هل الأمة العربية مستعدة لبذل الثمن الغالي الذي تتطلبه الحرية؟ وأن اليوم الذي يقبل فيه العرب دفع هذا الثمن لهواليوم الذي تتحرر فيه فلسطين»، «إن تاريخ الشعوب ليس إلا سلسلة من المعارك المتنوعة تخرج ظافرة من معركة لتدخل مزودة بسلاح جديد إلى معركة جديدة، فإذا كنا قد خرجنا من معركة الاستقلال، فإن ذلك إلا سلاحاً لابد منه لخوض معركة أخرى هي معركة النهضة والرقي والحياة»، «الجزائر مع فلسطين ظالمة أومظلومة»، هي أقوال خالدة للرئيس الراحل هواري بومدين الذي لا يمكن لأي جيل من الأجيال القديمة والجديدة نسيانها، بفضله كانت الجزائر معززة بين الدول ولولا أن القدر سبقه لكنا في مقدمة الدول المتطورة على كل الأصعدة.
هواري بومدين واسمه الحقيقي محمد إبراهيم بوخروبة الرئيس الثاني للجزائر المستقلة، لعب دورا هاما على الساحة الإفريقية والعربية، وكان أول رئيس من العالم الثالث تحدث في الأمم المتحدة عن نظام دولي جديد. كما يعتبر من أبرز رجالات السياسة في الجزائر والوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وأحد رموز حركة عدم الإنحياز، ولد بتاريخ 23 أوت 1932 في دوّار بني عدي (العرعرة) مقابل جبل دباغ، بلدية مجاز عمار على بعد بضعة كيلومترات غرب مدينة قالمة، ينحدر من عائلة كبيرة العدد ومتواضعة الحال تنتمي إلى عرش بني فوغال التي نزحت من ولاية جيجل عند بداية الاحتلال الفرنسي.
تعلّم بالمدرسة القرآنية في القرية التي ولد فيها، وكان عمره آنذاك 4 سنوات، وعندما بلغ سن السادسة دخل مدرسة ألمابير سنة 1938 في مدينة قالمة،وتحمل المدرسة اليوم اسم مدرسة محمد عبده، وبعد ثماني سنوات من الدراسة بقالمة عاد إلى قريته في بني عدي، وطيلة هذه السنوات كان بومدين مشغول البال شارد الفكر لا يفعل ما يفعله الأطفال. لقد كان بومدين يدرس في المدرسة الفرنسية وفي نفس الوقت يلازم الكتّاب من طلوع الفجر إلى الساعة السابعة والنصف صباحا، ثمّ يذهب في الساعة الثامنة إلى المدرسة الفرنسية إلى غاية الساعة الرابعة وبعدها يتوجّه إلى الكتّاب مجددا.
وفي سنة 1948 ختم القرآن الكريم وأصبحَ يُدَرّس أبناء قَريتِه القرآن الكريم واللغة العربية، وفي سنة 1949 ترك محمد بوخروبة أهله مجددا وتوجه إلى المدرسة الكتانية في مدينة قسنطينة، وكان نظام المدرسة داخليًا وكان الطلبة يَقُومون بأعباء الطبخ والتنظيف. وفي تلك الآونة كان عمه الحاج الطيب بوخروبة قد عاد من أداء فريضة الحجّ مشيا على الأقدام، وبعد عودته ذهب إليه هواري ليقدمّ له التهاني، وكان يسأل عمه عن كل صغيرة وكبيرة عن سفره إلى الديار المقدسة، وكان عمه يخبره عن كل التفاصيل ودقائق الأمور وكيف كان الحجاج يتهربون من الجمارك والشرطة في الحدود وحدثّه عن الطرق التي كان يسلكها الحجّاج، وكان بومدين يسجّل كل صغيرة وكبيرة، وفي نفس الوقت يخطط للسفر حيث أطلع ثلاثة من زملائه في المدرسة الكتانية على نيته في السفر وعرض عليهم مرافقته فرفضوا ذلك لأنهم لا يملكون جواز سفر، فأطلعهم على خريطة الهروب وقال: هذا هو جواز السفر .
كانت السلطات الفرنسية تعتبر الجزائريين فرنسيين، وتفرض عليهم الإلتحاق بالثكنات الفرنسية عند بلوغهم سن الثامنة عشرة. تمّ استدعاؤه للإلتحاق بالجَيش الفِرنسي لكنّه كان مؤمنا في قرارة نفسه بأنه لا يمكن الالتحاق بجيش العدو، ولذلك رأى أنّ المخرج هو في الفرار والسفر، وعندما تمكن من إقناع رفاقه بالسفر باعوا ثيابهم للسفر برا باتجاه تونس.
ومن تونس توجّه هواري بومدين إلى مصر عبر الأراضي الليبية، وفي مصر التحق وصديقه (بن شيروف) بجامع الأزهر الشريف حيث درس هناك وتفوّق في دراسته، وقسّم وقته بين الدراسة والنضال السياسي، حيث كان منخرطا في حزب الشعب الجزائري، كما كان يعمل ضمن مكتب المغرب العربي الكبير سنة 1950، وكان هذا المكتب يهيكل طلبة المغرب العربي الذين يدرسون في الخارج.
كان بوصوف مع العربي بن مهيدي ولاة يرأسان الولاية الخامسة، وفي عام 1956 غادر العربي بن مهيدي قيادة الولاية الخامسة للانضمام إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وفي سبتمبر 1957، غادرة بوصوف التراب الجزائري، فتولي هواري بومدين قيادة الولاية الخامسة، ومع اندلاع الثورة الجزائرية انضم إلى جيش التحرير الوطني في المنطقة الغربية وتطورت حياته العسكرية في 1956 أشرف على تدريب وتشكيل خلايا عسكرية، وقد تلقى في مصر التدريب، حيث اختير هو وعدد من رفاقه لمهمة حمل الأسلحة، وفي 1957 أصبح مشهورا باسمه العسكري «هواري بومدين» تاركا اسمه الأصلي بوخروبة محمد إبراهيم وتولى مسؤولية الولاية الخامسة، وفي 1958 أصبح قائد الأركان الغربية.
في 1960 أشرف على تنظيم جبهة التحرير الوطني عسكريا ليصبح قائد الأركان، وفي 1962 عين وزيرا للدفاع في حكومة الاستقلال، ونائب رئيس المجلس الثوري سنة 1963. دون أن يتخلى عن منصبه كوزير للدفاع. تولى بومدين الحكم في الجزائر عن طريق انقلاب عسكري على الرئيس المدني أحمد بن بلة في 19 جوان 1965، والذي اصطلح عليه بالتصحيح الثوري، تمّ انتخابه رئيسا للجمهورية الجزائرية عام 1975.
ساهم في تقوية قطاعات الزراعة والصناعة
بعد أن تمكّن هواري بومدين من ترتيب البيت الداخلي، شرع في تقوية الدولة على المستوى الداخلي وكانت أمامه ثلاث تحديات وهي الزراعة والصناعة والثقافة، فعلى مستوى الزراعة قام بتوزيع آلاف الهكتارات على الفلاحين الذين كان قد وفّر لهم المساكن من خلال مشروع ألف قرية سكنية للفلاحين، وأجهز على معظم البيوت القصديرية والأكواخ التي كان يقطنها الفلاحون، وأمدّ الفلاحين بكل الوسائل والإمكانات التي كانوا يحتاجون إليها.
إضافة إلى السياسة التنموية اهتم الرئيس بومدين بالإصلاح الاجتماع والسياسي، ووضع أسس الدولة الجزائرية، بدءا بقانون التأميم، ثم وضع ميثاقا وطنيا شاركت فيه جميع فئات الشعب وانبثق عنه دستور كل ذلك بأسلوب ديمقراطي بالمعنى العلمي الكلمة (شعاره لا نريد تقبيل اليد)، ثم انتخاب المجلس الشعبي الوطني من طرف الجماهير الواسعة. استقطب الكل لخدمة الوطن ومداخيل الدولة في صالح المواطن.
ازدهر القطاع الزراعي في عهد هواري بومدين واسترجع حيويته التي كانت عليها أيام الاستعمار الفرنسي، عندما كانت الجزائر المحتلة تصدّر ثمانين بالمائة من الحبوب إلى كل أوروبا. وكانت ثورة الراحل الزراعية خاضعة لإستراتيجية دقيقة بدأت بالحفاظ على الأراضي الزراعية المتوفرة وذلك بوقف التصحر، وإقامة حواجز كثيفة من الأشجار أهمها السد الأخضر للفصل بين المناطق الصحراوية والمناطق الصالحة للزراعة وقد أوكلت هذه المهمة إلى الشباب الجزائريين الذين كانوا يقومون بالخدمة الوطنية.
وعلى صعيد الصناعات الثقيلة قام هواري بومدين بإنشاء مئات المصانع الثقيلة، ومن القطاعات التي حظيت باهتمامه قطاع الطاقة، وقد أدى تأميم المحروقات في الجزائر إلى توفير سيولة نادرة للجزائر ساهمت في دعم بقية القطاعات الصناعية والزراعية. وفي سنة 1972 كان هواري بومدين يقول إن الجزائر ستخرج بشكل كامل من دائرة التخلف وستصبح يابان الوطن العربي.
بالمقابل، كانت علاقة الجزائر بكل الدول وخصوصا محور الدول الاشتراكية حسنة للغاية وكانت الثورة الجزائرية درسا للشعوب المستضعفة وخاصة بعد مؤتمر الأفروآسيوي في يوم 3 سبتمبر 1973، يستقبل في الجزائر العالم الثالث كزعيم وقائد واثق من نفسه وبمطالبته بنظام دولي جديد أصبح يشكل تهديدا واضحا للدول المتقدمة.
فتح هواري أبواب كلية شرشال العسكرية أمام الضباط الفلسطينيين، فتم تخريج أوائل الضباط، كما أنه منح مقر الجنرال ديغول ليكون مقرا لمنظمة التحرير الفلسطينية، مواقفه الثابتة إزاء القضايا العربية والإنسانية وإيمانه الشديد والعميق بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، هي التي توجته بالحصول في عام 1976 على ميدالية السلام التي منحتها إياه الأمم المتحدة عرفانا وتقديرا له على جهوده المتواصلة في الدفاع عن مبادئ السلم والعدالة في العالم ولا شيء غير ذلك، كما دعم القضية الصحراوية.
وفي مذكراته عن الحرب، كشف الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة في تلك الفترة على قناة الجزيرة القطرية، أن دور الجزائر في حرب أكتوبر كان أساسياً وقد عاش بومدين ومعه كل الشعب الجزائري تلك الحرب بكل جوارحه، وشاركت جميع الدول العربية تقريباً في حرب 1973 طبقاً لاتفاقية الدفاع العربي المشترك، لكنها كانت مشاركة رمزية عدا سوريا والعراق والجزائر، التي كان جنودها يشاركون بالفعل مع المصريين.
اتصل بومدين بالسادات مع بداية حرب أكتوبر وقال له إنه يضع كل إمكانيات الجزائر، تحت تصرف القيادة المصرية وطلب منه أن يخبره فوراً باحتياجات مصر من الرجال والسلاح فقال السادات للرئيس الجزائري إن الجيش المصري في حاجة إلى المزيد من الدبابات وأن السوفيات يرفضون تزويده بها وهو ما جعل بومدين يطير إلى الاتحاد السوفياتي، ويبذل كل ما في وسعه بما في ذلك فتح حساب بنكي بالدولار لإقناع الروس بالتعجيل بإرسال السلاح إلى الجيشين المصري والسوري.
أصيب هواري بومدين بمرض استعصى علاجه وقلّ شبيهه، مات هواري بومدين في صباح الأربعاء 27 ديسمبر 1978، في الساعة الثالثة وثلاثين دقيقة فجراً. وحين دقت ساعة توديع الزعيم، وقد ألقى الكلمة التأبينية وزير الخارجية آنذاك والرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة.