تعمـل على تعزيـز التكامل الإفريقـي وإسمـاع صـوت القارة

الجزائر الجديدة.. إلتـزام متجـدّد ومسـار استراتيجي وسيادي

علي مجالدي

قناعة راسخة بضرورة العمل الجماعي لمعالجة الأزمات ومواجهة التحديات 

في زحمة التحديات التي تواجه القارة الإفريقية، تواصل الجزائر نسج خيوط التقارب وتعزيز الوحدة بين شعوبها وحكوماتها، برؤية ثابتة لا تحيد عن مبدأ التضامن القاري، ويأتي استقبال رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، لوزراء خارجية مجموعة الأربعة (G4) —الجزائر، نيجيريا، جنوب إفريقيا وإثيوبيا— كترجمة ملموسة لهذا الالتزام، ومؤشّر على تصاعد دور الجزائر في الدفع نحو تكامل إفريقي فعّال، ينهض من قلب الواقع ويتطلّع إلى مستقبل موحّد ومستقر.

في هذا اللقاء رفيع المستوى، لم تقتصر المحادثات على تبادل وجهات النظر الدبلوماسية، بل اتخذت أبعادًا استراتيجية تمسّ جوهر الرؤية الإفريقية المشتركة، لا سيما في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تشهدها العديد من دول القارة. وتبرز الجزائر في هذا السياق كفاعل محوري لا يدّخر جهدًا في سبيل بناء فضاء قاري متكامل، انطلاقًا من قناعتها الرّاسخة بضرورة العمل الجماعي لمعالجة الأزمات ومواجهة التحديات المتصاعدة، من الإرهاب والتطرّف إلى مشاكل التنمية والفقر.
في السياق، تجدر الإشارة إلى انضمام الجزائر رسميًا إلى “نظام الدفع والتسوية الإفريقي الموحد” (PAPSS)، وهو ما يعكس حرصها على تجاوز الحواجز البنكية والتجارية، وتسهيل المعاملات بين بلدان القارة، من خلال آلية موحّدة تعزّز السيادة المالية الإفريقية وتقلّل من الاعتماد على العملات الأجنبية. هذه الخطوة تمثل نقلة نوعية في مسار التكامل الاقتصادي القاري، حيث تسعى الجزائر، من موقعها الجغرافي والإستراتيجي، إلى أن تكون همزة وصل بين مختلف الأقاليم الإفريقية، خاصة منطقة الساحل، المغرب العربي، وغرب إفريقيا.
علاوة على ذلك، شهدت الدبلوماسية الجزائرية في الأشهر الأخيرة حركية لافتة، تُوّجت باستقبال رئيس الجمهورية لعدد من نظرائه الأفارقة، على غرار رئيس جمهورية رواندا، ورئيس جمهورية زيمبابوي، وغيرهم من القادة الذين حلّوا بالجزائر، حاملين ملفات التعاون الثنائي والإقليمي..هذه اللقاءات التي تتجاوز طابع المجاملة البروتوكولية، تعكس رصيدًا دبلوماسيًا تراكمه الجزائر بهدوء ولكن بثقة، وتُثبت أنها لم تغادر مربع الرّيادة في القارة، بل تعود إليه بمفاتيح جديدة وأدوات أكثر نجاعة.
بالإضافة إلى البعد الاقتصادي والدبلوماسي، تواصل الجزائر لعب دور محوري في دعم السلم والاستقرار عبر إفريقيا، فمن ليبيا إلى مالي، ومن النيجر إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، لم تغب الجزائر عن مساعي الوساطة، مستندة إلى تجربتها الخاصة الراسخة في الوساطة وبناء السلام، وإلى مكانتها كقوة إقليمية ذات مصداقية، كما تُعد الجزائر من بين الدول القليلة التي تملك رؤية شاملة لمكافحة الإرهاب، مستندة إلى مقاربة أمنية وإنسانية في آن واحد، وقد ساهمت بشكل كبير في بلورة استراتيجية الاتحاد الإفريقي في هذا المجال، انطلاقًا من مركزها الإفريقي للدراسات والبحث في مكافحة الإرهاب الذي يوجد مقرّه بالجزائر العاصمة.
وفي الوقت نفسه، تعي الجزائر أنّ التكامل الإفريقي لا يمكن أن يتحقّق دون إشراك فعلي للشعوب، ولذلك فهي تسعى، من خلال مشاريع بنيوية كالطريق العابر للصّحراء، وخط أنبوب الغاز نيجيريا-الجزائر، إلى تحقيق الربط بين الأقاليم الإفريقية وتعزيز التبادلات الحقيقية، بعيدًا عن الشعارات، فهذه المشاريع ليست مجرّد خطط تنموية، بل أدوات لتحرير القارة من التبعية وتكريس مبدأ “الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية”.
وفي بعدٍ متّصل، تبرز جهود الجزائر داخل مجلس الأمن الدولي خلال عهدتها غير الدائمة (2024–2025) كامتداد طبيعي لالتزامها التاريخي تجاه القارة الإفريقية. فمنذ بداية عضويتها، جعلت الجزائر من قضايا القارة أولوية دبلوماسية، فكانت صوت إفريقيا في محافل القرارات الكبرى، ودفعت نحو مقاربة عادلة تضع مصالح الشعوب الإفريقية في صلب اهتمامات المجلس، خاصة في ملفات السلم والأمن والتنمية.
ولم تقتصر المقاربة الجزائرية على طرح الحلول الآنية، بل تجاوزتها نحو الدفاع عن رؤية إصلاحية شاملة لنظام الأمم المتحدة، تدعو إلى إعادة النظر في تركيبة مجلس الأمن بما يضمن تمثيلًا عادلًا للقارة الإفريقية التي ظلت لعقود مستثناة من العضوية الدائمة، رغم كونها أحد أهم الفاعلين الجيوسياسيّين والضحايا المباشرين للقرارات الدولية.
في هذا السياق، أكّدت الجزائر مرارًا أنّ الوقت قد حان لإنصاف إفريقيا وتمكينها من مقعد دائم داخل المجلس، يُعبّر عن إرادتها ويعكس وزنها الحقيقي.
بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الجزائر في الدفع نحو تسليط الضوء على النزاعات المنسية في القارة، والدعوة إلى حلول سياسية تراعي سيادة الدول الإفريقية وتكرّس مبدأ عدم التدخّل الخارجي، مع التركيز على ضرورة دعم عمليات التنمية وإعادة الإعمار في المناطق الخارجة من النزاع. وقد لقي هذا التوجّه ترحيبًا من العديد من الدول الإفريقية التي وجدت في الجزائر حليفًا صادقًا يُجيد الإصغاء والتعبير عنها أمام القوى الكبرى.
إنّ الحضور الجزائري داخل مجلس الأمن، لا يعكس عودة دبلوماسية نشطة فقط، بل يؤكّد توجّهًا استراتيجيًا يجعل من الجزائر ركيزة في بناء إفريقيا جديدة، أكثر عدالة، سيادة، وتكاملًا على الساحة الدولية.
ويبدو جليا أنّ الجزائر لا تخوض هذا المسار بحثًا عن الأضواء أو لاعتبارات ظرفية، بل تنطلق من تصوّر راسخ لدورها كدولة محورية في إفريقيا، تسعى إلى تأمين الاستقرار، تعزيز السيادة القارية، وبناء منظومة تعاون قائمة على الندية والتكامل. وفي زمن تتجاذب فيه القوى الدولية القارة السّمراء بمصالحها، تبدو الجزائر كصوت متّزن يعيد للقارة روحها التحرّرية، ويمنحها أفقًا مشتركًا من خلال أدوات السياسة، الاقتصاد، والأمن المشترك.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19839

العدد 19839

الأحد 03 أوث 2025
العدد 19838

العدد 19838

الجمعة 01 أوث 2025
العدد 19837

العدد 19837

الخميس 31 جويلية 2025
العدد 19836

العدد 19836

الأربعاء 30 جويلية 2025