سلّط المترجم والأستاذ الجامعي علي زيكي الضوء على الكتابات التاريخية لتوكفيل الذي يدعى بمنظر الديمقراطية، بحيث اختار عنوانا مناسبا لمقدمته وهو: «الجزائر – فرنسا: 130 سنة من الهيمنة والمقاومات، وتوكفيل «رسول» الديمقراطية وداعية «الاستعمار الاستيطاني».
وقال زيكي: «أنه بعد 130 سنة من الغطرسة الفرنسية واضطهادها واستغلالها للجزائر، طلع فجر الحرية على الجزائر، بحيث سقطت معها نهائيا أقنعة الايديولوجية البيضاء الحاملة لرسالة «تحضير» و»ترقية الإنسان المتوحّش» مثلما روج خطا لتبييض وجه الاستعمار القبيح.
أضاف أن هذه المسألة التاريخية ، تأتي لتأكيد مقولة الفيلسوف المؤرخ الالماني المشهور مومسون، القائلة «أن التاريخ الانساني لم يخرج عن كونه حصيلة لمحاضر حماقات الانسان اللامبررة»، مشيرا إلى أن الحملة الفرنسية الطائشة على الجزائر عام 1830 لهي من هذا المنظور أحمق الحماقات وأرذلها.
وحسب علي زيكي، فإنّ غطرسة وطيش الجانب الفرنسي المزهو بعلومه وفنونه والمغرور بتقنياته المشهرة في وجه الجزائري والمخيفة لجانبه، حولت علاقات التجاذب والتجاور المأمولين إلى تدافع وتحارب أنهكت، ودمّرت إمكانيات وقدرات البلدين عوض تسخيرها فيما فيه خير للطرفين.
واستشهد في ذلك «بتشبيه رئيس وزراء فرنسا الأسبق دي فيلبان، البحر الأبيض المتوسط بانهما شفتين تتحادثان ولكن ليس لقول وفعل الخير، بل لإعلان الحروب المستمرة ومن طرف واحد»، مشيرا إلى أن الحملة الفرنسية المباغتة على الجزائر المسالمة، هي استعمارية استيطانية، اندرجت في مظهرها الخارجي السافر ضمن إطار الحركة التاريخية المناوئة للنخاسة
(بيع الرقيق والقرصنة).
توكفيل طرف فاعل في الحملة العسكرية الفرنسية على الجزائر
أكّد الأستاذ الجامعي في هذا الإطار، أن هذه الحملة جاءت لتكريس وتوسيع نطاق الحملة العسكرية الأولى التي نسج خيوطها الأولى، ورسم مخططاتها الكبرى نابليون بونابرت منذ 1802، بدعوى تحرير البحر الأبيض المتوسط من قرصنة الاخوان برباروس «المسيئة للغرب عموما وفرنسا خاصة» حسب منظور فرنسا.
وجاءت من جهة ثانية، بعد معاينة الغرب الأوروبي للوضعية المتردية للإمبراطورية العثمانية المتهاوية، ما استلزم العمل على تفكيكها وتقطيعها ثم تقسيمها كغنيمة حرب بين الأطراف المتحاربة، وكانت الجزائر وقبلها مصر ضمن الأطراف المستهدفة لاقتطاعها وتوزيعها على المنتصرين.
وهناك عنصر ثالث استعجل الحملة الفرنسية على الجزائر، وهي وضعية فرنسا المتعفنة سياسيا والمتعكرة ثقافيا والمتردية اقتصاديا، علاوة على تضاؤل دورها على المستوى الدولي نتيجة الهزائم المتتالية التي منيت بها في جميع الحروب التي خاضتها ضد الدول الاوروبية المجاورة لها، وهذا ما استلزم البحث عن متنفس خارجي يمكن أهل القرار من «تصدير» المشكلات الداخلية الى الخارج وإلهاء الناس بها عوض مواجهة مشكلاتهم الحقيقية، دون اغفال ديون فرنسا المقترضة لدى داي الجزائر بوساطة يهود مرسيليا وانتهت العملية بحادثة المروحة.
وفي هذا الشأن، يقول البرفسور زيكي أن تطرقه لهذه العناصر جاء بناء على ارتباطها بالموضوع المتعلق بالحملة الفرنسية على الجزائر، وكيف تعامل معها طوكفيل دي ألكسيس من خلال كتاباته المختلفة، وتم جمعها لتقديمها مترجمة الى قراء اللغة العربية لما لها من أهمية تاريخية، ثقافية وبيداغوجية.
وقال أيضا إنّ توكفيل كان طرفا فاعلا ومؤثرا في مجرى الحملة العسكرية على الجزائر، ويظهر ذلك من خلال العديد من الكتابات «العرضية» المخصصة للجزائر عقب الحملة العسكرية الفرنسية، ممّا يشكّل مادة علمية معرفية ثقافية دسمة ومتنوعة يتغذى منها الفيلسوف والمؤرخ وعالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، ولهذا أراد المترجم استنطاق توكفيل باللغة العربية.
وقد عزم المترجم على اقتحام مجال فكر وعمل، أحد أعظم أساطين الفكر الأوروبي لنهاية القرن التاسع عشر، وهو طوكفيل دي ألكسيس على وعي تام بالصعوبات التي سيواجهها في عمله هذا، خاصة وأن هذه الشخصية الاستثنائية قد صاحبت الأحداث التاريخية والتحولات السياسية والجيو - استيراتيجية لأوروبا، وحروب القرن التاسع عشر.
وأشار البرفسور زيكي إلى أنّ اهتمام توكفيل بالجزائر جاء عرضا وظرفيا أملته عليه الوضعية الداخلية والدولية الصعبة لفرنسا، كما جاء عقب انجازه لكتابه «عن الديمقراطية في أمريكا»، مبرزا أن توكفيل الذي اهتم كثيرا بالدور الذي لعبه الدين المسيحي في ارساء أسس الديمقراطية الأمريكية، لاحظ أن الحضور القوي للدين الاسلامي في المجتمع الجزائري هو الذي حال دون ارساء الديمقراطية، بل ساهم في استبدالها بالاستبداد والظلم، وهو ما فرض على فرنسا «واجبا» أخلاقيا لتحرير هذا المجتمع ورفع الظلم عليه.
وقال: «مع ذلك ركب الفرنسيون رؤوسهم العنيدة ، ودخلوا في وحل تاريخي لم يجدوا له مخرجا إلا بعد 130 سنة من الفضائح كان ممكن تفاديها، لو احتكموا إلى العقل السليم القاضي والقائل لهم بأن الجزائر ليست فرنسا، ولن تكون مهما كلف أهلها من تضحيات جسام».
وأشار إلى أن الجنرال ديغول صرح ذات يوم لصديقه ووزيره للإعلام في نوع من الاعتراف بالخطيئة الكبرى التي لا تغتفر، قال له بحسرة ومرارة ما معناه: «هناك رجل واحد كان على دراية ووعي بالمأزق المسدود الأفق الذي انساقت إليه فرنسا، إنه نابليون الثالث»، الذي صارح بدوره أحد المقرّبين إليه قائلا: «بأن الجزائر ليست مستعمرة كغيرها من المستعمرات، إنها ستكون المملكة العربية التي نسعى إلى بنائها، وسيتولى الأمير عبد القادر الرجل الشهم إن قبل الجلوس على عرشها، وهو ما رفضه الأمير الذي لم ترشه الأموال ورتب الجاه.
وأضاف زيكي أنّ دارس نصوص هذا المفكر اللغز سرعان ما يلاحظ أن هذا الباحث، وبحكم نسبه العائلي النبيل والارستقراطي المشحون بروح وطنية متجذرة في عمق التاريخ، ورغم تشبعه بمبادئ الثورة الفرنسية لحد الثمالة علاوة على حماسته الدينية الجاعلة من المسيحية دين الانسان الحر، إن كل ذلك لم يمنعه من الاتباع المفضوح لسياسة الكيل بكيلين اثنين، وما في ذلك من جبن ونفاق وتنكر للمبادئ والقيم الإنسانية.
وأشار إلى أن مواقف توكفيل بخصوص ما يجري في الجزائر يستنبطها من مبدأ أخلاق المسؤولية، وهما المبدآن الأساسيان لممارسات الإنسان السياسية، وإيديولوجية الحاضرين بقوة في كتابات المفكر الالماني المشهور ماكس فيبر، بحيث حين يتعامل طوكفيل مع أوروبا يشهر مبدأ القناعة الأخلاقية، بينما نجده ينظر إلى حيثيات ومجريات الوقائع بالجزائر من منظور قناعة وأخلاق المسؤولية.
مصطلحات توكفيل أخطر من المتفجّرات العسكرية
ويعتقد الأستاذ بأن القراءة المتأنية لكتاب توكفيل، عن الديمقراطية المدجج والملغوم بالعديد من المصطلحات المعجمية، تؤكد بأن هذا الكتاب الذي يأتي في الواقع سابقا لأوانه، قد جاء مندرجا تماما في إطار ما يسمى في عصر المعلوماتية بحرب النصوص، والمفردات المعجمية طالما أن فعل وتأثير المصطلحات التي يتخيرها طوكفيل، وبتبصر كبير لهي أخطر بكثير من المتفجرات العسكرية، مثلما قال بول فاليري في خضم الحرب العالمية الثانية بأن التاريخ أخطر مستحضر ثقافي صنعه الانسان وعلى الاطلاق.
وأبرز تعمّد توكفيل، استعمال مصطلح الحرب حينما يتحدث عن الحروب القائمة بين الدول الديمقراطية المتحضرة، بينما فضل مصطلح الحملة أو الغزو لما يتعلق الامر بالجزائر ولم تخرج كتابات هذا المفكر حول الجزائر شبرا واحدا عن هذا الإطار التنظيري التبريري للحملة الفرنسية الاستيطانية على الجزائر، همّه الوحيد المصلحة العليا لفرنسا، كما أن مجموع أعماله الفكرية جاءت مكرسة فعلا للاستعمار الاستيطاني وتبريرا له، رغم ما يقرأ له هنا وهناك من استيائه وتنديده بتعنيف الجزائريين وقهرهم وهم في عقر دارهم.
ويأمل المترجم في أن تأتي نصوص توكفيل التي قدمها مترجمة الى العربية بردا وسلاما على قارئ هذه اللغة، وأن يشكل ما فيها من اشارات وتنبيهات دعوة ملحة ومستعجلة الى إعادة النظر في تاريخنا صناعة وكتابة، وأن نستكمل تحريرنا الاقتصادي والسياسي بالتحرر الفكري الثقافي، على حد قوله.
المؤلّــف في سطـور
- هو ألكسي دي توكفيل «1805 - 1859» جمع بين نبل النسب وارستقراطية القلم، نذر نفسه للدفاع عن المصالح العليا لفرنسا المهزوزة الأسس داخليا والمخذولة دوليا.
- رمى بكامل ثقله المعنوي والفكري من أجل تمرير فكرة حتمية احتلال الجزائر وتسويغ ضرورة مأسسة الحملة العسكرية، وتحويلها إلى مشروع استعمار استيطاني سيتحول مع الوقت إلى كابوس مرعب لم تتخلص فرنسا من ويلاته المربكة إلى اليوم.
- تأتي هذه التقارير والرسائل المترجمة إلى العربية «كوصفة طبية»، تستكتب بكل وقاحة الديمقراطية والاستعمار الاستيطاني كدواءين ناجعين لتحضير «الآخر المتوحش»، واستدراجه إلى حظيرة الإنسانية «المترقية» ولو باستعمال القوة ضده.
- يلاحظ القارئ مدى استخفاف طوكفيل في تعامله مع الآخر، وكيف أنه لم يخجل كمثقف ليبرالي من التضحية بمبدأ «أخلاقية القناعة» للتستر جبنا ونفاقا وراء مبدأ «أخلاقية المسؤولية» شيمة ما سيفعله «كامو ألبرت» لما فضل الدفاع عن أمه «فرنسا» والتنكر للحرية العزيزة على نفوس المثقفين الحقيقيين.
- عسى أن تأتي هذه الرسائل كبلسم لجراحاتنا المؤلمة، وكدعوة إلى ضرورة مراجعة تاريخ الجزائر وإعادة كتابته مجددا إذ هل من حرية فعلية بدون تحرير التاريخ؟
المترجـم في سطـور
- البروفيسور علي زيكي أستاذ التعليم العالي بمعهد الترجمة جامعة الجزائر «2»، متخصص في الفلسفة.
- له عدة دراسات وأبحاث أكاديمية حول بعض مشكلات الفلسفة الإسلامية، وعلاقاتها المتوترة بالدين والسياسة وبالفلسفة الإغريقية.
- شارك في العديد من الملتقيات العلمية الوطنية والدولية، تناولت البحوث المقدمة علاقة الفلسفة بالعلوم الاجتماعية والعلوم الوضعية وبالفن.
- رمى بسهمه ضمن السهام الكثيرة المتناولة لتصوف الأمير عبد القادر من منظور مواقفه المستنيرة من الفلسفة ومن قضايا عصره المتأجج بنيران الحروب، هذه الأبحاث هي قيد الجمع والتحرير لتطبع لاحقا.