قدمت الأستاذة ليلى خيراني دراسة معمقة وبالأرقام عن ثروات النساء في مجتمع مدينة الجزائر في العهد العثماني، وهي دراسة جد قيمة نشرت بمجلة تاريخ المغرب العربي الصادرة عن مخبر الوحدة المغاربية عبر التاريخ لجامعة الجزائر02، يمكن للباحثين والطلبة الاعتماد عليها.
استعانت الاستاذة من جامعة الجزائر 02 في دراستها على سلسلة من المراجع العربية والأجنبية، وكذا الوثائق العثمانية.
أكدت الأستاذة خيراني أن الوقوف على إدراك أهمية دراسة الوثائق العثمانية يعد فعلا خطوة ايجابية نحو الكشف عن أثار شاهدة على كل ما حدث في المجتمع بمستوياته المختلفة.
وبحسبها فإن تلك الوثائق تعد منجما ومخزونا تاريخيا يحتوي على معلومات ثرية ومتنوعة، لا يمكن أن يهملها دارس الحياة الاجتماعية والاقتصادية كونها شاهد على تلك الحقبة ، وتسمح لنا بالتعرف بدقة على الحياة في العهد العثماني الذي احتلت فيه شريحة النساء في مجتمع مدينة الجزائر حيزا هاما.
أوضحت الباحثة أن عمل مؤسسة بيت المال من جرد وإحصاء لتركات الأشخاص المتوفين الذين لم يتركوا عاصبا شرعيا عملا في غاية الدقة والإحكام، بحيث برزت شريحة النساء في تلك الدفاتر بكثرة، مما شكل مصدران أساسيان متنوعان في القضايا، نظرا لما تضمنته من المعلومات التي تسمح بالقيام بقراءة جديدة تسمح بكشف جوانب هامة من حياة النساء، وواقعهن في المجتمع التي ظلت لوقت طويل حكرا على كتابات الغربيين من خلال مذكرات الأسرى، وملاحظات الرحالة وتقارير القناصلة والجواسيس والرهبان.
وبحسب الأستاذة خيراني فإنه أن الأوان لإعادة كتابة التاريخ المحلي كتابة موضوعية وعملية، وفي تحليلها للمعطيات والأرقام التي تحصلت عليها من الأرشيف أبرزت حجم الثروة التي خلفها المتوفى التي حسبها تعد أهم نقطة فاصلة سعى فيها الموثقون لضبطها وتقييدها، لأنها تتعلق بالقيمة المالية الإجمالية للمتروك، بحيث عمل بيت المالجي على إعطاء قيمة كل متروك بما يقابله من مقدار العملة المحلية، ليصل في الأخير بعد عملية الجمع إلى تحديد ثروة المتوفى وهو الأمر الذي سهل كثيرا على الباحثين التعرف على قيمة المبلغ المالي.
وأشارت إلى أن المخلفات تتميز في مجملها بالتفاوت الشاسع بين مستويات الثروة بين الأفراد، خاصة فئة النساء، فقد وجدت أدني ثروة في الفترة الممتدة بين 1799-1817 هي متروك عجوز من باب الجديد خلفت ريالين اثنين سنة 1802، بينما بلغ أقصى حد للثروة في سنة 1801 وهو متروك امرأة بلغ 9066 ريالا، وكانت الثروة الثانية لامرأة أخرى تدعى بنت بن دارم التي توفيت سنة 1800، حيث خلفت ثروة تقدر ب8726 ريالا.
أما بالنسبة للمخلفات في عينة 1807-1817، فقد تم العثور على أدنى ثروة بلغت ريالين خلفتها عجوز في سنة 1804، والمبلغ نفسه خلفته عجوز أخرى من سباط الحوت سنة 1813، أما أقصى ثروة فقد بلغت 38.242 ريالا، وهي متروك مومنة زوجة خليل بنت الحاج محمود أواسط جمادى الأولى سنة 1817.
بالإضافة إلى امرأتان كانتا تمتلكان ثروة تفوق العشرة آلاف ريال، وهما تخصان ثروة راضية من عين شاه حسين التي تقدر ب18.595 ريالا سنة 1809، وثروة امرأة من القهوة الكبيرة متوفاة أواخر محرم 1813 وتقدر ب12.609 ريال.
الوضع الاجتماعي والاقتصادي في القرن ال19 أثر على ثروات الجزائريين
ويشير جدول توزيع مستويات الثروة حسب العينة المدروسة، إلى أن هناك 29 حالة لديها ثروة أقل من 50 ريال وتمثل نسبة 14.57 بالمائة، خلال الفترة 1799-1803، بينما عدد الحالات خلال الفترة 1807-1817 يقدر ب105 أي بنسبة 21.42 بالمائة، في حين 25 حالة تتراوح ثروتها من 500 إلى 1000 ريال في الفترة 1799-1803، و68 حالة في الفترة 1807-1817. وفوق 5000 ريال نجد العدد الإجمالي من سنة 1799 إلى 1817 يبلغ 665 حالة.
استنتجت الباحثة في دراستها للجدول، أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي كان يعيشها المجتمع الجزائري آنذاك، جد صعبة وقاسية انعكست على ثروات الجزائريين الذين يمكن وصف معيشة بعضهم بالفقر المدقع، وهذه الفترة هي مطلع القرن ال19، مستشهدة بما كتبه القنصل الفرنسي دوفال إلى وزير خارجيته متحدثا عن وضعية الجزائر بعد هجوم الفرنسيين على مدينة الجزائر عام 1815 قائلا:» لقد ذكرت هاته الأيام كل أنواع المصائب التي حلت بالبلاد منذ تولي عمر باشا الحكم، منها هزيمة الأسطول الجزائري على يد الأمريكيين، والسلم المخجلة التي تلت ذلك ثم جيش من الجراد قدم من الصحراء، وانتشر في كامل الولاية، متلفا القسم الأكبر وتسببت في مجاعة عمت البلاد».
وفي قراءة في ثروة كبيرات الثريات، حسب الحالات الواردة في دفاتر بيت المال التي تتجاوز فيها قيمة الثروة 5 آلاف ريال، أوضحت الأستاذة خيراني أن هناك خمس حالات تمثل 02.85 بالمائة في الفترة 1799-1803 وهي نسبة ضئيلة جدا، أما العينة الثانية فارتفع عدد الثريات بعشرين حالة تشكل 04.08 بالمائة، مشيرة إلى أن ظاهرة الثراء الفاحش عند فئة النساء لا تخص إلا فئة قليلة جدا، كما أن أكبر ثروة كانت لامرأة لم يرد ذكر اسمها، حيث تركت ثروة تقدر ب9066 ريال أي بنسبة 26.79 بالمائة لمجمل الثروة.
وأضافت أنه، تم العثور على حالة لأحد البرانيات تعد ضمن الطبقة ميسورة الحال وهي القبايلية التي تركت ثروة تقدر ب5404 ريالات بنسبة 15.97 بالمائة، وحسب الباحثة أن الغريب في الآمر هو العثور على إحدى المعتقات اللاتي ارتقين إلى سلم الثراء والغنى وهي «الشوشانة» التي تركت ثروة تقدر ب5542 ريال ، بالرغم من أنها خادمة إلا أنها احتلت المرتبة الرابعة في سلم الثريات وشكلت قيمة مصاغها 2025 ريالا، مما يدل على حبها لاكتساب المصاغ.
وبالنسبة للنساء متوسطات الثراء، فقد صنفت حسب الحالات التي تتراوح فيها قيمة الثروة بين ألف و5 آلاف ريال، بحيث أحصيت في العينة الأولى 1799-1817 حوالي 30 حالة يفوق ثروتها ألف ريال، وأضخم ثروة كانت لسيدة تدعى ربيبة الجيلالي البقار التي قدرت ب4597 ريالا، أي ب6.24 بالمائة من مجموع الثروة، وقدر حد أدنى للثروة ب1063 ريال لامرأة متوفاة سنة 1800، أما متوسط الثروة فيقدر ب2374 ريال.
أما العينة الثالثة خلال الفترة 1807-1817، عثر فيها على 82 حالة تفوق ثروتها الألف ريال تمثل نسبة 16.73 بالمائة من مجموع حالات العينة الذي يقدر مجموع ثروتها الإجمالي ب167267 ريال، وكانت أضخم ثروة فيها لزوجة الحاج محمد العربي المتوفاة سنة 1815، فقد قدرت ب4633 ريال بينما وجدت أدنى حد للثروة لامرأة متوفاة سنة 1223 هجرية، فقد بلغت ثروتها 1052 ريال ليكون متوسط الثروة عند هاته الحالات هو 2015 ريال.
وبالمقابل، فإن الفئة الارستقراطية تمثل فئة من النساء ينتسب أزواجهن إلى الطبقة الإدارية والعسكرية، وأخرى تنتمي إلى فئة الحرفيين، فمثلا ثروة بنت قايد العيون هي أضخم ثروة ب4071 ريال، وفئة زوجات الحرفيين أضخم ثروة لربيبة الجيلالي البقار، بينما أدنى ثروة كانت للإسكافية ب1178 ريال، بحيث يقدر متوسط الثروة ب2527 ريال.
وموازاة مع ذلك، يتراوح حجم ثروة الفئة الوافدة من خارج مدينة الجزائر بين ألف و5 آلاف ريال دراهم صغار، وهناك خمس حالات بلغ مجموع ثروتها 10182 ريال، وهي العباسية، البسكرية، الغربية، القسنطينية والمرابطة فاطمة البليدية، وأضخم ثروة كانت للعباسية المتوفاة سنة 1801 تقدر ب2966 ريال، بينما كانت أدناها للمرابطة فاطمة البليدية المتوفاة سنة 1815 بقيمة 1598 ريال. وبلغت حجم ثروة فئة الإماء والمعتقات ما بين ألف و5 آلاف ريال، والفئة الأقل يسرا في الطبقة الوسطى بلغت ثروتها بين 100 وألف ريال، في حين النساء الفقيرات تراوحت قيمة الثروة بين 50 و100 ريال والأقل فقرا بأقل من 50 ريالا.
وحسب الباحثة بجامعة الجزائر 02، فإن الوضع الاقتصادي والاجتماعي للجزائر منذ نهاية القرن ال17 اتصف بالجمود، حيث أن تردي تلك الأوضاع أثر سلبا على معيشة الأفراد ومما زاد من سوءها آنذاك هو عجز الجهاز الإداري على تطوير أساليبه والمطالب المالية الثقيلة، وانعكس ذلك على السكان فانخفض مستوى معيشتهم، وقد استمر ذلك إلى غاية أواخر العهد العثماني.