثر هذه الثورة و تضحيات رجالاتها العظماء، إلا أن الأيام والسنين لا تكاد تتوقف عن الكشف عن أسرار أخرى ثمينة يحتفظ بها بعض المجاهدين هنا وهناك في كل أنحاء الجزائر .
بحسرة شديدة وألم كبير يروي المجاهد «سي محمد «رامول «، تفاصيل تلك المأساة التاريخية التي ستبقى وصمة عار في جبين الاحتلال بمنطقة حمالة التابعة حاليا لولاية ميلة .. تفاصيل الحادثة الجهنمية لتدمير كهف جبل «الساما» بأعالي منطقة هباشة على الحدود بين ولايات ميلة وسكيكدة وجيجل على رؤوس وأرواح آدميين ذنبهم الوحيد أنهم آمنوا بوطنهم و ناضلوا من أجل حقه في استعادة السيادة الوطنية عليه مهما كلفهم ذلك من تضحيات جسام، وبذاكرته القوية التي لا تزال تحتفظ بأدق التفاصيل يستعيد المجاهد رامول أطوار تلك الجريمة النكراء التي ذهب ضحيتها أكثر من 60 شهيدا ذات يوم من العام 1957.
ما القصة الدرامية التي أزاح عنها اللثام أحد المجاهدين بولاية ميلة، وهو المجاهد أرجم رامول المعروف بـ «سي محمد» إلا نزر قليل من أسرار ثورة نوفمبر المجيدة التي لا تزال تحتفظ بالكثير من الخبايا، عمي محمد رامول هذا المجاهد الذي انخرط في صفوف جيش التحرير الوطني في سن مبكرة و عمره لا يتجاوز 20 سنة رفقة شلة أخرى من أبناء المنطقة بهباشة، بلدية حمالة بميلة، يعد أحد أبرز المجاهدين بولاية ميلة و تركز نشاطه بالشمال القسنطيني. و أبلى البلاء الحسن إلى جانب ثلة من المجاهدين و بعض الشهداء الذين التحقوا بالرفيق الأعلى ليكون شاهدا على ثورة و أحداث دامية.
يتذكر المجاهد وعيناه تغرورقان دمعا « كنا نقيم بدوار «عين أم النسور»، بأعالي مشتة هباشة بحمالة وكانت والدتي تحضر لي «الكسرة» للمجاهدين فإذا بها تلمح رتلا من الجيش الفرنسي، أخبرتني بذلك فاعتليت هضبة و راقبته و تأكدت أن الجنود الفرنسيين قادمون في مهمة البحث عن المجاهدين، فأخبرت الشهيد السعيد بلغريب بالأمر و نصحته بأن يرحل بكتيبته بعيدا، غير أنه أرسل إلي وطلب مني الالتحاق به إلى كهف «الساما» للاختباء هناك .
يضيف «سي محمد» نصحته بألا يتوجه إلى الغار وحاولت إقناعه لعدة اعتبارات، أهمها أنه من غير المفيد الدفاع من داخل الغار ثم أن الغار لم يعد ملاذا آمنا للمجاهدين بعد أن التحق أحد الخونة بالجيش الفرنسي، و قد سبق له أن اختفى في غار الساما و يعرفه جيدا، لكن القائد بلغريب، قال المجاهد رامول، تشبث بموقفه واستبعد قدرة كشف الاحتلال على الوصول إلى المخبأ وفي الوقت الذي توجه فيه رامول و بعضا من كانوا معه غربا بعيدا عن جنود الاحتلال، اختار بلغريب مضطرا أن يستقر بكهف الساما و معه ما يزيد عن 35 مجاهدا، بحسب تقدير سي محمد.
الإحتلال الفرنسي يكتشف أمر المتواجدين في الغار ويضرب حصارا لأكثر من 28 يوما
يواصل «سي محمد» رامول سرد تفاصيل تلك المجزرة التي سيبقى كهف «الساما»، معلما ثابتا شاهدا على مجازر الاستعمار وهمجيته أبد الدهر ويورث للأجيال مآثر الأجداد، قائلا: «لقد صادف توجه فرقة السعيد بلغريب للغار تدفق أكثر من 30 مدنيا على المكان قادمين إليه من مشتة تسمى « أندلو» بمنطقة المايدة التابعة إداريا لولاية سكيكدة، فرارا من بطش الاستعمار الذي قام بقتل و حرق و تدمير بالمنطقة في ذلك الوقت .
يواصل المجاهد رامول رواية الأحداث، بالقول: «علم الجيش الفرنسي بوجود مجاهدين ومواطنين مدنيين داخل الغار فراح يحاصر الكهف من الباب الرئيسي بينما لم ينتبه لوجود منفذ صغير من الجهة السفلى للغار وهو المنفذ الذي تسلل منه 4 مجاهدين وهم كل من رابح بومزبر و بشير ميموني و المولد بوزبرة، ليلا دون أن يعلم جنود الاحتلال بالأمر «، مضيفا: «حاولت ومن معي القيام بمسعى لفك الحصار المضروب على الغار بتوجيه عيارات نارية نحو الجنود الفرنسيين فكان الرد علينا قويا و نحن قلة لا يتجاوز عددنا الأربعة فأخذنا وجهة أخرى، وعندما حاول و لسوء الحظ عدد آخر من المجاهدين الذين كانوا بالغار التسلل نهارا و الإفلات من الحصار وقعوا في قبضة الجنود الفرنسيين الذين اكتشفوا أمر المنفذ الخفي بعد سقوط مجموعة من الأحجار محدثة ضجيجا ونبهت الفرنسيين لذلك «.
من بين من تم القبض عليهم قائد الفرقة السعيد بلغريب، و ثلاثة من مساعديه و الذين تم إعدامهم بجبل بونعجة القريب من جبل الساما. وقد زاد ذلك من إصرار الفرنسيين على القضاء على كل من كان بداخل الكهف السحيق الممتد على عمق يزيد عن 5 أمتار، و بمرور الوقت يقول محدثنا اكتشف الجنود الفرنسيون كل مداخل الغار، وقاموا بمحاصرته طيلة 28 يوما و قضوا على كل من كان بداخله بعد أن استخدموا مفجرات لتدمير الكهف بمن فيه فكانت الكارثة.
في هذه اللحظة تغلب الدموع المجاهد رامول، الذي يتأثر كثيرا و هو يسرد مشاهد تلك المجزرة مرددا «الله يرحم الشهداء»، هكذا نفذت فرنسا الاستعمارية همجيتها وبطريقة جبانة و بلا رحمة مارس الاستعمار الفرنسي كل أشكال الإبادة الجماعية في حق مواطنين عزل فروا بجلودهم من القتل الجماعي، و بهذه الطريقة البشعة حاولت فرنسا عبثا القضاء على الثورة .
يجب نقل رفات الشهداء الموجودين في الكهف بعد 51 سنة من الاستقلال
يتألم المجاهد رامول و يبكي مرتين، مرة حين يتذكر تلك المشاهد الرهيبة التي استشهد فيها أكثر من 60 شهيدا ما بين مجاهدين ومدنيين ومرة أخرى بسبب بقاء رفات أولئك الشهداء داخل الكهف، و قد مرت أكثر من خمسينية بأكملها على استقلال الجزائر، و هو ما يحز في نفس هذا المجاهد الذي يأمل أن يتوصل إلى نقل جثامين و رفات شهداء الكهف بعناية فائقة إلى روضات الشهداء، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم من شهداء الثورة الخالدين.
يحكي عمي رامول بأنه سبق له أن أعلم مديرية المجاهدين بولاية ميلة، وكل الهيئات المعنية بالأمر وتم الاتفاق على التنقل رفقة السلطات الولائية والأمنية والحماية المدنية من أجل الإشراف على عملية نقل الرفات، لكن يضيف «سي محمد « متأسفا أن تنقل اللجنة المكلفة بعملية نقل الجثامين والرفات نظمت في يوم كان فيه بالعاصمة في ندوة وطنية وهو ما حال دون التوصل إلى المكان، كون من رافقوا الوفد لا يعرفون المكان جيدا.
يجدد المجاهد رامول نداءه لكل السلطات و خاصة وزارة المجاهدين، من أجل إيلاء الأهمية اللازمة لرفات هؤلاء الشهداء ومعاودة التنقل لعين المكان من أجل إنجاح عملية نقل الرفات، وإكرام شهداء كهف الساما، مبديا استعداده ما دامت أحواله الصحية تسمح له بذلك.
هي إذن قصة تكشف من جهة سخاء المناضلين من أجل الحرية، في بذل الذات والتضحية بأغلى ما يملكون ومن جهة همجية استعمارية لا تعترف بأدنى حقوق الإنسان رغما أنها تدّعي ذلك في كل ما كان . شهداء كهف - الساما - ينتظرون جمع جثامينهم وإكرامها في روضات للشهداء وفي ذلك أقل حقوقهم علينا.
رحم الله الشهداء.