رجل من طينة السياسيين الكبار في الجزائر، كما لقّبه رفاقه ومن دعاة المصالحة خلال أزمة الإرهاب التي عرفتها الجزائر، كان ثوريا قوميا عروبيا له حنكة سياسية في تسوية الأزمات، ظل مناضلا ومفكّرا وقائدا يحظى بالاحترام والتقدير لدى رفقائه وخصومه على حد قوله، إنّه عبد الحميد مهري، الذي لا يخضع إلا لقناعاته السياسية، تقلّد مسؤوليات مزج فيها بين السياسة والثقافة والتربية، مضافا إليها تجربة ديبلوماسية كبيرة كسفير، كما قاد حزب جبهة التحرير الوطني لمدة ٨ سنوات في ظل أحلك الأزمات التي عرفتها البلاد.
لا يمكننا تفويت مناسبة استذكار الفقيد عبد الحميد مهري، فمواقفه السياسية ستبقى شاهدة على وطنيته الكبيرة، ودليلا على رصانته وتبصره في تحليل الواقع السياسي، وترك وراءه إحدى أهم مقولاته حول التغيير في الجزائر حين قال: «التغيير لا يأتي من فوق سواء كان سلطة أومعارضة»، وكان يعتبر أحد أبرز رجالات الإجماع الوطني في الجزائر، كما شارك في أول محاولة مصالحة من خلال التوقيع على اتفاق سانت إيجيدوبروما عام 1994، إلى جانب حسين آيت أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية وأنور هدام عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأحمد بن بلة أول رئيس جزائري بعد الاستقلال وآخرين.
انسحب مهري من الحياة السياسية منذ إزاحته من منصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عام 1996، لكنه بقي يناضل من أجل التغيير والتداول السلمي للسلطة إلى آخر أيامه من خلال المحاضرات والملتقيات التي شارك فيها، كما دعا إلى إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي قادر على حل مشاكل البلاد والإسراع بإزالة كل القيود التي تحول دون حرية التعبير أوتحد منها.
ولد الفقيد بتاريخ 3 أفريل 1926 بالخروب التابعة لمدينة قسنطينة، نشأ في وادي الزناتي حيث حفظ القرآن الكريم وتلقّى أولى دروسه، انخرط في صفوف حزب الشعب الجزائري ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية، اعتقل في نوفمبر 1954 وبقي في السجن حتى أفريل 1955. بعد أشهر عيّن ضمن وفد جبهة التحرير الوطني بالخارج، وشغل منصب عضو في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ثم في لجنة التنسيق والتنفيذ، عند تشكيل الحكومة المؤقتة شغل منصب وزير شؤون شمال أفريقيا في الأولى، ومنصب وزير الشؤون الاجتماعية والثقافية في التشكيلة الثانية.
عرف بمشروع يسمّى باسمه؛ هومشروع مهري للرد على مشروع ديغول، بعد الاستقلال عُيّن أمينا عاما لوزارة التعليم الثانوي 1965 - 1976، ثم وزير الإعلام والثقافة في مارس 1979 ثم سفير الجزائر في فرنسا 1984 - 1988 ثم في المغرب حتى استدعائه إلى الجزائر وتوليه منصب الأمانة الدائمة للجنة المركزية ثم منصب الأمين العام للحزب.
وأهم منصب تقلّده مهري كان منصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني بين 1988 و1996، نظرا للمرحلة الحسّاسة التي كانت تمر بها الجزائر التي دخلت التعددية السياسية، بعد 26 سنة من هيمنة حزب جبهة التحرير على الحياة السياسية. وبعد المؤامرة العلمية ضده التي كانت نتيجتها سحب اللجنة المركزية الثقة من مهري في 1996، إذ أصبح مناضلا بسيطا في القاعدة النضالية، كما شارك مهري على المستوى الإقليمي، حيث انتخب رئيسا للمؤتمر القومي العربي عام 2000.
بعد اندلاع انتفاضات الربيع العربي كتب مهري في فبراير 2011، رسالة إلى الرئيس بوتفليقة حول الوضع السياسي للبلاد وضرورة الاحتفال بخمسينية الاستقلال في ظل إصلاحات سياسية عميقة تفضي إلى تأسيس جمهورية ثانية.
توفي عبد الحميد مهري في 30 جانفي 2012 عن عمر يناهز 85 عاما بعد معاناة مع المرض لمدة أسابيع بمستشفى عين النعجة.