أدركت السلطات الاستعمارية منذ الوهلة الأولى من اندلاع الثورة أنّ الشعب سيكون السند المباشر لمن تصفهم بالمتمرّدين، وأنّها بقطعها للصلة بينهما ستختنق الثورة وينتهي الأمر، هذا ما أكده المجاهد مصطفى التونسي في حديث صحفي.
وأضاف المجاهد أنّه في صائفة 1955، شرعت الإدارة الفرنسية في ترحيل السكان من القرى والأرياف ومصادرة قطعانهم ومخزوناتهم من الحبوب لتجفيف منابع التموين المحتملة، وتجميعهم في قرى مطوقة ومحروسة محاطة بأسلاك شائكة غير بعيدة عن معسكرات جيش التحرير.
وفي هذا الصدد، قال مصطفى التونسي أنّ السكان وجدوا أنفسهم بعد عملية الترحيل القسرية خارج بيئتهم الطبيعية تحيط بهم المأسي من جميع الجهات، غير أنّهم لم يظهروا أي نقصان فيما يتعلق بمساندتهم للثورة بل ازداد تعاطفهم معها وتعلّقوا بها أكثر لأنهم يدركون عمق المأساة التي يعيشها المجاهدون بعد ترحيلهم، مشيرا إلى أنّ الاحتلال الغاشم أضرم النار في القرى ودمر منازل السكان بواسطة المتفجرات، لكي يمنع السكان نهائيا من العودة إلى قراهم ويضعوهم على حافة التشرد، ممّا حرّك الحمية الدينية وأججت الوطنية في نفوسهم العواطف القومية قال المجاهد وبخاصة لدى الأسر التي لم تتعرض لعملية الترحيل، فأظهرت هذه الأسر مزيدا من التكافل الاجتماعي للأسر المتضررة.
وفي هذا السياق، دائما أبرز المتحدث أن عملية الترحيل لم تكن وليدة ظروف أمنية تخص منطقة معينة بل هي قوانين استثنائية صادرة عن سلطة رسمية واعية، وهي ذات طابع خاص وبموجبها دخلت البلاد في حالة طوارئ منذ الثالث أفريل 1955.
وفي سنة 1956 تدعّم هذا القانون من خلال الصلاحيات الخاصة التي منحها رئيس الوزراء غي مولي إلى الوالي العام روبير لاكوست، فأعطى هذا الأخير وبموجب تعليمات صادرة عنه بتاريخ الـ 7 جوان 1956 المسؤولية الكاملة للجيش لإعادة استتباب الأمن، لكن قال مصطفى التونسي أن الشعب الجزائري سرعان ما تكيّف مع هذه الأوضاع المأساوية، واكتسب قدرا من المناعة سمحت له بان يتطلع من جديد إلى وسيلة تمكنه من أن يتقاسم العيش مع المجاهدين، شعورا منه بأن الكفاح مشترك والهدف واحد غايته الاستقلال الوطني.
وفي هذه المسألة، يؤكّد المجاهد في شهادته أن عملية ترحيل السكان من الريف نحو المحتشدات كانت مضرة بالثورة وشكلت تحديا كبيرا وجد لها متاعب وخلق أمامها صعوبات وعراقيل جمة، اضطر المجاهدون معها إلى اقتحام المحتشدات لافتكاك حاجاتهم الضرورية من الأكل مقابل تضحيات، بل اضطر بعضهم أضاف يقول لمقايضة سلاحه برغيف"كسرة" يضمن له العيش.
وأوضح في هذا الإطار دائما أنّ تجميع السكان في المحتشدات وفي قرى محروسة عرقل وبصفة جدية عملية الإمداد والتموين، كما عرقل الاتصال بالثوار بصفة عامة، وكان قطع الأسلاك أو المرور فوقها أو بينها أو تحتها لتمرير المؤونة ضرب من المغامرة، قد تكلف صاحبها الكثير وقد تؤدي بحياته في حالة ما إذا تم القبض عليه، إلاّ أنّها كانت الوسيلة الوحيدة الممكنة رغم المخاطر التي تنطوي عليها.
وواصل التونسي حديثه قائلا أنّه مع مرور الزمن اكتشف السكان عناصر متعاطفة مع الثورة بين جنود الاحتلال من المجندين الجزائريين في إطار الخدمة الإجبارية، أو من الحركة فكانوا يستغلون وجودهم في المعابر، وممرات الدخول والخروج ليمرروا بعض الحاجات إلى خارج المحتشد من الغذاء واللباس خاصة، مبرزا في هذا المضمار مساهمة البعض من هؤلاء في تسريب معلومات مهمة، كما ساهموا في التموين ببعض الضروريات.
وقد ظلّ تجميع السكان في المحتشدات عرضة لكل الأخطار سواء على الثورة أو السكان، فكثير ما كانت هذه المحتشدات تتعرض لقصف مدفعي مركز أو لرشاشات نارية كعقوبة جماعية في إطار تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية الذي أقرته الحكومة الفرنسية، وأعطت التفويض المطلق للقادة العسكريين في تحديد المسؤولية كما يشاءون، حسب ما جاء في كتاب "الثورة في عامها الأول" للدكتور العربي الزبيري.
ويضيف العربي الزبيري أنّ بعض الضباط الفرنسيين بالغوا في تحديد مفهوم المسؤولية الجماعية وراحوا يطبقونها حسب مزاجهم الشخصي، فكان الجنرال "بوفر" يرى المسؤولية الجماعية تعني هدم القرية كلها، عندما يقدم مجهول من تلك القرية على إعدام جندي فرنسي واحد.
علما أنّ الكثير من ضباط الاحتلال عملوا بهذا الرأي واعتبروه مقياسا في التعامل مع الثورة، وهكذا كانت الانتقامات فظيعة جاوز فيها الظالمون المدى، فقد انتقموا لكمين ناجح نصبه الثوار بناحية الأخضرية في مارس 1956، بقصف عدة قرى بالنابالم الحارقة ممّا أسفر عن هلاك 1200شخص، كما انتقموا لمقتل رقيب سينغالي من وحدة القناصة في بسكرة في جويلية 1956، حيث قتلوا 360 مواطنا.
وانتقموا لمقتل الضابط "جاكوت" في واضية ناحية تيزي وزو بقتل 180 شخصا واستباحة القرية مدة أسبوع، وحوادث أخرى لا تحصى ولا تعد. ويشير الأستاذ الجامعي في هذه النقطة، إلى أنّه حين يقوم المجاهدون بنصب كمين لوحدة عسكرية فرنسية أو يناوشون أبراج المراقبة بطلقات متفرقة، يرد جنود الاحتلال بقصف المحتشد أو القرية بالقذائف المدفعية أو يصوبون نيران أسلحتهم الرشاشة اتجاهها، ولا يهم أن تسقط القذيفة فوق منزل يأوي شيوخا أو أطفالا أو وسط مقبرة أو مسجد فكلهم أعداء.
وبالنسبة لسلطة الاحتلال هو إذلال السكان، وتحطيم كبريائهم وإرغامهم على الاستسلام والتنكر للثورة بكل الوسائل المتاحة، غير أنّهم لم ينجحوا لان الفرد الجزائري معروف بعناده وعدم رضوخه إلى العدو.
المحتشدات شبيهة بالمعتقل السياسي
ويصف العربي الزبيري المحتشدات بالمعتقلات السياسية التي ساهمت بشكل كبير في توعية السكان وترقيتهم سياسيا، بالرغم من انهيار أوضاعهم الاجتماعية، فارتفع مستوى الوعي لديهم رغم الظروف التعيسة التي كانوا يعيشونها نتيجة الاختلاط بين الطبقات والأسر والفوارق الاجتماعية السائدة قبل تجميعهم في المحتشد.
وبالمقابل، فإنّ التجميع يسمح للمكاتب الإدارية للشؤون الأهلية بمراقبة السكان عن كثب، كما يسمح بزرع عناصر عملية لرصد كل التحركات والتجسس على أوضاع السكان والمراقبة المستمرة عن قرب لنوعية العلاقات القائمة بين الأسر وطبيعة الأشخاص الوافدين إلى المحتشد وأماكن إقامتهم.
ويظل المحتشد حسب مذكرات العقيد الطاهر الزبيري آخر قادة الأوراس التاريخيين، عرضة للمداهمات وعمليات التفتيش والتنكيل والنهب والسلب والانتهاكات، وما إلى ذلك من الأساليب الوحشية التي كان يمارسها جنود الاحتلال، فضلا عن الظروف المأساوية التي تعيشها الأسر في شكل مجموعات مكدسة في أحواش حسب علاقة القرابة أو الانتماء أو القناعة المشتركة، تتقاسم البؤس والفقر وظلم المعتدين.
وأشار في هذا الشأن العقيد الزبيري إلى أنّ هناك فئة من سكان الريف تمكّنت من الإفلات من قبضة الاستعمار، وظلت تعيش طريدة قريبة من معسكرات المجاهدين تقاسمهم قساوة الطبيعة، والعيش الضنك وتتعاون معهم وتقدم لهم الخدمات الضرورية.
وأضاف أنّ هذه الفئة عرفت في منطقة الأوراس بـ "المسرّبين" تعيش وسط أكواخ على التلال أو وسط الغابات، وتتعرض لنفس المعانات التي يتعرض لها المجاهدون، فقط ليست لهم صفة العسكرية، قال الزبيري.