الكتابات التّاريخية عند بن يوسف بن خدة: ماذا أضافت للذاكرة الوطنية؟ هذا هو موضوع الاشكالية التي طرحها الدكتور محمد ودوع من جامعة الجزائر 2 قسم التاريخ، في مقاله الصادر بمجلة تاريخ المغرب العربي التابعة لمخبر الوحدة المغاربية عبر التاريخ، قائلا إنّ الاهتمام بالدراسات التاريخية التي تتناول تاريخ الثورة الجزائرية هي التفاتة جاءت في وقتها، خاصة مع شح الكتابات التي تناولت تاريخ هذه الفترة بأقلام جزائرية، مضيفا أن مرحلة الحركة الوطنية بالنظر الى ما كتب عنها الجزائريون يعد قليلا جدا، وتستدعي ضرورة الاهتمام بتاريخ هذه المرحلة والإسراع في كتابته.
وحسب صاحب المقال فإنّ الاستمرار في العزوف عن كتابة تاريخ هذه الفترة على أهميتها لم يعد له ما يبرّره، فمرور أكثر من خمسين عاما على نهاية الثورة واستقلال الجزائر عامل يساعد على الاهتمام بتاريخ هذه المرحلة بعيدا عن الكتابات الوردية التي طغت على الكثير من الكتابات السابقة، وفضلا عن كتابة تاريخ هذه المرحلة اليوم أضحى أكثر من واجب فهو ضرورة يطلبها واقع بناء الدولة الجزائرية المستقلة، أضاف يقول.
وأبرز في هذا الإطار، أنّ العزوف عن كتابة تاريخ هذه المرحلة يعني ترك المجال الى الكتابات الأجنبية وخاصة الفرنسية (الاستعمارية)، منها التي تناولت ولا تزال تتناول مرحلة تاريخ الثورة الجزائرية بروح استعمارية فيها الكثير من العنصرية والاستعلاء، مشيرا إلى أنه في بعض الكتب مجرّد «أحداث»، وفي كتب أخرى تسمى بمرحلة التهدئة، وفي أفضل التوصيف لمرحلة الثورة الجزائرية، فهي لا تعدو مجرد حرب.
وأضاف ودوع: «وهذا ما يعطي لتنظيم مثل هذه الملتقيات أهمية كبيرة خاصة بعد ظهور مؤخرا الحديث عن الذّاكرة المزدوجة أو الذّاكرة المشتركة بين تاريخ الجزائر المستعمرة وتاريخ فرنسا المستعمرة»، متسائلا إذا كانت كتابة تاريخ كفاح الشعب الجزائري هي نفسها كتابة تاريخ الاستعمار الفرنسي؟ وهل ذاكرة الجلاد هي نفسها ذاكرة الضحية؟ وغيرها من الأسئلة.
وقال أيضا أنّها استمرارية الحرب في ثوب جديد، حرب تستهدف ذاكرة الشعب الجزائري اليوم ومستقبلا بعد أن فشلت في النيل منه بالأمس في ميدان الكفاح والتحرير، وهنا تكبر مسؤولية المؤرخين والباحثين وحتى المهتمين بمجال تدوين الذاكرة الوطنية من مؤسسات رسمية وخاصة الأكاديمية منها، ذلك أن تحرير التاريخ وتقويم الذاكرة هي عملية مكملة لمعركة التحرير.
وحسبه فإنّ تطهير الذاكرة من الشكوك والسموم هي مسؤولية الجميع، وإن كانت من مهام المؤرخ بالدرجة الأولى، الذي يجب أن يقوم بهذا المهام من خلال بناء الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري، ومحاولة تفعيل الصورة النمطية للروح الوطنية وقوة التماسك وحب التضحية التي كانت عليها الجزائر أيام ثورة التحرير، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا ببناء مجتمع قوي عارف لماضيه، وواع بتاريخه دارك لحاضره متطلع لبناء مستقبله وتحقيق ذلك يتوقف على مدى الاستفادة من تجاربه الماضية.
وفي هذا الإطار، سارع المهتمّون بكتابة تاريخ الجزائر لإنقاذ ما أمكن إنقاذه، وذلك بالمساهمة في تدوين ذاكرة الشعب الجزائري، وفي هذا المجال جاءت كتابات بن يوسف بن خدة الذي يعتبر من القادة السياسيين الجزائريين القلائل، الذين اهتموا بالكتابة التاريخية، فقد خلف عدة مؤلفات عالج من خلالها العديد من القضايا المهمة في تاريخ الجزائر المعاصر، لاسيما مرحلة الثورة الجزائرية منها كتاب «نهاية حرب التحرير في الجزائر - اتفاقيات ايفيان» الصادر سنة 1986، «جذور أول نوفمبر 1954» صدر سنة 1989، «الجزائر عند الاستقلال - أزمة 1962» الصادر سنة 1997، «عبان - بن مهيدي ومساهمتهما في الثورة» سنة 2000 وغيرها من الكتب.
وبهذه المؤلفات يعتبر بن خدة رائدا في مجال الكتابة التاريخية، مقارنة بأترابه من مناضلين وقادة ومسؤولين خلال مرحلة النضال السياسي وإبان الثورة التحريرية، ويجاريه المناضل الكبير امحمد يوسفي الذي أولى اهتماما كبيرا لمجال التأليف التاريخي وأثرى المكتبة التاريخية برصيد، مشيرا إلى أن جل مؤلفات بن خدة صدرت باللغة الفرنسية ثم ترجمت بعضها إلى اللغة العربية، ماعدا كتابه الأخير «شهادات ومواقف» الذي صدر بالعربية.
دعا إلى الابتعاد عن العامل السّلبي للتّاريخ
ومن الدوافع التي أدّت به إلى الكتابة - حسب الأستاذ الجامعي - هي ردود فعل على مؤلفات سبقت أو تصريحات أدليت، فأراد من خلال ذلك تصحيح خطأ أو توضيح أو إبراز موقف، فهو يصف الكتابة التاريخية بمثابة رسالة لابد من إبلاغها للأجيال، وواجب وطني لا يقل شأنا عن واجب الكفاح، ولم تأت كتاباته لتصفية حسابات سياسية كما يدّعي البعض. كما امتازت كتاباته بالهدوء حاول من خلالها معالجة قضايا شائكة وحساسة، عرفتها مسيرة النضال السياسي ومرحلة الكفاح المسلح.
كان يدعو في كل كتاباته إلى وجوب الابتعاد عمّا وصفه بالعامل السلبي للتاريخ، وذلك بتجنب توظيف هذا الاخير لتصفية حسابات ضد أشخاص لا يكنّون لهم نفس المشاعر أو ضد الخصوم السياسيين أو يستغل فرصة للتزوير بسبب نظرة ذاتية، كل القضايا التي كتب عنها غاب فيها ضمير الأنا إذ لم يكتب عن شخصه بل كتب عن قضايا حاسمة من تاريخ الشعب الجزائري، أي أنّه كتب عن سيرة وطن وليس عن سيرته الشخصية.
وبالمقابل أشار الكاتب إلى أنّ كتابات بن خدة في غالبها جاءت عامة تحاشى صاحبها الخوض في تفاصيل الأحداث للقضايا التي كتب عنها، الأمر الذي جعل البعض يصفها بأنّها شحيحة وفقيرة من حيث المعلومات، قائلا: «إذ رغم أنّه كتب عن مراحل عاشها وعن قضايا كان طرفا فاعلا فيها إلاّ أنّ طابع التحفظ بدا واضحا على جل كتاباته، إنّ بن خدة الذي ردّ عن أساريس وأبدى شجاعة في الدفاع عن عبان رمضان وكتب عن قضايا جد حساسة في تاريخ الثورة الجزائرية غابت عنه الشجاعة للإفصاح عن الكثير من القضايا التي عايشها عن قرب».
لكن استطرد قائلا إن التحفظ الذي ورد في كتابات بن خدة، مردّها حرصه في التحري عن الحقيقة التاريخية مبتعدا عن الشكوك، فالكتابة التاريخية بالنسبة اليه أمانة وكاتبها لابد أن يلتزم الصدق والتحري، فهو كان يكتب للأجيال القادمة التي باتت مهددة بالنسيان، ويكتب للوطن الذي أضحى في أشد الحاجة لاستلهام العبر من تجارب الماضي، لذلك دعا إلى ضرورة إدراك أهمية التاريخ في حياة الشعوب كون كتابة التاريخ هي استمرارية للنضال الوطني.