فضل الإقامة الجبرية بدل أن يحيد عن مبادئه ومواقفه الثابتة من القضايا الوطنية وما كان يجري على الصعيد السياسي آنذاك إلى أن وافته المنية، إنه فرحات عباس أول رئيس للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والرئيس الأول للجمعية التأسيسية الجزائرية، وأحد رموز الحركة الوطنية والثورة المسلحة. من مواليد 24 أكتوبر 1899 بدوار الشحنة بالقرب من الطاهير بولاية جيجل من أسرة كبيرة العدد تعمل في الفلاحة، زاول دراسته الابتدائية بجيجل والثانوية بسكيكدة وبعدها اختار شعبة الصيدلة في دراساته الجامعية. وهكذا كان له دور هام كطالب جامعي في تأسيس جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا في 1924 التي أشرف عليها مدة أربع سنوات من 1927 إلى 1931.
بالرغم من اختياره لشعبة علمية، إلا أن فرحات عباس كان يتمتع باستعدادات أدبية، تبرز من خلال نوعية نصوصه التي نشرت تحت الاسم المستعار كمال بن سراج واختار كمال لإعجابه بأب تركيا العصرية وابن سراج لإبراز آخر أسرة ملكية قاومت غزو الأندلس. فور تحصله على شهادته استقر بسطيف حيث تفرغ للسياسة ضمن فيدرالية المنتخبين ليصبح مساعد الدكتور بن جلول ودشن أدبه النضالي الملتزم من خلال نشر «الشاب الجزائري»، الذي تطرّق من خلاله إلى الروح المسلمة والشخصية الجزائرية. وبعد تعيينه كمستشار بلدي بسطيف في 1937 ابتعد شيئا فشيئا عن حركة الأعيان، حيث لم يلمس إرادة حقيقة للعمل من أجل التغيير في الجزائر المستعمرة. وندّد حينئذ بقانون الأهالي وأسس الاتحاد الشعبي الجزائري في جويلية 1938.
و أبدى فرحات عباس اهتماما أكبر بمسألة الهوية وتخلى عن مواقفه الإدماجية ليصبح ابتداء من 1942 قائد الاتجاه الليبرالي لحركة التحرر الوطنية بالانضمام إلى جمعية العلماء وإلى دعاة الاستقلال في حزب الشعب الجزائري من أجل الدفاع عن فكرة برلمان جزائري ودولة مستقلة ملحقة بفرنسا. وألف في هذا الصدد بيان الشعب الجزائري في ديسمبر 1942، الذي كان بمثابة الميثاق الحقيقي بالنسبة لكل أنصار الاستقلال في تلك الفترة، مما أدى إلى ميلاد (أحباب البيان والحرية).
تقرب فرحات عباس رئيس تحرير أسبوعية (مساواة) ورئيس اللجنة المؤقتة للجزائر المسلمة من القائد الوطني الآخر مصالي الحاج والحزب الشيوعي الجزائري. وقد منعت الأسبوعية من الصدور في 1945 لتظهر من جديد تحت اسم «لا ريبوبليك ألجيريان» (الجمهورية الجزائرية).
وبعد مجازر 8 ماي 1945 التي تزامنت وتاريخ حل أحباب البيان والحرية حكم عليه بالسجن لمدة سنة. وعند إطلاق سراحه في ماي 1946 قام بتأسيس حزبه الخاص وهو الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وقطع العلاقات مع مصالي. وقد عين فرحات عباس ضمن قائمة حزبه بالجمعية التأسيسية الثانية في 1946 وبعدها بالجمعية الجزائرية في 1948.
في أول نوفمبر 1954 فوجئ على نحو مجمل السياسيين الجزائريين باندلاع ثورة التحرير الوطني ولكنه قال للمحافظ جاك سوستال الذي التقى به في 1955 «نحن كلنا فلاقة فالشجعان أخذوا السلاح والأقل شجاعة منهم
أمامكم». واتصل كل من عبان رمضان وعمار أوعمران بفرحات عباس في 26 ماي 1955، حيث التحق بجبهة التحرير الوطني في خريف 1955 ليحل بالقاهرة في 22 أبريل 1956 وبعدها سويسرا والمغرب قبل أن يستقر بتونس. عين عضوا بالمجلس الوطني للثورة الجزائرية فور انعقاد مؤتمر الصومام (20 أوت 1956) ثم دخل لجنة مجلس التنسيق والتنفيذ للثورة في أوت 1957.
موازاة مع ذلك ترأس فرحات عباس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من سبتمبر 1958 إلى أوت 1961. تحت حكومته شرع في المرحلة الأولى من المفاوضات الجزائرية الفرنسية (ايفيان 1 من 20 ماي إلى 13 جوان 1961)، المتعلقة بإلغاء وضع الجزائر كمستعمرة وتلبية حقّ الشعب الجزائري في تقرير المصير والاستقلال. أما المرحلة الثانية فكانت مفاوضات (لوغران) في جويلية 1961.
وغداة الاستقلال أصبح الرئيس الأول للجمعية التأسيسية، ليستقيل من منصبه في أوت 1963 للاحتجاج على الظروف التي سادت المصادقة على أول دستور جزائري. وبعد وضعه تحت الإقامة الجبرية أطلق سراحه في 1965 بعد الإطاحة بالرئيس أحمد بن بلة. وتخلى فرحات عباس نهائيا عن السياسة للتفرغ خلال تقاعده إلى الكتابة. وخلال هذه الفترة خرج عباس مرة واحدة من تحفظه للتوقيع مع بن يوسف بن خدة وحسين لحول وشيخ خير الدين بمناسبة النقاش حول الميثاق الوطني لـ 1976 على نصّ حول التوجه الذي حدّده المرحوم هواري بومدين للبلاد. وكلفه هذا الموقف الوضع تحت الإقامة الجبرية مرة ثانية من 1976 إلى 1979. وقد وافته المنية في 24 ديسمبر 1985 ودفن بمربع الشهداء بمقبرة العالية بالجزائر. ألف كتاب «تشريح حرب» الصادر عن غارنيي. باريس 1980 و»الإستقلال المصادر» الصادر عن فلاماريون باريس 1984.